من التاريخ: آندرو جاكسون.. الرئيس والبطل القومي الأميركي

من التاريخ: آندرو جاكسون.. الرئيس والبطل القومي الأميركي
TT

من التاريخ: آندرو جاكسون.. الرئيس والبطل القومي الأميركي

من التاريخ: آندرو جاكسون.. الرئيس والبطل القومي الأميركي

لم أتوقف أمام سيرة أي رئيس أميركي كما توقفت أمام شخصية آندرو جاكسون، هذا الرجل الذي نراه كثيرًا على فئة الورقة المالية للعشرين دولار، ولكن غالبيتنا لا تعرف حقيقة هذا الرجل وتراثه السياسي ودوره في بناء الولايات المتحدة الحديثة.
إنه رجل المتناقضات الذي دفعه القدر لقيادة بلاده في فترة صعبة للغاية ليصبح الرئيس السابع للولايات المتحدة، ولكن رئاسته مثلت فترة مهمة في مرحلة البناء السياسي للبلاد. ويكفي أنه يُعد المؤسس الحقيقي للحزب الديمقراطي، كما أنه كان أول رئيس أميركي يكون هدفه الأساسي الاهتمام بمصلحة الطبقات الدنيا والمتوسطة. وفي عهده أيضًا تم إقرار مبادئ مهمة، على رأسها مسألة إزاحة السكان الأصليين (الهنود الحمر) من أراضيهم لصالح ما وصفه بأنه «المدنية والحضارة والحرية».
لقد ولد جاكسون لأب آيرلندي من الطبقات الدنيا كان هاجر إلى أميركا بحثًا عن حياة أفضل، ولكن القدر لم يمهله لرؤية ولده الثالث آندرو، إذ وافته المنية عندما كانت زوجته حاملاً. كذلك لم يبتسم القدر للشاب آندرو إذ إن «حرب الاستقلال»، التي قادتها الولايات الأميركية ضد بريطانيا لنيل الاستقلال، كلفته حياة أمه وأخويه على أيدي البريطانيين، وهو ما خلق بداخله كراهية شديدة لكل ما هو بريطاني، وخصوصا كل ما هو إنجليزي. ولقد واجه الشاب جاكسون وهو دون سن الخامسة عشرة مصيرًا مظلمًا بلا أهل ولا مال، إلا أنه استطاع أن يُعلم نفسه فيغدو حقوقيًا، وسرعان ما عيّن في النيابة العامة وأرسل في سن مبكرة إلى مدينة ناشفيل، عاصمة ولاية تينيسي، التي بدأ فيها مشواره السياسي والعسكري والعاطفي. فهناك أحب امرأة متزوجة وهرب معها ثم تزوّجها بعدما ظن أن زوجها قد طلقها، وهو ما لم يحدث على الورق؛ إذ إنه حصل فقط على حق مقاضاتها للطلاق منها، ولكن تم تطليقها رسميًا وهي زوجة جاكسون. وهكذا، كانت زوجته نقطة ضعفه في أغلب الأحيان سواء في مشواره السياسي أو الاجتماعي بعدما لفظتها سيدات المجتمع الأخرى واتهمنها في عرضها وسلوكها. وهو ما أدى إلى دخوله في مواجهات مسلحة لرد الإهانة عن زوجته، ما كاد يودي بحياته بعدما أصيب إصابة بالغة في الصدر جراء هذا النزاع ولولا لطف القدر به لمات.
بدأ جاكسون مشواره السياسي بالترشح عن ولايته لمجلس النواب الأميركي وعلى الرغم من نجاحه، فإنه لم يكن سعيدًا في الكونغرس – حيث خدم في مجلسي النواب والشيوخ – وسط المؤامرات والمبادلات السياسية التي اعتقد أنها لا تتناسب مع شخصيته المتهورة والتصادمية وعشقه المراهنات والقمار، وهو ما دفعه للاستقالة والهروب بعيدًا عن هذا الجو ليعود إلى زوجته لبناء حياته ومزرعة الخيل التي طالما حلم بها.
بيد أن الخطوة التالية التي صاغها له القدر وأحبها كثيرًا، كانت تعيينه قائدًا عامًا لميليشيات ولاية تينيسي ومنحه لقب «جنرال» على الرغم من أن تاريخه العسكري لم يزكيه لمنصب كهذا، إذ إنه لم يكن صاحب خبرة إلا في محاربة الهنود الحمر فقط. ذلك أنه لم يتمرس في جيش نظامي ولم يشارك في أي معارك واسعة. لكن الرجل كان حازمًا وقويًا وعنيدًا وشجاعًا، كما أن ذكرياته عن حرب الاستقلال عندما عمل ناقلاً للمراسلات في سن الثالثة عشرة بين الجيوش ساعدته كثيرًا على تقبل مفهوم الحرب، وقد أحبه جنوده حبًا كبيرًا رغم صلابته وعنفه ودانوا له بالولاء التام.
وركّز جاكسون جهده نحو الهنود الحمر فدخل في سلسلة من الحروب ضدهم في ولاية آلاباما وهزم قبائلهم ومنها الشيروكي والشوكتو والكريك، واستطاع أن يضم أراضي جديدة للولايات المتحدة ويتوسّع على حسابهم. وهذا ما ترك بداخله قناعة ظهرت بعد ذلك عندما كان رئيسًا للولايات المتحدة، وذلك بالنظر إلى هذه القبائل على أنها لا مكان لها في المجتمع الأميركي المتحضر وضرورة عدم مزج العنصرين الأبيض والأحمر ومن ثم ضرورة إيجاد حياة منفصلة.
ومن ناحية أخرى، لعل أهم حدث في حياة جاكسون حتى ذلك التاريخ كان تكليفه برد الحملة البريطانية على مدينة نيو أورليانز بأقصى جنوب البلاد خلال الحرب الأميركية - البريطانية التي اندلعت عام 1812. وهنا أيضًا استطاع جاكسون ببراعة شديدة بناء هيكل عسكري من الأميركيين البيض والهنود الحمر والعبيد السود، كما تحالف مع القراصنة لخلق جبهة تستطيع الصمود أمام الغزو البريطاني للمدينة. وبالتالي، استطاع تنظيم دفاعاته أمام البحرية الأميركية وقلب ميزان المواجهة. وهو ما منحه هو والولايات المتحدة أقوى نصر لها في تاريخها العسكري أمام أقوى جيش في العالم، إذ استطاع في 1814 صد الحملة وتكبيد البريطانيين ما يربو على ألفي قتيل، بينما لم يسقط من جيشه سوى ثمانية أفراد فقط بسبب رجاحة خطته الدفاعية وتحريك مدافعه بشكل منظم، وهو ما جعل عموم الأميركيين يعتبرونه «بطلاً قوميًا» وصاحب الانتصار العظيم الذي أعاد العزة للبلاد بأقل تكلفة.
وعقب ذلك صدرت التوجيهات لجاكسون في 1815 لحماية الحدود الجنوبية للبلاد في ولاية فلوريدا بعد أن أخذت تتعرض لاختراقات من قبل الهنود الحمر من قبائل السمينول الذين كانوا يعبرون الحدود للإغارة على المستعمرين الأميركيين. وللعلم، وفي ذلك الوقت كانت فلوريدا رسميًا تحت حكم إسبانيا ولم تكن جزءًا من الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن التعليمات الصادرة له كانت واضحة وصارمة، وهي حماية ومراقبة الحدود، لم يأبه جاكسون بها، بل حمل بجيشه لمواجهة تجمع القبائل ضد التعليمات وأباد مقاتليهم عن بكرة أبيهم ليحتل فلوريدا. وفي الطريق وجد اثنين من البريطانيين اتهمهما بالعمالة للندن وقام بإعدامهما على الفور بسبب كراهيتهما الشديدة لبلادهما من دون اتخاذ الإجراءات القانونية للمحاكمة العادلة وقواعد الحرب، وهو ما أثار حفيظة الساسة في واشنطن. إلا أن الرجل لم يأبه، خاصة بعد انتصار معركة نيو أورليانز، وبالتالي، باءت كل محاولات عزله بالفشل، إذ لم يستطع الرئيس – يومذاك – جيمس مونرو عزل «البطل القومي» الأميركي.
وعاد «البطل» جاكسون مكلّلاً بالنصر إلى زوجته وولايته تينيسي بعد انتهاء الحملات العسكرية، وشيّد مزرعة كبيرة في الولاية لتربية الخيل والزراعة وأسماها «الهيرميتدج» (أي المنسك) وعاش فيها مع زوجته سنوات إلى أن قرّر أن الوقت أصبح مناسبًا للترشح لمنصب الرئيس.
ولقد خاض معركة الرئاسة عام 1824 ضد جون كوينسي آدامز، ابن الرئيس جون آدامز، ثاني رؤساء الولايات المتحدة وأحد واضعي الدستور الأميركي. وكانت هذه المواجهة في حقيقة الأمر تمثل واقع المجتمع الأميركي، إذ إن جاكسون كان يمثل الطبقة الكادحة والرجل العصامي الذي صنع نفسه بنفسه بلا أي خلفية علمية أو عسكرية أو اجتماعية أمام رجل متعلم – تخرّج في هارفارد وجامعة لايدن في هولندا – من أبناء الطبقة الأرستقراطية وذي خلفية سياسية ودبلوماسية واسعة (سيناتور وسفير ووزير خارجية). ونتيجة لأن توزّع الأصوات على أكثر من مرشحين حالت دون حصول جاكسون على الغالبية المطلقة – مع أنه تقدم على آدامز بعدد الأصوات الشعبية – فقد حسم مجلس النواب التصويت فانتخب آدامز. لكن الظروف تغيرت في السباق التالي عام 1828. وثأر جاكسون من غريمه وفاز بالرئاسة، لا سيما بعدما منح الكونغرس حق الانتخاب الحر المباشر للرجال، وهو ما فتح المجال أمام محبوب الطبقة الوسطى ليتولى منصب رئيس الجمهورية برغم حملات التشهير التي نالت من زوجته ومن شرفه.
وبُعيد الانتصار الكبير لم يسعد جاكسون طويلاً بإنجازه؛ إذ توفيت رفيقة كفاحه متأثرة بأزمة صحية وبات الرجل وحيدًا لا يعرف إلا الوحدة بعدها. ولقد ظل على إخلاصه لها إلى أن مات ودفن بجوارها، ولكن هذا لم يقلل من عزمه على ترك بصمته في السياسة الأميركية لقرون تالية كما سنرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.