صوت الأكثرية الصامتة في المسافة الفاصلة بين الثورة والدولة

عرفان نظام الدين يأسف على مآل الربيع العربي في «ربيع الأمل والدم»

جانب من مظاهرات بميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير المصرية ({الشرق الأوسط})
جانب من مظاهرات بميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير المصرية ({الشرق الأوسط})
TT

صوت الأكثرية الصامتة في المسافة الفاصلة بين الثورة والدولة

جانب من مظاهرات بميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير المصرية ({الشرق الأوسط})
جانب من مظاهرات بميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير المصرية ({الشرق الأوسط})

من شرارة صغيرة ألهبت النار في جسد شاب تونسي بائس كان يحتج على إهانة شرطية له بينما كان يحاول أن يكسب دنانير قليلة من اقتصاد مغرق في استقطابه وتخلفه، من هذه الشرارة انطلقت عاصفة عاتية عبر العالم العربي كسّرت أصنام الخوف وأسقطت أنظمة لم يظن أحد من قبل أنها ستسقط فامتلأت القلوب بآمال التغيير والغد الأفضل. لكن هذه الموجة التي أطلق عليها أحدهم تسمية الربيع العربي قياسًا ربما على ربيع براغ 1968، تحولت بعد خمس سنوات إلى مأساة خالصة. لا يزال التاريخ هنا طازجًا وهنالك كثير من سوء الفهم المتعمد أو غير المتعمد في نقل وتحليل ما يجري وما قد جرى ويصعب بالتأكيد رؤية تأثيراته الحاسمة على مستقبل المنطقة العربية وشعوبها على المدى القصير. لكننا بالضرورة بحاجة إلى توثيق شهادات الخبراء الذين عاشوا المرحلة لتكون دليلا تستند إليه الأجيال لقراءة ما جرى، من هنا تأتي في رأينا قيمة كتاب «ربيع الأمل والدم» لمؤلفه عرفان نظام الدين.
أمضى نظام الدين قرابة نصف قرن في كواليس السياسة والصحافة المكتوبة والمرئية في العالم العربي، محاورا لمعظم الملوك والرؤساء والقادة والزعماء والدبلوماسيين العرب. وعلى مقربة منهم، شهد صعود وسقوط كثير من دول المنطقة العربية وتحولات الأزمنة فيها، فضلاً عن مشاركته الكثيفة - عبر كتبه ومقالاته وأنشطته التأسيسية والإدارية والاستشارية لكثير من مؤسسات صناعة الإعلام العربي. لذا فهو عندما يقدم لنا وجهة نظره في مآلات الربيع العربي، ربما ينبغي لنا أن ننصت جيدًا لما يقول.
في «ربيع الأمل والدم» الصادر عن دار الساقي - لندن 2015. يأخذنا المؤلف في مسيرة حافلة بالتساؤلات لاستكشاف أبعاد هذا «الربيع» ويحلل لنا خفاياه وأسبابه ويصف جذور انطلاقته وطاقة الأمل التي فتحها منذ مطلع العام 2011 ومن ثم خيبة أملنا جميعًا في تداعيات أحداثه الدموية التي ما زالت مستمرة إلى اليوم في غير بلد عربي.
يبدأ نظام الدين كتابه بفصل عن «جذور المحنة» يحلل فيه أصل الداء وعوامل المرض وهو في ذلك يرى أن «الأسباب الموجبة للثورة والاعتراض ليست ابنة ساعتها بل هي قديمة تعود إلى عمر الأنظمة وبدايات انطلاقتها بعد الاستقلال» وقيام الدول ضمن حدود سايكس - بيكو.
هو يتحدث عن بدايات الربيع، فيلاحظ بعين الخبير غياب القيادة الموحدة للثورات وتسرعها في الهدم دون البناء؛ إذ يقول إن كثيرًا من الظواهر الأولى للربيع تتشابه حد التطابق مع المشروع الأميركي المدعوم إسرائيليًا المعروف بالفوضى الخلاقة في إطار مشروع «الشرق الأوسط الجديد» ذلك رغم اعترافه بحسن نيات الغالبية الساحقة من المنتفضين، كما يحدد مركزية المشروع الصهيوني في قلب أزمات المنطقة العربية وتداخل ذلك حتميًا مع الصراعات الدولية الكبرى. ومن ثم يأخذنا إلى فصل ثان «عن دنيا العرب» يتطرق فيه إلى مواقع ضعف وهزال المنظومة المجتمعية والسياسية العربية التي حتمت على الربيع العربي أن يكون فصلاً من التاريخ أقرب إلى شتاء في «بلاد العجائب» منه إلى الربيع.
في الفصل الثالث جولة خاطفة على دول الربيع العربي: من تونس وثورة الياسمين حيث «دروس وعبر ثمينة»، إلى مصر التي انتهت ثورتها الفاشلة إلى الجمود والانقسام مع التشديد على الخطر الكامن في جماعات الإسلام المسيس، ثم إلى ليبيا حيث الفوضى العارمة التي تفتقد إلى الأفق، وسوريا الجريحة بحربها العبثية التي دمرت البلاد والعباد، قبل أن يصف تجربة السودان بوصفه كان ضحية التجربة الأولى في التقسيم على أسس عرقية وهو النموذج الذي يسعى البعض لتطبيقه في بقية البلدان بعد إسقاط أنظمتها الحاكمة. يتساءل الكاتب هنا عن «ربيع القدس»، لكنه يريده - بعد أنهار الدماء التي سالت في العالم العربي - لأن يكون ربيع نضال سلمي يوفر دماء الناس ويتحدى آلة القمع الإسرائيلية دون عسكرة غير متكافئة.
موقف نظام الدين من «الربيع العربي» إذن نقدي بامتياز، وقد أسهب كثيرًا في تحليل حتمية هبوب عاصفة التغيير على بلاد العرب إن آجلا أم عاجلاً بسبب انسداد الأفق وانعدام الأمل مع تفشي الفساد والتفرد بصنع القرار، لكنه لا ينكر أن لهذا الربيع فضيلة كسر جدار الخوف وأصنام الرعب، فـ«بين الحلم والواقع مسافة فاصلة»، وهذا ما سيكتشفه الشباب العرب عندما ينتقلون من «ميادين الثورات إلى أرض الواقع» وفيضان العواطف إلى عالم الممارسة العملية ومقتضيات تقديم التنازلات وفق معادلة الممكن والمستحيل وتقاطعات القوى وتناقضاتها. في الفصل الرابع «إلى أين؟»، الذي ربما يكون أهم فصول الكتاب، يهمس في أُذن شباب العرب بحكمة الشيخ المجرب «ما من ثورة، عبر التاريخ، استمرت إلى ما لا نهاية، بل وصلت إلى حدّ وجدت نفسها أمام واقع يستدعي الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة». ورغم قناعته بأن الأنظمة العربية قد وصلت إلى «نقطة لم يعد فيها معظم القادة العرب يملكون فيها أجوبة ولا خطة ولا حلاً ولا حتى قدرة على مواصلة مهامهم» فإنه يحذر من استبدال ديكتاتورية النخب بديكتاتورية الشارع، لأن الأخيرة «وصفة للدمار الشامل وجواز سفر مجهزٍ لقوى الظلام» وهو قلق كثيرًا ليس من ثورة مضادة، بل إن «الخوف الحقيقي هو على الثورة من الداخل».
ويعطي نظام الدين إضاءة على التحديات الحقيقية التي هي بانتظار شباب العرب ما بعد الثورات فيقول: «وبانتظار بلورة الشكل الجديد المعدّل لأنظمة الحكم المستقبلية.. وبعيدًا عن السياسة وشجونها وما يخطط له من دساتير وقوانين وانتخابات وصراعات وتنافس أحزاب.. لا بد من دق نواقيس خطر لقضية شائكة تتعلق بحياة الناس وحاضرهم ومستقبل أجيالهم: إنها القضية الاقتصادية». ويذكرنا بظاهرة «الحيطيست» الجزائرية وكيف أن البطالة تولد النقمة والأحقاد ولا تأتي إلا بشر مستطير. فكيف لأمة أن تنهض وفيها «52 مليونا يعيشون تحت خط الفقر.. و65 مليونا يعانون من الأمية..»..
وليؤكد على ما سماه «فساد مآلات الربيع المزعوم» يفتح نظام الدين ملفي الإعلام والثقافة في العالم العربي. ولا ينكر بأي حال مأزومية الإعلام العربي (خريف في ربيع) حتى من قبل (الربيع)، إذ يستنكر ظهور طبقة المحللين الثرثارين «الذين صبوا الزيت على النار»، وأيضًا «انعدام الأخلاقيات المهنية وتقلب المواقف. فيبدي خيبة أمل كبيرة بحال الثقافة كالمثقفين الذين كان ينبغي اعتبارهم الرابح الأكبر من رياح التغيير، لكنهم كانوا أول ضحاياه : «جرت الرياح بما لا تشتهي السفن الثقافية».
ثم يخصص الكاتب الفصل الخامس من كتابه ليتحدث عن «الإسلاموفوبيا» وفيه يفرق مبدئيا بين الدين الإسلامي - القائم على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة - والإسلام السياسي بتجاربه الخطرة في أكثر البلاد العربية. يرفض الكاتب حفلات العسكرة كما العنف المجنون ودعوات القتل التي ترتكب باسم الإسلام، معتبرا إياها سبب دمار الربيع العربي، بينما يستشهد بما تركته الانتفاضة الفلسطينية الأولى من تأثيرات هائلة في وجدان العالم.
أما آخر فصول الكتاب «ما العمل؟» فهو بمثابة إشارات لتصحيح المسيرة لمرحلة مقبلة مع تحذيره المسبق بأن «المشوار طويل والطريق محفوف بالمخاطر»، ثم يقترح خطوطًا عريضة لبرنامج يعتمد الديمقراطية الانتخابية، تداول السلطة، فصل السلطات، سيادة القانون، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، بوصفها أساسات البناء لإعادة تشكيل السياسة والاقتصاد والثقافة في العالم العربي ضمن مرحلة انتقالية تؤدي إلى بناء عقد اجتماعي جديد.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.