تتويج 8 شخصيات عربية وعالمية بجائزة الملك فيصل العالمية

برعاية خادم الحرمين الشريفين في حفل يقام الأربعاء المقبل

الشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد و د. محمد مفتاح و د. محمد عبد المطلب  ود. يوريس فلتمان و عبد الله يوسف الغنيم و د. فامسي كريشنا موثا  و د.ستيفن فيليب جاكسون و د. هانت جريت برونر
الشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد و د. محمد مفتاح و د. محمد عبد المطلب ود. يوريس فلتمان و عبد الله يوسف الغنيم و د. فامسي كريشنا موثا و د.ستيفن فيليب جاكسون و د. هانت جريت برونر
TT

تتويج 8 شخصيات عربية وعالمية بجائزة الملك فيصل العالمية

الشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد و د. محمد مفتاح و د. محمد عبد المطلب  ود. يوريس فلتمان و عبد الله يوسف الغنيم و د. فامسي كريشنا موثا  و د.ستيفن فيليب جاكسون و د. هانت جريت برونر
الشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد و د. محمد مفتاح و د. محمد عبد المطلب ود. يوريس فلتمان و عبد الله يوسف الغنيم و د. فامسي كريشنا موثا و د.ستيفن فيليب جاكسون و د. هانت جريت برونر

برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، تتوج «مؤسسة الملك فيصل الخيرية» مساء الأربعاء المقبل 23 مارس (آذار) الحالي، 8 شخصيات عربية وعالمية فازوا بجائزتها لعام 2016.
وسيتم في الحفل السنوي لـ«جائزة الملك فيصل العالمية» تكريم الفائزين في فروع الجائزة الخمسة لإنجازاتهم الفكرية والعلمية. وأوضح الدكتور عبد العزيز السبيل، الأمين العام للجائزة أن اللجنة قررت منح جائزة الملك فيصل العالمية لثمانية فائزين في خمسة مجالات؛ إذ فاز الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد (السعودية) بجائزة «خدمة الإسلام»، والدكتور عبد الله يوسف الغنيم (الكويت) بجائزة «الدراسات الإسلامية»، كما فاز بجائزة «اللغة العربية والأدب العربي» مناصفة الدكتور محمد عبد المطلب (مصري)، والدكتور محمد مفتاح (مغربي). أما الفائزان بجائزة «الطب» فهما، (الهولنديان): الدكتور هان جريت برونر، والدكتور يوريس فيلتمان، والفائزان بجائزة «العلوم» هما: الدكتور فامسي كريشنا موثا (أميركا)، والدكتور ستيفن فيليب جاكسون (بريطانيا).
وأوضحت «مؤسسة الملك فيصل الخيرية»، أن الفائز بجائزة «خدمة الإسلام»، الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، يعمل مستشارًا بالديوان الملكي، وهو عضو هيئة كبار العلماء، وإمام وخطيب المسجد الحرام، ورئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة.
وأوضحت أن منحه هذه الجائزة جاء «لقاء دوره في مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذي يمثل المرجعية الفقهية للأمة في القضايا الحادثة والمستجدة؛ إذ بذل جهدا مميزا في أدائه بحكمة عالية، ورؤية علمية عميقة، تجمع بين الرأي الفقهي المؤصل، واستيعاب متغيرات العصر الحاضر، وقدرة على التأثير الإيجابي في تناول القضايا الفقهية المعاصرة، وتمتعه بشخصية علمية شرعية وطرح فكري رصين، وعدالة ووسطية، هيأته لأن يكون من أهم الشخصيات الإسلامية العالمية التي تخدم الدين الإسلامي».
أما جائزة «الدراسات الإسلامية»، التي منحت للدكتور عبد الله بن يوسف الغنيم، وهو رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية، فجاءت «لقاء مجموعة أعماله في الجغرافيا عند المسلمين؛ تأليفا وتحقيقًا، وتميزه في إحياء مصطلحات عربية قديمة لأشكال سطح الأرض، وإعادة توظيفها في الجغرافيا المعاصرة كما في كتاب (اللؤلؤ)، وكتاب (في التراث الجغرافي العربي)». وكذلك «لرصده التاريخي غير المسبوق للزلازل كما في كتابه (سجل الزلازل العربي)، وتتوج الجائزة جهوده الحثيثة والمضنية ونشاطه الميداني على مدى العقود الماضية».
وبالنسبة لجائزة «اللغة العربية والأدب»، فقد فاز بها مناصفة كل من: الدكتور محمد عبد المطلب «نظير إنجازاته في مجال التحليل التطبيقي للنصوص الشعرية؛ إذ درس النصوص بكفاءة واقتدار، موائما بين معرفة عميقة بالتراث والنظريات الأدبية الحديثة. والدكتور محمد مفتاح «تقديرا لجهوده العلمية المميزة في تحليل النص الشعري العربي؛ إذ وظف معارفه العلمية الحديثة في تحليل النصوص الشعرية بعمق وأصالة، مع قدرة فذة في الوصف والتحليل، ووعي بقيمة التراث وانفتاح على الثقافة الإنسانية».
وبالنسبة لجائزة «الطب» فقد منحت مناصفة لعالمين هما: الدكتور هان جريت برونر، أستاذ الوراثة الطبية ورئيس قسم الوراثة البشرية في المركز الطبي لجامعة راتبوات في نايميجان، ورئيس قسم الوراثة الإكلينيكية في المركز الطبي لجامعة ماسترخ، والدكتور يورس فلتمان، أستاذ تطبيقات الجينوم في مركز نايميجان الطبي بجامعة راتبوات، والمركز الطبي لجامعة ماسترخت. وقد منحت لهما الجائزة «نظير تميزهما بدورهما في الارتقاء بالتطبيقات السريرية للجيل القادم في علم الجينات، إلى التشخيص الإكلينيكي؛ إذ إنهما طورا طرقا عملية لتحليل عينات للمرضى المشتبه أن لديهم أمراضا وراثية، وقد حفز ذلك لإدخال هذه التقنيات إلى العيادة الطبية»، إضافة «إلى أنهما كوّنا فريقا بدأ بتعاون دولي في أبحاث الجينات وتشخيصها، ونشرا بحوثهما في مجلات علمية مميزة عالميا، وحصلا على اعتراف من زملائهما في التخصص بأنهما عالمان مبتكران».
وبالنسبة لجائزة «العلوم - علم الحياة – البيولوجيا» فقد حصل عليها مناصفة الدكتور فامسي كريشنا موثا (الولايات المتحدة)، التي استحقها «لقاء استخدام (الميتاكوندريون) المسؤولة عن إنتاج الطاقة في الخلية» كنموذج جديد يربط بين الجينومكس والبروتيومكس والاستقلاب وعلم الحاسوب الحيوي»، وباستخدام هذه الاستراتيجية التكاملية «استطاع الدكتور موثا أن يتعرف على حلقة الوصل بين الاختلال الوظيفي في الميتاكوندريون على مستوى الجزيئات والأمراض المستعصية، مثل مرض السكري، ويعدّ ذلك إسهاما في إيجاد تطبيقات جديدة في التشخيص والعلاج».
أما الدكتور ستيفن جاكسون، (بريطانيا) فقد فاز بالجائزة «لإسهاماته المميزة في التعرف على الصلة بين آليات اضطراب الجينوم وعلاقة ذلك بمرض السرطان، وبصفة خاصة استطاع أن يكتشف العوامل الجزيئية لإصلاح الحمض النووي. كما يرجع الفضل إلى الدكتور جاكسون في ابتكار أسلوب جديد لتحويل نتائج أبحاثه إلى أدوات لمعالجة السرطان».
وبمناسبة فوزهم بالجائزة، عبر عدد من الفائزين بـ«جائزة الملك فيصل العالمية - 2016» عن أن مكانة الجائزة عالميًا هي التي تجعل الفوز بها أمنية للباحثين والعلماء، وقال الدكتور صالح بن حميد: «فوجئت بفوزي بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لهذا العام (..) فالجائزة لها عالميتها وحياديتها».
وعدّ الدكتور محمد مفتاح، أن جائزة الملك فيصل العالمية «موحدة من حيث جمعها بين علوم متنوعة، ومن حيث تعاليها عن عوامل التفرقة». وقال الدكتور عبد الله الغنيم «أحسست بأن إنجازاتي مُقّدرة، وخصوصا من هذه المؤسسة العالمية عالية الصيت رفيعة المكانة لحياديتها وموضوعيتها».
من جانبه، قال البروفسور فامسي موثا، «يشرفني كثيرا أن أفوز بجائزة الملك فيصل العالمية، وخصوصا عندما ألقي نظرة على قائمة الفائزين السابقين، التي تتضمن الكثير من العلماء العظماء الذين كانوا مثالاً لي طوال مسيرتي».
وأعرب البروفسور ستيف جاكسون عن امتنانه لنيل الجائزة قائلاً: «إنه لشرف عظيم أن أحصل على جائزة الملك فيصل العالمية لعام 2016 عن فئة العلوم. وأود أن أغتنم هذه الفرصة لأشكر كثيرا من الناس المخلصين والمبتكرين والموهوبين الذين عملوا في مختبري على مر السنين، لأن المختبر يفتح آفاقا جديدة للعلم الذي بدوره قادني لتلقي هذه الجائزة».
أما البروفسور هان جريت برونر، فقال: «هذه الجائزة تتمتع بمكانة عالمية مرموقة. والفائزون السابقون بهذه الجائزة في فئات العلوم والطب، هم من الشخصيات الكبيرة التي نتطلع إليهم بعين الإعجاب. إنهم أبطال حقيقيون وعلى مستوى عال جدًا في مجال العلوم».
وقال البروفسور يوريس فيلتمان: «هناك عدد من الفائزين السابقين الذين نالوا أيضًا جائزة (نوبل). إنه لشرف عظيم أن تضاف أسماؤنا إلى هذه القائمة. نحن نشعر بالفخر لقبول هذه الجائزة نيابة عن الفريق بأكمله من الأشخاص الذين عملوا معنا». يذكر أن «جائزة الملك فيصل العالمية» أبرز أنشطة «مؤسسة الملك فيصل الخيرية» التي أقامها، عام 1976، أولاد الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.