حكاية العربي الأخير.. أم نهاية العالم؟

واسيني الأعرج ورواية تستشرف المستقبل لنصف قرن ونيّف

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

حكاية العربي الأخير.. أم نهاية العالم؟

غلاف الرواية
غلاف الرواية

نستشف من عنوان رواية «2084.. حكاية العربي الأخير»، لواسيني الأعرج، أنه في هذا العام المشؤوم، لن يتبقى من العرب سوى آدم العالم النووي، الذي تم اعتقاله من قبل الزعيم المطلق ليتل بروز في قلعة أميروبيا (كلمة مركبة من أميركا وأوروبا) في الربع الخالي، التي تسيطر على البحر الأحمر ومضيق هرمز لتحمي منابع النفط، وناقلاته إلى الغرب (وهنا يتبادر للذهن سؤال: هل في هذا العام سيبقى للنفط أهمية بالغة، وهل سيتبقى منه الكثير بعد أن تجف منابعه شيئًا فشيئًا؟) نتوقف قليلاً عند الاختيار لهذا العام تحديدًا لنكتشف أنه يمثل الذكرى المئوية لمولد شخصية «الأخ الأكبر» للكاتب الشهير جورج أورويل في رائعته 1984، والماريشال ليتل بروز ليس سوى حفيده الذي جسده واسيني الأعرج كشخص مريض جسديًا ونفسيًا، ليكون ذاك المتسلط في القلعة الذي يراقب الجميع. يفرض قوانينه على القاصي والداني عبر تقنية عالية جدًا جهز بها مكتبه (وتثيرنا دهشة كبيرة بأن كاتبًا جزائريًا آخر، فرنكوفونيا من الكتاب المرموقين في سجل الأدب باللغة الفرنسية، بوعلام صنصال الذي أصدر روايته بالفرنسية بعنوان مشابه «2084: نهاية العالم»، وفي وقت شبه متزامن مع رواية العربي الأخير، فيحتدم الجدال بين الكاتبين من «سرق» مِن مَن، وهذا بالطبع حديث آخر، لكن الكاتبين قد اعتمدا عنوانين متشابهين لعام 2084، كعام فصل إما أن ينتهي فيه العالم، أو ينقرض فيه العرب، والكاتبان اقتبسا العنوان من جورج أورويل).
رواية الكاتب واسيني الأعرج صاحب «مملكة الفراشة»، و«البيت الأندلسي» (بالإضافة إلى مؤلفات كثيرة يصعب ذكرها، جعلت منه أحد أبرز الأدباء العرب) رواية استشرافية، خيال أدبي لنصف قرن ونيف من الآن، خلال هذه الفترة سينحدر العرب تدريجيًا نحو الانحلال والزوال. الرواية تحدد الزمان، والمكان، في هذه الصحراء التي لم تعد أرضًا عربية بل صحراء تتناحر فيها القبائل، قبائل ارابيا وأمابيا التي يقتلها الجوع والعطش في وسط غير ذي زرع ولا ضرع، ويلاحقهم الكوربو سيف (وهو نسخ حرفي لكلمة «غراب» بالفرنسية) رئيس التنظيم المتطرف، الذي ينضم إلى تنظيمه كل الضائعين من القبائل المتناحرة، واتخذ من الإسلام حجة لتبرير عمليات القتل المنظمة (كمحاكاة لتنظيم داعش اليوم، الذي يدمر قلعة حلب قبل أن تطرد جيوش أميربيا المتحالفة تنظيمه). ولا يجدون مغيثًا سوى اللجوء، متسولين، حفاة شبه عراة على أبواب القلعة التي تقيم لهم وليمة في حفل ميلاد الجد بيغ بروذر فيقتتلون على بابها للفوز بوجبة يمنّ بها عليهم الحفيد ليتل بروز، وعلى مرأى آدم الذي أبقي عليه ليستمر في بحوثه النووية ليخترع قنبلة الجيب النووية التي سيكون استخدامها أقل ضررًا ومحدودية من قنبلة هيروشيما وناغازاكي التي راح ضحيتهما مئات الآلاف من اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، ومنهم والد أمايا زوجة آدم اليابانية التي ينشأ صراعا بينها وبين زوجها لثنيه عن اختراع قنبلة تذكرها بمجزرة إنسانية كبيرة فقدت فيها أباها، ودمرت بلدها.
آدم غريب، العالم، والعداء الرياضي يدخل القلعة (التي بناها الكنعانيون ثم توالى عليها كل الغزاة لتصل في نهاية الأمر لأيدي اميروبيا) مخفورًا بعد أن خطف في مطار شارل ديغول في باريس، ليتم استغلاله في استكمال أبحاثه التي بدأت في مختبرات بنسلفانيا تحت مراقبة الماريشال، فيصدمه أول شعار كتب على أحد الجدران: «العربي الجيد هو العربي الميت» ثم شعارات أخرى حلت محل كتابات تعلن انتصار العرب على التتار والصليبيين: «في عقر دارك يا صلاح الدين». شعارات استخدمت سابقًا وما زالت تستخدم بعد عشرات السنين كدليل على أن العرب لم يستطيعوا تغير الصورة النمطية التي ألصقت بهم، بل إن هناك مطالبة بقتلهم كالجرذان، إلا في حال تقديم خدمة جليلة كاختراع قنبلة جيب نووية مثلا. لجنة جديدة تتشكل باسم «لجنة الحفاظ على الأجناس الآيلة إلى الانقراض»، تتدخل لحماية آدم وتوفير إقامة مريحة له في مكان أسره في القلعة.
يرافق آدم شبح «رماد» الذئب الأخير في هذه السلالة المنقرضة كسلالة آدم، الذي سيلعق جراجه عندما يصاب «بخمس رصاصات كل واحدة جاءته من مكان»، ويغيب نهائيًا عن المشهد، عندما كان آدم يبحث عن زوجته وابنته في منطقة المعارك الدامية.
بعد طول جهد وعناء ينجح آدم في صنع القنبلة ولا بد من إجراء تجربة لمعرفة بعض الخصائص لهذه القنبلة التي ستلقيها طائرة دون طيار. يتجهون نحو المكان المسمى العقرب الأسود، وهو اسم التجربة الأولى لقنبلة الجيب PBPu1، وPBPp2 وهناك تقام التجربة الناجحة لهذه القنبلة، في خضم حرب مشتعلة بين القبائل المتناحرة التي تتجه نحو السد الوحيد في المنطقة للشرب.
طائرة مروحية تقل أيفا ويونا (زوجة وابنة آدم) مع الكابتن سميث تحط لتلتقط آدم الجريح «حي لكنه ينزف وبدأت أعضاؤه تتجمد»، ويحث سميث على الإسراع والهروب لأن «العاصفة تكبر وغبار الانفجار الكبير سيدرك الجميع».
نهاية سوداوية، مأساوية، لآخر عالم من أصل عربي، ولقبائل المنطقة التي سيجرفها الانفجار.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.