قبل أيام أرسل لي الكاتب السعودي المعروف، الدكتور تركي الحمد مقالاً للمفكر السوري الكبير جورج طرابيشي، عنوانه: «ست محطات في حياتي»، ثم وجدتُ هذا المقال يُتداول بشكل واسع ويحظى بالاهتمام والتعليق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من أن المقال قد كتب قبل نحو عام من اليوم، للكاتب الذي أعلن «الشلل الكتابي» بسبب خيبات الربيع العربي.
أهمية هذا المقال أنه يعيد تعريف المحطات التي أثّرت في حياة مفكر عظيم كجورج طرابيشي، الذي قدّم للعالم العربي أكثر من مائتي مؤلف وترجمة في الفلسفة والفكر والتحليل النفسي، أبرزها مشروعه في «نقد نقد العقل العربي»، و«هرطقات» في دراستين، وكتابه المهم «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، و«المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، وغيرها.. وهذه المحطات - في معظمها - شبيهة بالمحطات التي يمرّ بها المثقف في العالم العربي، وفي بلداننا.
المحطة الأولى من المقال، تشبه المحطة الأخيرة منه، البداية كانت مع تشّكل الوعي الديني، ممزوجًا بالصرامة والتخويف، حيث يستولى على تكوين العقل «كهنة» في الحالة المسيحية، و«مشايخ» في الحالة الإسلامية، يمارسون الترهيب النفسي لتخويف الناس من الربّ سبحانه، وزرع الرهبة في نفوسهم من الخالق عز وجل، الذي يكمن لهم بالعذاب والدمار كلما زلّت لأحدهم قدم، أو جنحت نفسه نحو ما يعتبرونه معصية. كلنا ذلك الطرابيشي، تعرفنا على الله من أقوال الخطباء الذين زرعوا الدين في عقولنا ممزوجًا بالرهبة والخوف من الخطيئة. كانوا يصبون التدين كما يُصّبُ الرصاص. لا يعيرون بالاً للعقل والمنطق والاقتناع والتفكير الحرّ، فضلاً عن الحبّ والعطف سمة العلاقة اللازمة بين الخالق والمخلوق.
ومن الطبيعي أن يعطي هذا الفعل نتائج عكسية. بالنسبة لطرابيشي الطفل المراهق الذي ظلّ الكاهن يلوح له بعذاب الله الأليم، يقول إن «الله ذاك الّذي حدثني عنه الكاهن لا يمكن أن يوجد ولا يمكن أن يكون ظالمًا إلى هذا الحدّ. ومن ذلك اليوم كففت عن أن أكون مسيحيا». ببساطة، أولئك الذين يحذرون من ظاهرة «الإلحاد»، عليهم أن يحاسبوا أنفسهم، فالطريقة التي يقدمون فيها الدين الخالية من روحه الإنسانية العالية، ومن قيمه الرفيعة في الكرامة والحرية والعدالة والمحبة والمساواة والتسامح، أولئك يجنون على الدين ويقتلون روحه، وإذا أفلحوا أنتجوا أشكالا مشوهة ومخيفة من الإنسان الملتزم بالدين. في محطته الأخيرة، حيث لجأ للصمت عن الكتابة، بعد خيبته من ربيع سوريا الدامي، محذرًا من الفتنة الطائفية والحروب الطاحنة، لاحقه إرهاب آخر، عبر التخوين والاغتيال المعنوي.
هنا، لم يكن طرابيشي وحده، فكثير من المثقفين الذين هالهم الدمار والحرب والاقتتال، لجأوا للصمت، لكن سيوف التشهير والتخوين والترهيب لاحقتهم، بل أصبحنا نسمع عبارات من قبيل: «لماذا يصمتون؟»، و«الصمت مشاركة في الجريمة!». في 18 أبريل (نيسان) 2014 كتب رضوان السيد في «الشرق الأوسط» مقالاً بعنوان: «الحملة على الإسلام والعرب»، اتهم فيه مجموعة من المثقفين العرب ممثَّلين بالراحل محمد أركون وأدونيس وعبد المجيد الشرفي وعزيز العظمة وجورج طرابيشي، بالتآمر على الإسلام والعرب، والمشاركة في «الحملة على الإسلام»، كما اتهم طرابيشي أنه في عداد جملة القوميين واليساريين والعلمانيين، المؤيدين للنظام السوري. هذا المقال دفع طرابيشي للرد عليه وتفنيده «(الشرق الأوسط) - 23 أبريل 2014».
الترهيب في الصغر كان عبر استخدام عذاب الخالق وعصا الدين، والترهيب في الكبر بالتلويح بعصا السلطة والرأي العام، عبر التخوين والعزل الاجتماعي والسياسي، في الحالتين كان العقل وحرية الاختيار هما الضحية.
محطات طرابيشي.. محطاتنا!
محطات طرابيشي.. محطاتنا!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة