لم أتوقف أمام سيرة أي رئيس أميركي كما توقفت أمام شخصية آندرو جاكسون، هذا الرجل الذي نراه كثيرًا على فئة الورقة المالية للعشرين دولار، ولكن غالبيتنا لا تعرف حقيقة هذا الرجل وتراثه السياسي ودوره في بناء الولايات المتحدة الحديثة.
إنه رجل المتناقضات الذي دفعه القدر لقيادة بلاده في فترة صعبة للغاية ليصبح الرئيس السابع للولايات المتحدة، ولكن رئاسته مثلت فترة مهمة في مرحلة البناء السياسي للبلاد. ويكفي أنه يُعد المؤسس الحقيقي للحزب الديمقراطي، كما أنه كان أول رئيس أميركي يكون هدفه الأساسي الاهتمام بمصلحة الطبقات الدنيا والمتوسطة. وفي عهده أيضًا تم إقرار مبادئ مهمة، على رأسها مسألة إزاحة السكان الأصليين (الهنود الحمر) من أراضيهم لصالح ما وصفه بأنه «المدنية والحضارة والحرية».
لقد ولد جاكسون لأب آيرلندي من الطبقات الدنيا كان هاجر إلى أميركا بحثًا عن حياة أفضل، ولكن القدر لم يمهله لرؤية ولده الثالث آندرو، إذ وافته المنية عندما كانت زوجته حاملاً. كذلك لم يبتسم القدر للشاب آندرو إذ إن «حرب الاستقلال»، التي قادتها الولايات الأميركية ضد بريطانيا لنيل الاستقلال، كلفته حياة أمه وأخويه على أيدي البريطانيين، وهو ما خلق بداخله كراهية شديدة لكل ما هو بريطاني، وخصوصا كل ما هو إنجليزي. ولقد واجه الشاب جاكسون وهو دون سن الخامسة عشرة مصيرًا مظلمًا بلا أهل ولا مال، إلا أنه استطاع أن يُعلم نفسه فيغدو حقوقيًا، وسرعان ما عيّن في النيابة العامة وأرسل في سن مبكرة إلى مدينة ناشفيل، عاصمة ولاية تينيسي، التي بدأ فيها مشواره السياسي والعسكري والعاطفي. فهناك أحب امرأة متزوجة وهرب معها ثم تزوّجها بعدما ظن أن زوجها قد طلقها، وهو ما لم يحدث على الورق؛ إذ إنه حصل فقط على حق مقاضاتها للطلاق منها، ولكن تم تطليقها رسميًا وهي زوجة جاكسون. وهكذا، كانت زوجته نقطة ضعفه في أغلب الأحيان سواء في مشواره السياسي أو الاجتماعي بعدما لفظتها سيدات المجتمع الأخرى واتهمنها في عرضها وسلوكها. وهو ما أدى إلى دخوله في مواجهات مسلحة لرد الإهانة عن زوجته، ما كاد يودي بحياته بعدما أصيب إصابة بالغة في الصدر جراء هذا النزاع ولولا لطف القدر به لمات.
بدأ جاكسون مشواره السياسي بالترشح عن ولايته لمجلس النواب الأميركي وعلى الرغم من نجاحه، فإنه لم يكن سعيدًا في الكونغرس – حيث خدم في مجلسي النواب والشيوخ – وسط المؤامرات والمبادلات السياسية التي اعتقد أنها لا تتناسب مع شخصيته المتهورة والتصادمية وعشقه المراهنات والقمار، وهو ما دفعه للاستقالة والهروب بعيدًا عن هذا الجو ليعود إلى زوجته لبناء حياته ومزرعة الخيل التي طالما حلم بها.
بيد أن الخطوة التالية التي صاغها له القدر وأحبها كثيرًا، كانت تعيينه قائدًا عامًا لميليشيات ولاية تينيسي ومنحه لقب «جنرال» على الرغم من أن تاريخه العسكري لم يزكيه لمنصب كهذا، إذ إنه لم يكن صاحب خبرة إلا في محاربة الهنود الحمر فقط. ذلك أنه لم يتمرس في جيش نظامي ولم يشارك في أي معارك واسعة. لكن الرجل كان حازمًا وقويًا وعنيدًا وشجاعًا، كما أن ذكرياته عن حرب الاستقلال عندما عمل ناقلاً للمراسلات في سن الثالثة عشرة بين الجيوش ساعدته كثيرًا على تقبل مفهوم الحرب، وقد أحبه جنوده حبًا كبيرًا رغم صلابته وعنفه ودانوا له بالولاء التام.
وركّز جاكسون جهده نحو الهنود الحمر فدخل في سلسلة من الحروب ضدهم في ولاية آلاباما وهزم قبائلهم ومنها الشيروكي والشوكتو والكريك، واستطاع أن يضم أراضي جديدة للولايات المتحدة ويتوسّع على حسابهم. وهذا ما ترك بداخله قناعة ظهرت بعد ذلك عندما كان رئيسًا للولايات المتحدة، وذلك بالنظر إلى هذه القبائل على أنها لا مكان لها في المجتمع الأميركي المتحضر وضرورة عدم مزج العنصرين الأبيض والأحمر ومن ثم ضرورة إيجاد حياة منفصلة.
ومن ناحية أخرى، لعل أهم حدث في حياة جاكسون حتى ذلك التاريخ كان تكليفه برد الحملة البريطانية على مدينة نيو أورليانز بأقصى جنوب البلاد خلال الحرب الأميركية - البريطانية التي اندلعت عام 1812. وهنا أيضًا استطاع جاكسون ببراعة شديدة بناء هيكل عسكري من الأميركيين البيض والهنود الحمر والعبيد السود، كما تحالف مع القراصنة لخلق جبهة تستطيع الصمود أمام الغزو البريطاني للمدينة. وبالتالي، استطاع تنظيم دفاعاته أمام البحرية الأميركية وقلب ميزان المواجهة. وهو ما منحه هو والولايات المتحدة أقوى نصر لها في تاريخها العسكري أمام أقوى جيش في العالم، إذ استطاع في 1814 صد الحملة وتكبيد البريطانيين ما يربو على ألفي قتيل، بينما لم يسقط من جيشه سوى ثمانية أفراد فقط بسبب رجاحة خطته الدفاعية وتحريك مدافعه بشكل منظم، وهو ما جعل عموم الأميركيين يعتبرونه «بطلاً قوميًا» وصاحب الانتصار العظيم الذي أعاد العزة للبلاد بأقل تكلفة.
وعقب ذلك صدرت التوجيهات لجاكسون في 1815 لحماية الحدود الجنوبية للبلاد في ولاية فلوريدا بعد أن أخذت تتعرض لاختراقات من قبل الهنود الحمر من قبائل السمينول الذين كانوا يعبرون الحدود للإغارة على المستعمرين الأميركيين. وللعلم، وفي ذلك الوقت كانت فلوريدا رسميًا تحت حكم إسبانيا ولم تكن جزءًا من الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن التعليمات الصادرة له كانت واضحة وصارمة، وهي حماية ومراقبة الحدود، لم يأبه جاكسون بها، بل حمل بجيشه لمواجهة تجمع القبائل ضد التعليمات وأباد مقاتليهم عن بكرة أبيهم ليحتل فلوريدا. وفي الطريق وجد اثنين من البريطانيين اتهمهما بالعمالة للندن وقام بإعدامهما على الفور بسبب كراهيتهما الشديدة لبلادهما من دون اتخاذ الإجراءات القانونية للمحاكمة العادلة وقواعد الحرب، وهو ما أثار حفيظة الساسة في واشنطن. إلا أن الرجل لم يأبه، خاصة بعد انتصار معركة نيو أورليانز، وبالتالي، باءت كل محاولات عزله بالفشل، إذ لم يستطع الرئيس – يومذاك – جيمس مونرو عزل «البطل القومي» الأميركي.
وعاد «البطل» جاكسون مكلّلاً بالنصر إلى زوجته وولايته تينيسي بعد انتهاء الحملات العسكرية، وشيّد مزرعة كبيرة في الولاية لتربية الخيل والزراعة وأسماها «الهيرميتدج» (أي المنسك) وعاش فيها مع زوجته سنوات إلى أن قرّر أن الوقت أصبح مناسبًا للترشح لمنصب الرئيس.
ولقد خاض معركة الرئاسة عام 1824 ضد جون كوينسي آدامز، ابن الرئيس جون آدامز، ثاني رؤساء الولايات المتحدة وأحد واضعي الدستور الأميركي. وكانت هذه المواجهة في حقيقة الأمر تمثل واقع المجتمع الأميركي، إذ إن جاكسون كان يمثل الطبقة الكادحة والرجل العصامي الذي صنع نفسه بنفسه بلا أي خلفية علمية أو عسكرية أو اجتماعية أمام رجل متعلم – تخرّج في هارفارد وجامعة لايدن في هولندا – من أبناء الطبقة الأرستقراطية وذي خلفية سياسية ودبلوماسية واسعة (سيناتور وسفير ووزير خارجية). ونتيجة لأن توزّع الأصوات على أكثر من مرشحين حالت دون حصول جاكسون على الغالبية المطلقة – مع أنه تقدم على آدامز بعدد الأصوات الشعبية – فقد حسم مجلس النواب التصويت فانتخب آدامز. لكن الظروف تغيرت في السباق التالي عام 1828. وثأر جاكسون من غريمه وفاز بالرئاسة، لا سيما بعدما منح الكونغرس حق الانتخاب الحر المباشر للرجال، وهو ما فتح المجال أمام محبوب الطبقة الوسطى ليتولى منصب رئيس الجمهورية برغم حملات التشهير التي نالت من زوجته ومن شرفه.
وبُعيد الانتصار الكبير لم يسعد جاكسون طويلاً بإنجازه؛ إذ توفيت رفيقة كفاحه متأثرة بأزمة صحية وبات الرجل وحيدًا لا يعرف إلا الوحدة بعدها. ولقد ظل على إخلاصه لها إلى أن مات ودفن بجوارها، ولكن هذا لم يقلل من عزمه على ترك بصمته في السياسة الأميركية لقرون تالية كما سنرى.
من التاريخ: آندرو جاكسون.. الرئيس والبطل القومي الأميركي
من التاريخ: آندرو جاكسون.. الرئيس والبطل القومي الأميركي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة