أضاف التدخل الروسي في الأزمة السورية مزيدًا من إحساس الشعوب العربية بالغموض والحيرة والانقسام بشأن عملية صنع القرار في روسيا، ودوافع السياسة الخارجية الروسية عمومًا وبشأن الشرق الأوسط خصوصًا.
يبدو المشهد الثقافي العربي في مجمله مفتقرًا إلى مصادر للمعلومات عن تلك الدولة الكبرى أو زعيمها فلاديمير بوتين، باستثناء نشرات الأخبار العابرة وبعض التحاليل الصحافية التي تتسم بكثير من التسطيح والبروباغندا رغم أهمية روسيا الجيوبوليتكية الدائمة والمتزايدة، وهو أمر لم يكن ربما ذا أهمية لغير المتخصصين في العالم العربي إلى أن بدأت الطائرات الروسية بشن غارات يومية في الشمال السوري دعمًا للنظام هناك.
من هنا يأتي كتاب المراسل الصحافي جمال دملج الصادر حديثًا في بيروت بوصفه خطوة في الاتجاه الصحيح لبناء فهم معمق عن الحالة الروسية في هذه اللحظات المفصلية من تاريخ الشرق الأوسط والعالم. دملج غطى الأحداث العالمية لقنوات الجزيرة وأبوظبي وغيرها لأربعة عقود وكان شاهدًا حيًا على مرحلة صعود نجم بوتين وإحكامه السيطرة على مفاصل الحياة الروسية من خلال عمله كمراسل تلفزيوني من موسكو وهو ما مكنه من أن يكون شاهد عيان على المرحلة (البوتينية).
قبل التاسع من أغسطس (آب) عام 1999 لم يكن أحد في العالم تقريبًا قد سمع بفلاديمير بوتين. في مساء ذلك اليوم الصيفي أعلن الرئيس الروسي المتداعي بوريس يلتسن عن تعيين هذا الرجل الغامض كخامس رئيس للوزراء في البلاد خلال أقل من سنة ونصف، وبعدها بأربعة ٲشهر كان يلتسن يتقدم باستقالة ميليودارمية على شاشات التلفزيون ليتولى من بعده بوتين المنصب الأعلى في البلاد كثاني رئيس لروسيا الاتحادية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي.
يندرج كتاب دملج هنا في إطار اتجاه عام في كثير من صحافة الغرب التي تحاول التركيز أساسا على العوامل الذاتية المتعلقة بشخص الرئيس بوتين لتفسير صعوده ومحاولة وضع نظرية تعطى معنى ما للسياسة الخارجية الروسية يمكن من خلالها توقع اتجاه الأحداث مستقبلا وهو في هذا الإطار يقدم الرجل في كادر من النجومية ويضع سياسة روسيا تحت مظلة ما يدعوه دملج بالبوتينية بوصفها سياسة متكاملة نتاج عقد ونصف من الحضور المتزايد الأهمية لروسيا في المسرح العالمي. ولا شك أن المعلومات الشيقة التي يقدمها دملج عبر شهادته الحية ومتابعاته الصحافية المحترفة تساعد المتابع على فهم المخاضات السياسية والثقافية والحراك الاجتماعي الذي تعيشه روسيا في هذه المرحلة من تطورها التاريخي، وهي مرحلة شهدت تحولات انتقال داخلية هائلة منذ سقوط التجربة السوفياتية، ورافقها أيضًا النشوء المشوه لنظام عالمي جديد وهيمنة القطب الواحد.
يبدأ الفصل الأول من الكتاب بنفس دفاعي عن نشأة الرئيس بوتين (ولد في لينينغراد في 1952) ويضعه في مواجهة محور شر من الأوليغارشية الروسية التي سرقت روسيا بعد سقوط الدولة السوفياتية واستدعى ارتباطاتها المعروفة بإسرائيل واليهود والجماعات الإرهابية الشيشانية. لا شك بالطبع بأن مناخ الفوضى الذي ساد فترة حكم الرئيس يلتسن وتغول مصالح الأوليغارشية الروسية كان الممر اللازم لصعود بوتين، ولكننا يجب ألا ننسى أن بوتين نفسه كان ابن منظومة أوليغارشيين آخرين كانت ترى أن مصالحها طويلة المدى ليست في تدمير الأمة الروسية وامتصاص دمها بل في إنجاز قيام دولة قوية ونظام قانوني معاصر كما في معظم دول الغرب. وهو كان بمثابة الرجل مناسب في المكان المناسب. خدمته في جهاز الاستخبارات الروسية منحته الخلفية اللازمة لفهم طريقة عمل مراكز القوى في روسيا، وعمله في جهاز استخبارات يلتسن وقبله في مكتب عمدة لينينغراد أناتولي سوبشاك المعروف بعدائه الشديد للمرحلة السوفياتية جعله مقربًا من مطبخ إدارة الأمور في موسكو ليكون بمثابة استجابة قوية للضرورة التي فرضت نفسها على النخبة الروسية في ذلك الحين لقيام ديكتاتورية سياسية، توقف النزيف وتطلق روسيا رأسمالية قوية في فضاء العولمة «فليس لروسيا خيار غير ذلك» كما قال بيتر آفن - الرئيس التنفيذي لأكبر بنك تجاري روسي في تصريح له لصحيفة «الغارديان» البريطانية عام 2000.
يتوسع الفصل الثاني من الكتاب في الحديث عن المسألة الشيشانية وهي الحرب التكوينية لصورة بوتين في الحكم وهذا يفسر ربما المساحة الواسعة التي قدمها دملج لسرد معلومات وخبرات شخصية عن تلك المرحلة. لقد نجح بوتين في صياغة أسطورته الشخصية كرجل دولة قوي - نابليون جديد - من خلال إدارته الحازمة في مواجهة تمرد محلي في جمهورية الشيشان السوفياتية السابقة - كاد بسبب دعم بعض الأوليغارشيين الروس وأجهزة مخابرات خارجية في صراع الحرب على المصالح - كاد أن يتحول إلى انهيار شامل في حدود روسيا الجنوبية وبالتالي خطر إفقاد الرئيس بوتين شخصيًا أي احترام في ذهن المواطن الروسي العادي.
الفصل الثالث ينتقل إلى الأزمة الأوكرانية فيما بعد بوصفها إحدى المحطات الأساسية التي قدمت إدارة الرئيس بوتين للعالم بكونه الرجل الذي حطم أحلام الهيمنة الأميركية على العالم وأظهر محدودية القوة العسكرية الأميركية وأسقط وهم الإمبراطورية المعولمة ذات القطب الأوحد. لكن نقطة التحول في المسرح الدولي كانت الأزمة الجورجية - التي اختار دملج أن يقدمها في الفصل السادس، ففي أواخر صيف 2008 تم سحق القوات الجورجية المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل في حرب وجيزة لكنها دامية عندما أمر بوتين قواته باجتياح أوسيتيا الجنوبية. ورغم التهديدات والإنذارات التي أطلقها زعماء الغرب حينئذ، لم تجرؤ السفن الحربية الأميركية على الاقتراب حتى لتفريغ الإمدادات في الموانئ الجورجية بسبب خطر حدوث مواجهة مباشرة مع القوات الروسية التي كانت قد اتخذت تشكيلاً هجوميًا. كانت هذه الحرب الخاطفة بمثابة نقطة تحول هائلة في مواجهة أوهام القوة الأميركية ووأدت نظرية نهاية التاريخ - ربما بغير رجعة وهو ما بنى رصيدًا ضخمًا لبوتين في الإحساس القومي الروسي المتعطش لأي انتصار بعد عقدين من الخيبات. تكرر المشهد مرّة أخرى، لكن هذه المرة باستعادة شبه جزيرة القرم للحكم الروسي المباشر ودعم الانفصاليين في دونباس وغرب أوكرانيا، وهو ما كرّس صورة بوتين محليّا بوصفه بطلاً قوميًا للأمة الروسية. يقدم دملج هنا نظريات بعضها مثير للاهتمام في تفسير تطور الأحداث في إطار الصراع العالمي على مصادر الطاقة والغاز، ويفسر التحولات في تركيا والشرق الأوسط وأوكرانيا بوصفها جزءا من هذا الصراع العالمي بين القوى الرأسمالية الكبرى، وهو ما يمتد إلى الفصل الرابع عند حديثه عن الربيع العربي إذ يبني تفسيره للأحداث على مقالة يتيمة - لكنها هامة بالطبع - لرالف بيترز التي دعا فيها إلى إزالة الحدود المصطنعة في الشرق الأوسط لمصلحة «حدود الدم» القائمة على أساس الطوائف والأعراق.
ٲما في الفصل الأخير فيستشرف المؤلف نجاح بوتين في حسم معركة الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2018، بل ويرى أن فرص فوزه بانتخابات 2024 اللاحقة كبيرة جدًا بناء لنجاحه الأسطوري في بناء شعبية واسعة في المخيال القومي الروسي.
ورغم أن الكتاب لا يغطي السياسة الداخلية للرئيس بوتين والتحالفات التي يعتمد عليها في السيطرة على مقاليد السياسة والحكم والاقتصاد في البلاد على النحو الذي يمكنه من انتهاج سياسة الرجل القوي على الساحة الدولية، فإنه يظل محاولة محمودة لإلقاء مزيد من الأضواء للقراء باللغة العربية على رئيس دولة عظمى ملأ الدنيا وشغل الناس وخاض حروبًا ناجحة على خطوط تماس تمتد من أعماق آسيا إلى قلب أوروبا مرورًا بالشرق الأوسط الحزين.
بوتين.. نابليون جديد؟
التحولات الثقافية ومناخ الفوضى كانا الممرين اللازمين لصعوده
بوتين.. نابليون جديد؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة