هل يمكن أن يكون داعش ليبيا تلقى معلومات عن موعد الغارة الأميركية على «صبراتة» التي وقعت أواخر الشهر الماضي؟ تحقيقات استخباراتية في طرابلس وشهود عيان يقولون إن التنظيم نقل مقاتليه، قبل الضربة الأميركية بفترة وجيزة، إلى مناطق آمنة.
في فجر يوم الجمعة 19 من الشهر الماضي نفذت طائرات حربية أميركية ضربات جوية ضد مقاتلين قيل إنهم على صلة بداعش في صبراتة، وإن عدد القتلى وصل إلى 40 شخصا. لكن «الشرق الأوسط» اطلعت على تقارير لمحققين محليين وآخرين في شركات أمن غربية في العاصمة الليبية تقول إنه، وقبل 48 ساعة من الضربات الأميركية، أصدر زعيم داعش في ليبيا، محمد المدهوني، أمرا للمشرف على داعش في صبراتة، ويدعى عزام أحمد، بإجلاء عناصر التنظيم الدموي من المدينة إلى مواقع أخرى، منها سرت.
عزام كان يقيم في الموقع الذي جرى ضربه، وفقا لمصدر أمني في صبراتة، إذ إنه يشير إلى أن هذا الموقع عبارة عن منطقة يطلق عليها «القصر».. كما يسميها بعض السكان المحليون «المشوطة»، وذلك نسبة إلى منزل رجل يدعى المشوط، يقال إنه كان يقاتل في العراق، ويقع مسكنه بالقرب من مزارع للزيتون هناك.. «عزام، ومن موقعه في صبراتة، أعطى تأكيدا للمدهوني بإجلاء جميع الدواعش، ثم توجه قبل القصف بساعات إلى طرابلس».
وتقول الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية إنها تشعر بالقلق بسبب تنامي نفوذ داعش في ليبيا، لكن طريقة تعامل كثير من تلك الدول مع التنظيم المتطرف في هذا البلد أصبحت مثار شكوك من جانب الليبيين، خصوصا بعد ملابسات أحدثتها عدة غارات أميركية، واحدة على الأرض في منطقة المشوطة المشار إليها، والأخرى في بحر صبراتة، بعد ساعات من الضربة الأولى.
وفقا للمعلومات المتاحة هنا، يبدو أن المشوط، صاحب المنزل الذي تعرض للقصف، من أبناء صبراتة، لكنه كان، فيما مضى، يقاتل مع تنظيم القاعدة في العراق. ويقول مسؤول محلي في صبراتة إن أحد قيادات طرابلس أعاده إلى البلاد منذ أكثر من سنة، وانخرط في التعاون مع الجماعة الليبية المقاتلة، ويبدو أن من بين الأجانب الذين كان يؤويهم في صبراتة ما يزيد على عشرة مطلوبين للسلطات التونسية، إذ إن الرجل لديه عدة مبان سكنية في منطقة الدبابشة والقصر، يقوم بتأجيرها لعمال البناء ورصف الطرق ومزارع الزيتون، وهم من جنسيات مختلفة، بينهم تونسيون وجزائريون.
ويعتقد، وفقا لوثائق استخباراتية اطلعت عليها «الشرق الأوسط» في مقر أمني غربي يقع على شاطئ طرابلس، أن «قصف صبراتة هو عملية تونسية أميركية، إذ إنه يوجد ضغط فرنسي وتونسي على الولايات المتحدة، من أجل حماية الأمن القومي التونسي، لأن الدواعش الليبيين في مناطق الخُمس وطرابلس لم يتعرضوا للقصف». وأضاف التقرير أن النقيب ميلود، في مخابرات طرابلس، أكد من جانبه أن «المخابرات التونسية تعمل بشكل قوي في مناطق غرب ليبيا، وأن قتلى الغارة على صبراتة جرى تسليمهم لتونس بشكل سريع، لدرجة أننا لم نجد الفرصة لحصر أسماء القتلى ومعرفة أصحاب الجثث».
يشير التقرير أيضًا إلى أن بعض الأسماء التي وردت في كشوف القتلى، اتضح في ما بعد أنها «لأشخاص قتلوا في عمليات سابقة، وآخرين ما زالوا على قيد الحياة وموجودين في طرابلس وسرت.. كما أن قيادات داعش في سرت وفي طرابلس لم تبدِ أي اهتمام بضحايا الغارة الأميركية، وكأن الأمر لا يخصهم».
ويقول مسؤول محلي في صبراتة إن المشوط نفسه لم يظهر منذ أسابيع في المدينة وغير معروف إن كان قتل في الغارة أم لا. ووفقا للمصدر نفسه فإن الدواعش الذين كانوا موجودين بكثافة في منطقة الدبابشة والقصر انتقلوا إلى مناطق آمنة في صبراتة وانتقل قطاع آخر إلى سرت، قبل الغارة الأميركية بيومين.. «لدرجة أن أصحاب المحال التجارية في المنطقة شكوا من قلة البيع والشراء وتراجع نشاط السوق المحلية التي كانت تعتمد على الدواعش.. كانوا ينفقون بسخاء ويشترون كميات كبيرة من الخبز واللحوم والخضراوات والفاكهة».
أما باقي الدواعش الذين لم يستهدفهم القصف في صبراتة فكانوا في ذلك الوقت يتمركزون في مناطق لم تستهدفها الغارة الأميركية، ومنها منطقة تليل، على مسافة قريبة من متنزه صبراتة العام، ومنطقة الساحل، ومنطقة نادي المدينة. يشير أحد مسؤولي جهاز المخابرات في طرابلس إلى أنه تبين، بعد ذلك، أن الغارة الأميركية على صبراتة جرى تنفيذها دون إخطار المسؤولين في العاصمة.. «لا رئيس المخابرات ولا قائد الجيش ولا رئيس المؤتمر ولا رئيس الحكومة.. اتصلت بهم في الفجر، وقالوا: لا نعلم شيئا».
أما في صبراتة فيشير المسؤول المحلي إلى أن المدينة، في ساعات الفجر، أي حين بدأ القصف الأميركي، كان فيها أيضًا مجموعة متطرفة تابعة لما يسمى بـ«جند الحق»، وهي جماعة تتعاون مع المدهوني، ويقودها رجل يدعى الشيخ رشيد. كان الشيخ رشيد مطمئنا في البداية. يقول أحد مسؤولي المدينة: «يبدو أن المعلومات التي وصلت إلى الشيخ رشيد كانت تفيد بأن فرقة الاستطلاع التابعة له، والتي كانت تتمركز في وسط صبراتة، وتتكون من نحو 55 متطرفا من جنسيات مختلفة، ليست ضمن الأهداف الأميركية».
ويوضح المصدر أن هذه الفرقة الاستطلاعية يرأسها قائد يدعى عبد الملك ضياء الدين، ويعتقد أنه آسيوي الجنسية (من أفغانستان أو باكستان)، لكنه يضيف أنه «بعد ساعات قليلة من تنفيذ الغارة، أمر الشيخ رشيد الفرقة بمغادرة صبراتة خوفا عليها من حالة الغضب التي أصابت سكان المدينة.. حملوا أسلحتهم وغادروا في اتجاه البحر في طابور واحد، في وضح النهار».
لقد صبَّ أهالي صبراتة نقمتهم على المتطرفين، لأنهم تسببوا في جر المقاتلات الحربية الأميركية إلى بلدتهم. وجرت عملية إجلاء فرقة الاستطلاع التابعة للشيخ رشيد، عبر مراكب صغيرة من سواحل صبراتة، إلى معسكر أبو رقيبة البحري على بعد نحو 30 كيلومترا، كما يؤكد المصدر.
كيف ظهر داعش بكل هذه الحرية في دولة نفطية قليلة السكان وشاسعة المساحة؟ فَهْم المسألة يتطلب العودة قليلا إلى الخلف. فحتى الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو يشير إلى أن «ليبيا قد غرقت في الفوضى»، عاد إلى بداية المشكلة، أي منذ أن نفذ تحالف بقيادة فرنسا وبريطانيا غارات جوية على ليبيا، قبل أن يتولى الحلف الأطلسي (الناتو) الأمر في ما بعد، ما أدى إلى الإطاحة بنظام القذافي في نهاية المطاف.
يرى سياسيو وزعماء القبائل أن الدولة انهارت منذ ذلك التاريخ. يقول الدكتور محمد الزبيدي، الرئيس السابق للجنة القانونية في مؤتمر القبائل الليبية: «منذ ذلك الوقت أصبحت ميليشيات مسلحة متنافسة تتناحر على السلطة، وفي هذه الأثناء استفاد تنظيم داعش من الوضع ليوسع نفوذه في البلاد».
عقب مقتل القذافي مباشرة هيمن على السلطة في البلاد شخصيات تنتمي إلى جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة الأقرب لتنظيم القاعدة. من أشهر قراراتها قانون العزل السياسي، الذي يقضي بطرد من عملوا مع النظام السابق، من دولاب العمل في الدولة.
يعتقد على نطاق واسع أن القرار الذي ألغاه البرلمان الجديد كانت له نتائج كارثية، ما زالت مستمرة حتى الآن، لأنه أصاب منظومة العمل الإداري في البلاد بالشلل، وساهم في انتشار الفوضى.
يضيف الدكتور الزبيدي أن من حكموا البلاد بعد القذافي لم يتمكنوا، منذ البداية، من تأسيس جيش ولا شرطة.. «لم يكن لديهم رغبة في ذلك»، وفي المقابل منحوا مسألة حماية الحدود والمؤسسات الرسمية لميليشيات يسيطر على معظمها أمراء حرب من المتطرفين الذين خرجوا من سجون القذافي أو عادوا أثناء الانتفاضة المسلحة، من مناطق ملتهبة مثل أفغانستان وباكستان والشيشان والعراق.
أطلق حكام طرابلس اسم «الثوار» على عناصر الميليشيات التي كانت تحارب القذافي، لكنّ الليبيين وجهوا لهذا التيار ضربة قوية حين اختاروا في انتخابات 2014 برلمانا جديدا لا وجود فيه لهيمنة المتشددين.
وفي خطوة زادت من تعقيد الأوضاع، قام البرلمان السابق (المؤتمر الوطني)، برئاسة نوري أبو سهمين، بالاستمرار في عقد جلساته في العاصمة، رافضا الاعتراف بشرعية البرلمان المنتخب، وأوكل للميليشيات، أو كما يسميها «الثوار»، مهمة محاربة الجيش الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر، المعين من المشرعين الجدد.
التفكُّك الذي أصاب السلطة المركزية، بهذه الطريقة، أدى إلى ظهور تنظيم داعش.. أولاً في مدينة درنة، منذ أواخر عام 2014 ثم انتشر التنظيم الدموي كالنار في الهشيم في سرت، إلى أن بدأ أخيرا ينصب قواعد قوية له في العاصمة نفسها.
يقول ضابط يعمل في شركة أمن غربية في طرابلس: يوجد بيان متسلسل وتفصيلي عن حركة الخلايا التي بدأ فيها النشاط المتطرف انطلاقا من درنة وبنغازي، ثم انتقال هذه الخلايا إلى سرت، وأخيرا في طرابلس، مشيرا إلى أن قادة ميليشيات الإخوان والجماعة المقاتلة، في العاصمة، كانوا يشعرون بأن الخطر يكمن في حفتر والجيش الوطني، لكن اليوم، يبدو أن لدى هؤلاء القادة مخاوف حقيقية من قوة داعش وقوات القبائل المحسوبة على القذافي.
من تحت الطاولة يبدو أنه يوجد مساران جديدان أو بالأحرى خياران أمام عدد من أمراء الحرب في العاصمة.. الأول زيادة وتيرة التعاون مع داعش، والتفاهم مع المدهوني، والثاني إيفاد مبعوثين للتواصل مع قيادات القبائل المحسوبة على نظام القذافي ممن يقيمون في دول الجوار مثل تونس ومصر والجزائر. في ظل هذه المعمعة يشعر داعش بتنامي قوته واتساع نفوذه، والأهم «قدرته على حماية مقاتليه من الغارات الغربية»، بحسب ضباط مخابرات في سلطة طرابلس.
مع شروق شمس الصباح، هرع عدد من قادة الميليشيات المتطرفة للاطمئنان على المدهوني، زعيم داعش في مقره بالعاصمة، وعلى قواته في صبراتة، بعد الغارة الأميركية. كان من بين من التقوا به قيادي في ميليشيا «أبو سليم»، يدعى غنيوة. طمأن المدهوني غنيوة، وقال له ألا يشغل باله. ووفقا للمصدر نفسه، فقد طمأن زعيم داعش باقي قادة الميليشيات الذين ينسجون خيوط التعاون معه، وقال لهم إن الغارة لم تكن تستهدف عناصر التنظيم.
محضر تحقيق يجري بالتعاون بين مخابرات طرابلس وفرقة أمنية أميركية في العاصمة، أورد قول المدهوني لزواره، ومن بينهم غنيوة أيضا: «لسنا مستهدفين بأي شيء.. الإخوة في أمان وفي سلام. لم يمسسنا سوء. ما أريدكم أن تعلموه هو أننا، بإذن الله، منتصرون على الأعداء».
كما تطرق المدهوني إلى العمليات العسكرية بقيادة حفتر، في بنغازي وقرب مدينة إجدابيا، وقدم تبريرا لتقدم الجيش في تلك المحاور التي كان يسيطر عليها خليط من الدواعش والإخوان وأنصار الشريعة والجماعة المقاتلة. قال لضيوفه بحسب محضر التحقيق: «نحن من قرر التراجع. كما تعلمون، الحرب كر وفر. سنعيد الهجوم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فلا تيأسوا».
منذ نحو ثلاثة أشهر، بدأ التواصل بين أمراء للحرب في طرابلس، والمدهوني، وذلك من خلال عمليات تنسيق وتحريك مقاتلين وبيع أسلحة وغيرها. هذا الخيار، بالتقرب من داعش، جاء من جانب قادة أصيبوا بالإحباط من دول يقولون إنها كانت تدعمهم بشكل كامل حتى شهور قليلة مضت.
«باختصار..».، كما يقول أحد قادة جماعة الإخوان في مصراتة.. «الدول التي كانت تقف معنا، أصبحت تميل إلى التنسيق مع داعش. هذا ما يظهر من تصرفاتها.. الدول الصديقة لم تعد كالسابق، فهي تطلب منا الصبر والانتظار بينما داعش يتغلغل في سرت وطرابلس، ويسعى لمحاصرة مصراتة».
من جانبه يقول عيسى عبد المجيد، مستشار رئيس البرلمان الليبي، لـ«الشرق الأوسط»: «نعم.. ما نراه اليوم هو قيام الغرب بفتح الطريق أمام المتطرفين لتخريب ليبيا، وتقسيمها لدويلات، أو أيا كان.. إذا استمرت الأحوال على هذا المنوال فسيأتي يوم لن يجد فيه الشعب دولته».
حتى ضابط المخابرات، النقيب ميلود، في مكتب مخابرات طرابلس، لا يعرف لماذا تتحرك الريح بطريقة غير مفهومة. مخابرات العاصمة قدمت تقريرا عن واقعة استهداف الغارة الأميركية للدواعش في صبراتة، خلال اجتماع آخر في فندق ريكسوس بحضور أمراء الميليشيات. بدا من التقرير أن داعش لم يصب بخسائر تذكر. أكثر شيء مثير للقلق، ومن السهل ملاحظته من طريقة كلام المتحدثين، هو الاعتقاد في عدم وجود نيات حقيقية لدى «الأصدقاء الغربيين» على محاربة داعش.
كلما تأزمت الأمور أمام أمراء الميليشيات، زادت حدة الخطاب العصبي والشكوك. اتخذ اللقاء الجديد في «صالة الاجتماعات» في الفندق نفسه، طابعا رسميا أكثر من السابق. لقد شارك فيه مسؤولون في حكومة الإنقاذ غير المعترف بها دوليا، برئاسة خليفة الغويل، ونواب في المؤتمر الوطني المنتهية ولايته (البرلمان السابق)، والذي يرأسه أبو سهمين.
بعض القادة حول الطاولة هنا عبّروا صراحة عن وجود ميل، من الدول التي تدعم ميليشيات طرابلس منذ عام 2011، للتغاضي عن تنظيم داعش ليبيا. لهذا، كما يقول أحد قيادات المدينة، تجد اتصالات وتعاونا من تحت الطاولة بين قادة في هذه الميليشيات، والمدهوني.. «هذا معلوم، وهو من أسباب تراجع الثقة بين الجميع».
أحد مسؤولي المخابرات ممن شاركوا في الاجتماع يشير إلى أن الغارات التي ينفذها الغرب بين وقت وآخر «تبدو قصة مضحكة». لماذا؟ يجيب موضحا: «لأن أماكن معسكرات داعش معروفة للطائرات التي تراقب الأراضي الليبية على مدار الساعة. حين تُقرر إحدى الدول الغربية توجيه ضربة لداعش، فإنها تضرب في المكان الخطأ.. هذا ما حدث في صبراتة وفي سرت وفي درنة. هذا أمر محيِّر».
وفي اليوم التالي ازدادت الشكوك حين جاءت تقرير جديد عن واقعة قصف طائرات حربية أجنبية لزورق على شاطئ صبراتة، وذلك بعد ساعات من القصف الأميركي للمدينة. صاحب الزورق الذي جرى قصفه، كان معه عدد من التونسيين الذين يعملون في صيد السمك، و«هؤلاء حصلوا على ترخيص، كما اعتادوا في السابق، من بلدية صبراتة»، كما يقول التقرير.
يتساءل النقيب ميلود، وفقا للتحقيق: «إذا كان الزورق يخص صيادين، فلماذا تصر بلدية صبراتة على أنهم متطرفون تونسيون جاءوا للانتقام لضحايا الغارة الأميركية على منطقة المشوطة في صبراتة، بينما هم في الحقيقة ليسوا كذلك؟».
الدكتور الزبيدي، من جانبه، يعلق قائلا إن داعش «أصبح شماعة من جانب الغرب للقضاء على ما تبقى من ليبيا منذ تدخل حلف الناتو لتدمير بلدنا». ويضيف: «وضعوا داعش في ليبيا، وإذا أرادوا تدمير مدينة أو موقع، أو إذا أرادوا إثبات الوجود في مكان ما، قالوا لك: لم نقصر.. فها نحن نقصف الدواعش».