الفيدرالية السورية.. خطة تبديد الديموغرافيا السنيّة

خريطتان تثبتان النفوذ الكردي في الشمال.. والخطة مدعومة من دول غربية وروسيا رغم رفض المعارضة السورية

الفيدرالية السورية.. خطة تبديد الديموغرافيا السنيّة
TT

الفيدرالية السورية.. خطة تبديد الديموغرافيا السنيّة

الفيدرالية السورية.. خطة تبديد الديموغرافيا السنيّة

ليس الكشف عن طرح التقسيم الفيدرالي لسوريا وليد تسريبات تقارب «جسّ النبض».. فالخرائط التي انتشرت، منذ العام الثاني للأزمة السورية، أظهرت أن مسعى التقسيم، بعناوينه ومقترحاته المختلفة، جدي إلى حدّ بعيد، بوصفه مخرجًا للحرب المستمرة في البلاد، وتسوية محتملة لإرضاء أفرقاء النزاع السوري، لا سيما طرفه الكردي. وعززت إمكانية اللجوء إلى الفيدرالية، باعتبارها حلا أخيرا لإنهاء النزاع، خريطة انتشار القوى ميدانيًا، ومواقع سيطرتها الحالية التي قسّمت البلاد بحكم الأمر الواقع إلى دويلات حكم ذاتي، تبدأ شمالاً من إدارة الحكم الذاتي الكردي، وتنزلق غربًا إلى المنطقة العلوية في الساحل، وتمر عبر دمشق، بوصفه موقعا جامعا للحكومة المركزية، فيما تترك للدروز جنوبًا، إدارتهم الخاصة. وتشير سائر مقترحات الفدرلة في سوريا، إلى أن الخاسر الأبرز من تلك الخطط، هو السنّة العرب الذين يتضاءل نفوذهم، ويتوزعون في مناطق معزولة غير استراتيجية في الداخل السوري.

لم تتبلور خريطة التقسيم بعد. كل ما يُتداول به، لا يزال مجموعة من الاقتراحات. ففي حين رفضت جميع الأطراف المنخرطة في النزاع فكرة تقسيم البلاد، مؤكدة الحفاظ على «وحدة الأراضي السورية»، بدأت مقترحات أخرى تحتل حيزًا من تفكير المعنيين في الأزمة السورية، والدول الكبرى المعنية بها، لعل آخرها ما كشف عنه دبلوماسيون، مؤكدين أن قوى كبرى قريبة من محادثات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة بشأن سوريا تبحث إمكانية تقسيم الدولة التي مزقتها الحرب «تقسيما اتحاديا» يحافظ على وحدتها باعتبارها دولة واحدة، بينما يمنح السلطات الإقليمية حكما ذاتيا موسعا.
والنظام الفيدرالي، يعني انتفاء صفة الدولة المركزية، لتُستبدل بها حكومات صغرى في أقاليم البلد الذي يعمل به هذا النوع من الأنظمة السياسية، بينما تتولى الدولة المركزية السياسة الدفاعية والخارجية، وإلى حد ما ترسم السياسات المالية المرتبطة بالسياسات الاقتصادية وأنظمة الضرائب وغيرها، وتوكل مهام الحفاظ على النظام المالي واستقراره عبر المصرف المركزي.
والواقع أنه بعد خمسة أعوام من الحرب التي حصدت أرواح 250 ألف شخص، وشردت نحو 11 مليون آخرين، فإن الأراضي السورية باتت منقسمة بالفعل بين أطراف مختلفة منها الحكومة وحلفاؤها والأكراد المدعومون من الغرب وجماعات معارضة وتنظيم داعش.
وبحسب خرائط الانتشار الميداني الأخيرة، فإن النظام السوري يسيطر على نحو 25 في المائة من الجغرافيا السورية، بينها مراكز المحافظات باستثناء الرقة التي يسيطر عليها «داعش»، وإدلب التي يسيطر عليها «جيش الفتح» الذي يتألف من مقاتلين معتدلين ومقاتلين متشددين بينهم جبهة النصرة، وهي فرع تنظيم القاعدة في سوريا. أما تنظيم داعش فيسيطر على أكثر من 40 في المائة من الجغرافيا السورية، لكن معظم تلك المناطق صحراوية وخالية من السكان. بينما يسيطر مقاتلو المعارضة السورية وحلفاؤهم في جيش الفتح والفصائل الإسلامية، على ما يقارب الـ8 في المائة، بحسب ما أعلنت عنه الحكومة السورية المؤقتة أواخر العام الماضي، رغم أن معظم تلك المناطق مأهولة بالسكان، وتشكل عصب الانتشار الديموغرافي. وفي المقابل، تسيطر وحدات حماية الشعب الكردي على 15 في المائة من الجغرافيا السورية، وتتركز على طول الشريط الحدودي مع تركيا في مناطق الحسكة، حيث تتمدد في ريفها الجنوبي وريفها الغربي.
المقصود من طرح الفيدرالية، يعزز الاعتقاد بالعزم على تثبيت نفوذ الأكراد ضمن مناطق سيطرتهم الحالية. ويتماهى إلى حد بعيد مع مقترحات كردية. وفي أحدث تصريح له الأسبوع الماضي، أوضح صالح مسلم، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا الذي يتمتع بنفوذ واسع على المناطق الكردية في سوريا، أن الحزب منفتح على الفكرة. وقال مسلم لـ«رويترز»: «ما تصفونه ليس مهما.. قلنا مرارا وتكرارا إننا نريد سوريا لا مركزية.. فلنسمها إدارات أو لنسمها اتحادية.. كل شيء ممكن».
هذا، وأبلغ مسؤولون أكراد في أوروبا ممثلي الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وروسيا، دعمهم لقيام نظام فيدرالي في سوريا، يضمن لهم «حقوقهم» المتمثلة بـ«تكريس إدارة الحكم الذاتي في سوريا»، وهي تجربة بدأ الأكراد باختبارها منذ مطلع عام 2013، وأنشأوا لهذه الغاية «إدارة حكم مشتركة» في عفرين (شمال حلب)، وكوباني (شمال شرقي حلب)، والجزيرة (شمال شرقي سوريا)، يحكمها الأكراد وعشائر عربية ضن نظام مشاركة. وأبلغت مصادر كردية «الشرق الأوسط» أن هذه المقترحات «لاقت آذانًا مصغية بوصفها مقترحات تجنّب سوريا التقسيم الفعلي»، وبأنها «مخرج للحفاظ على وحدة الأراضي السورية»، و«بديلاً عمليًا للتقسيم القائم حاليًا على أساس عرقي وطائفي بحكم سلطة الأمر الواقع».
يستند المقترح الأخير إلى مجموعة من المعطيات الاستراتيجية، أهمها أن وضع سوريا «يستحيل أن يعود إلى ما كان الأمر عليه قبل مارس (آذار) 2011»، وأن النظام السوري الحالي «يستحيل أن يستعيد نفوذه الذي كان قبل اندلاع الاحتجاجات ضده قبل خمس سنوات». وعليه، يصبح البحث في «فكرة عملية تقوم على المشاركة الفعلية في الحكم، عبر النظام الاتحادي الفيدراليّ، هو الأفضل بالنسبة للجميع».
* تطبيق النموذج السويسري
غير أن صورة التقسيم الاتحادي، لم تتبلور بعد. تمثل جميع نماذج الحكم الفيدرالي في العالم فرصة للتجربة على النموذج السوري، عبر إسقاطها نظريًا على سوريا، ودراسة ما إذا كانت مناسبة. ورغم ذلك، يطرح المسؤولون الأكراد، النموذج السويسري في الحكم، بوصفه «الأكثر قدرة على الحفاظ على حقوق الأقليات ويمثل فرصة للحكم الديمقراطي».
لكن هذا النموذج، يصعب تنفيذه إلى حد كبير في سوريا. أستاذ القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية د. وسيم منصوري، يؤكد، لـ«الشرق الأوسط»، أن التجربة السويسرية لا ترتبط بالفيدرالية، بقدر ارتباطها بالنظام السياسي في البلاد، موضحًا أن النظام السويسري «هو نظام مجلسي، لا يطبق معايير فصل السلطات حرفيًا، كون السلطة التنفيذية خاضعة تماما لمجلس الشعب، ومن يحكم هناك هو السلطة التشريعية التي تمتلك سلطة على السلطة التنفيذية التابعة لها، وبالتالي يستطيع البرلمان أن يعين السلطة التنفيذية، ويستبدل أخرى بها». أمام هذا الواقع، يؤكد أن البرلمان في سويسرا، بشقيه الذي يمثل الشعب الذي يمثل الولايات، «هو من يحكم البلاد»، وبالتالي «يختلف عن النظام الفيدرالي في كندا أو الولايات المتحدة أو ألمانيا».
وعليه، يرى منصوري أنه «من السابق لأوانه الجزم ما إذا كان الفيدرالية في سوريا يمكن أن تنفذ بسلاسة»، مضيفًا: «كأستاذ قانون دستوري، أؤكد أنه منطقيا، من الصعب جدا أن تُحكَم سوريا وفق النظام المجلسي. ففي فترة الفراغ والبحث عن حلول يتم طرح نظريات كثيرة حول نظام الحكم، لكن كل دولة لها خصوصية، ولا بد من مقاربة الأمر من منطق الدولة نفسها، وهي نماذج من الحكم السياسي، تختلف بحسب تجارب الشعوب»، مشددًا على أنه «من المبكر الحديث عن أي صيغة للنظام السياسي في سوريا في ظل الظروف الحالية».
* خرائط متضاربة
الحال أن مقترحات الدولة الفيدرالية السورية تتفاوت بين الأحلام والوقائع. ففي بعض الخرائط التي أفرج عنها الأكراد خلال الأسبوعين الماضيين، وهم يشكلون رأس الحربة في المطالب الفيدرالية، أظهرت مواقع سيطرتهم في المنطقة الممتدة على الحدود السورية - التركية في أقصى شمال شرقي سوريا، المحاذية لحدود العراق، إلى البحر الأبيض المتوسط بمحاذاة الشريط الحدودي التركي بأكمله، مما يعد المنفذ البحري الوحيد للأكراد في سوريا والعراق وتركيا، وبعمق يقارب الثلاثين كيلومترًا داخل الأراضي السورية. وتتجاهل الخريطة التي يُروّج لها، سائر المناطق السورية التي أبقتها منطقة موحدة.
وفي المقابل، تنتشر خرائط أخرى، تحاكي الفيدرالية السورية المحكي عنها، تظهر المناطق الكردية من الحدود العراقية إلى ريف حلب الشمالي، بينما تمتد الإدارة العلوية على طول الساحل السوري باتجاه جبال اللاذقية المحاذية لسهل الغاب في حماة، بينما تمتد الدولة السنية على طول ريف حلب الشرقي باتجاه الرقة ودير الزور في شرق البلاد، أما الدولة المركزية في دمشق فتضم حمص وأجزاء من حماة وصولاً إلى دمشق وريفها، ويسكنها المسيحيون مع علويين وشيعة وسنة وأقليات أخرى.. بينما يحصل الدروز على دولة تمتد على الحدود الأردنية من السويداء إلى تخوم هضبة الجولان المحتل في محافظة القنيطرة.
الخريطتان تظهران أن السنة العرب هم الخاسر الأبرز في الدولة الاتحادية السورية. ويرى الباحث اللبناني في الشأن الجيوبوليتيكي الدكتور نبيل خليفة، أن المخطط الاستراتيجي للغرب بأكمله من روسيا وأميركا إلى إسرائيل وإيران، يتمثل في «تبديد الخطر الديموغرافي الذي يمثله العرب السنة على إسرائيل»، مشيرًا إلى أن هؤلاء الذين يناهز عددهم الـ18 مليون في سوريا «يبعثون إسرائيل على الخوف منهم، لأن خطر وجودهم على إسرائيل، يتخطى خطر السلاح»، مؤكدًا أن خطة الفدرلة «التي اتفق عليه الغرب بأكمله لصالح إسرائيل، أوكل مهمة إنجازها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ذلك أن إسرائيل لا يمكن أن تصبح دولة عرقية ودينية طبيعية، إلا في محيط يشبهها، ينقسم بين فيدراليات عرقية وقومية ودينية، كردية وعلوية ومسيحية ودرزية وشيعية وسنية، وتتفوق عليه بالقوة».
ويقول خليفة لـ«الشرق الأوسط»: «لذلك يحاول الغرب خلق معطى وواقع جديد في المنطقة يؤمن لإسرائيل البقاء مثل جسم طبيعي وليس جسما غريبا»، مشيرًا إلى أن هذا المخطط «قديم، وليس وليد اللحظة، وقد كتبت عني في كتابي الصادر في عام 2014»، لكنه يرى أن معركة تبديد الديموغرافية الأكثرية السنية في فيدراليات «قد يستغرق وقتًا وربما لا يُنجز في وقت قصير».
* التنفيذ يصطدم برفض المعارضة
ارتفعت أسهم الفيدرالية خلال الأسبوعين الأخيرين، وعشية استئناف مفاوضات السلام في سوريا في «جنيف3»، بعد تصريح نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، حول أمل موسكو بأن «يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية»، وهو ما عكس تناغمًا روسيًا وأميركيًا حول خطة مستقبلية لإنشاء فيدراليات في البلاد، بحسب ما يقول معارضون سوريون.
ذلك التصريح، استتبع بتصريحات لدبلوماسيين رفضوا الكشف عن اسمهم، نقلتها وكالة «رويترز» أمس الجمعة، تقول إن قوى كبرى قريبة من محادثات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة بشأن سوريا تبحث إمكانية تقسيم الدولة التي مزقتها الحرب «تقسيما اتحاديا» يحافظ على وحدتها مثل دولة واحدة، بينما يمنح السلطات الإقليمية حكما ذاتيا موسعا.
وقال دبلوماسي بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، طلب عدم نشر اسمه، إن بعض القوى الغربية الكبرى وليست روسيا فحسب تبحث أيضا إمكانية إقامة نظام اتحادي لسوريا وعرضت الفكرة على دي ميستورا.
وأضاف الدبلوماسي: «مع تأكيد الحفاظ على سلامة أراضي سوريا من أجل بقائها دولة واحدة، يوجد بالطبع جميع أنواع النماذج المختلفة لنظام اتحادي سيكون - كما في بعض هذه النماذج - متحررا للغاية من المركزية، ويعطي كثيرا من الحكم الذاتي لمختلف المناطق».
ولم يقدم أي تفاصيل عن نماذج تقسيم اتحادي للسلطة يمكن تطبيقه على سوريا. وأكد دبلوماسي آخر بالمجلس التصريحات.
غير أن رفض المعارضة السورية، يبقى عائقًا أمام تنفيذ المخطط الدولي. ورفضت المعارضة هذا الأسبوع اقتراحا قدمته روسيا بأن توافق محادثات السلام على نظام اتحادي للبلاد. وقال منسق المعارضة السورية رياض حجاب إن أي حديث عن هذه الاتحادية أو شيء قد يمثل توجها لتقسيم سوريا غير مقبول على الإطلاق.
لكن فكرة الاتحادية بالنسبة إلى سوريا ليست مستبعدة. ففي حديث تلفزيوني، قال المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا: «السوريون كلهم رفضوا تقسيم (سوريا)، ويمكن مناقشة مسألة الاتحادية في المفاوضات».
من جهته، لم يستبعد رئيس النظام السوري بشار الأسد، في مقابلة أجريت معه في سبتمبر (أيلول)، فكرة الاتحادية عندما سئل عنها، لكنه قال إن أي تغيير يجب أن يكون عبر الحوار بين السوريين وإجراء استفتاء لإدخال التغييرات الضرورية على الدستور. وأضاف: «آنذاك عندما يكون السوريون على استعداد للتحرك في اتجاه معين فإن الحكومة توافق بالطبع على هذا الأمر».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.