يؤمن هذا المقال بضرورة تقييم التجربة النقدية: حركة الحداثة التي سادت في الثمانينات الميلادية وأنتجت عددًا من الدراسات والسجالات والفعاليات التي كانت آنذاك خارجة عن المألوف، ومثلت كسرًا للمعتاد، وتفتيتًا للاتجاهات النقدية التقليدية. ووفقًا لما هو مألوف من سمات الحداثة، فإن هذه الحركة افتقدت شرط الحوارية، وكانت أُحاديّة في تناولها النقدي، وفي تعاملها مع المناوئين، وكذلك في تعاملها البيني.
لنتفق في البدء على كون الاتجاه النقدي في حقبة الثمانينات طرق ثلاثة دروس مهمة: التنظير النقدي، والنقد التطبيقي، والسجال مع مناوئي هذا الاتجاه النقدي. لكن تلك الحركة النقدية المضيئة محليًا لم تنجح في تحقيق مستويات الوعي بأدنى مستويات الحداثة، نتيجة انغماسها في ثلاثة أبعاد يمكن وصفها بالأُحاديّة، وهي: أُحاديّة التناول النقدي في اختيارها المدونة الشعرية، والسجال الظاهر مع التقليديين، والسجال المضمر بين أفراد الحركة نفسها.
في نظرة سريعة إلى الأعمال الأدبية التي ركزت عليها الحركة، سنلحظها واقعة في أزمة التناول النقدي للمدونات الأدبية؛ إذ نلاحظ تركيزها على الشعر في أغلب درسها النقدي؛ إذ اعتمدت الحركة النقدية للحداثة على الشعر، وفي الوقت نفسه لم يكن كل الشعراء حاضرين في الدرس النقدي. ومن عوامل السيطرة على الحقل المتنافس عليه؛ الاستفادة من الإعلام بوصفه ضامن الوصول إلى الجمهور، وطريق الشهرة؛ ويعني هذا بناء أُحاديّة ثانية تخلقت داخل الاتجاه الأُحادي العام؛ تتمثل في إهمال الشاعر الذي لا ينتمي إلى هذا الحقل، ولا يضيف إلى الحركة. وأفضت هذه الأُحاديّة الثانية إلى أُحاديّة أخرى؛ هي إهمال نموذج قصيدة النثر، وتكثيف التناول النقدي لشعر التفعيلة. ولا يعني ذلك كذلك بؤس ما أنجزت دراسته في الحركة، لكنه يشير إلى فكرة استبعاد وانتقاء أُحاديّة غير مسوغة، لما كان من الممكن أن يدرس نقديًا.
قد نجد تفسيرًا آخر يفسر إهمال النفعي (البرغماتي) في منجز الحركة، والتركيز على الجمالي الشعري الأُحادي في تجربة الحركة النقدية، يتصل ذلك من خلال بناء ثنائية الناقد/ الشاعر؛ إذ لا يمكن تجاهل أن معظم أولئك النقاد كانوا شعراء غير محترفين، ويحيلنا هذا إلى أمرين اثنين: الأول عائد إلى دور الحقل نفسه في إشراك أقطاب الحركة؛ بإلقائهم الضوء على من يضيف شعريًا، وفي الوقت نفسه يحضر ما افتقده أولئك؛ يخضع الجميع وفقًا لذلك لبعد واحد يتمثل في ارتهانهم إلى الأُحاديّة؛ ذلك أن رؤيتهم للعالم كانت من منظور شعري تشكل في عقود، أدى إلى جعل منظورهم في تلك الحقبة لا يتجاوز الشعر عند الاختيار، ولا يغادر منظور الشعراء للعالم عند الاستبصار.
أهملت الحركة الرواية فنًا «برغماتيًا» فاعلاً في تغيير المجتمعات، وفي صيغة أخرى: إن أولئك النقاد قد ارتكنوا إلى الفنون التقليدية من جانب، وأهملوا الفنون الحديثة من جانب آخر. ولعل أبرز مشكلات الفنون التقليدية تتمثل في أنها ترسخ للتجربة الجمالية في النص الإبداعي، وتهمل الفاعلية والنفعية، ولذا، فإن الناتج من ذلك الدرس الثمانيني النقدي يظل مندرجًا في إطار الجمالي لا النفعي، وخاضعًا لمبدأ ينطلق من أن تلك الحركة كانت تلتزم الحداثة في تنظيرها النقدي، وتتجه إلى ما هو تقليدي في مدوناتها المدروسة، فكان الشعر، لا سيما في أنموذجه التفعيلي، أقصى ما وصلت إليه تجربتهم.
لعل هذا يقودنا إلى السؤال التالي: هل توفرت النصوص الروائية في حقبة الثمانينات؟ الإجابة: نعم.. هناك عدد من الأعمال الروائية المنجزة في الثمانينات والمهملة نقديًا، زادت على خمس وثلاثين رواية بأقلام كتاب وكاتبات من السعودية، مثل: حمزة بوقري في «سقيفة الصفا 1983م»، وهدى الرشيد: «عبث 1980م»، وعبد الرحمن منيف: «الأشجار واغتيال مرزوق 1983م».. وآخرين.
لم تتقاطع حركة النقد مع إنتاج رجاء عالم الروائي إلا في منتصف التسعينات في عمل «طريق الحرير»، (صادر في 1995)، مع أن عملها الروائي «أربعة صفر»، (1987)، قد حقق نجاحًا خارج المشهد السعودي بفوزه بجائزة «معهد ابن طفيل» من إسبانيا. ولعل ذلك يفسر مدى التهميش لفن الرواية آنذاك. ولا يفوتنا أن نذكر أن الاهتمام ببعض الأعمال السردية الأخرى؛ تحديدًا القصة القصيرة؛ قد اقتصر على الأعمال التي تتبنى التكثيف في اللغة، القريبة من الشعر، فكانت محط اهتمام لها.
كان تناول بعض نقاد هذه الحركة النقدية الأعمال الروائية محصورًا بعد غلبة الرواية في مرحلتي التسعينات وما بعدها، في اتجاهين اثنين: أحدهما التركيز على الأعمال التي لها صبغة شعرية، والتفاعل معها بصورة قوية؛ مثل روايتي «طريق الحرير» لرجاء عالم، و«سقف الكفاية» لمحمد حسن علوان، ولا يجمع بين العملين السابقين سوى الشعرية المكثفة فيهما، التي عدّها نقاد الحركة أساسا للتفاضل في الرواية، وسقفًا إبداعيًا للنموذج الروائي، ولا دافع لهذا الاتجاه سوى بقايا تمجيد نقدي سابق للشعر من شعراء سابقين، وتمثل للمرحلة نفسها. أما الاتجاه الآخر فيتجلى في تعليقات سريعة تمثل أحكامًا سريعة نابعة من نماذج نقدية سلطوية على أعمال روائية مفردة، أو حكم نقدي على روائيين في مجموع أعمالهم.
خضعت هذه الحركة النقدية إلى شرط الحقل الأُحادي المتنافس عليه؛ في توافقها مع الفن الأدبي السائد (الشعر)، وتركها الحواري الديالوجي الروائي، ولم تصدر عن تفعيل نقدي لهذا الفن إلا بعد دخول مرحلة التسعينات، وكان الرهان على الشعري يتمثل في رهان على مضامين وقضايا تناولتها نصوص تلك الحقبة. والحركة بهذا تصدر إعلانا غير منشور يقرأه كل من استوعب فكرها؛ ويكمن في أن الحداثة تكمن في الموضوع والمضمون بوصفه آنيًا، لا الشكل والبناء بوصفه استمراريًا.
إن الحقل الأدبي مجال لممارسة السلطة وفرض الهيمنة، ولذلك كان من استراتيجيات الحركة أن تقاوم العناصر الفاعلة والمؤسسات المنغمسة في الصراع الأدبي، وتحقق لها ذلك بالمواجهة مع تلك العناصر الفاعلة ضمن بنية الحقل؛ كان الصراع بين التقليديين وأعضاء حركة الحداثة صراعًا رمزيًا أثرته ظروف الهيمنة التي أوجدت ذلك الصراع الدامي بين فئتي: الطامحين والمهيمنين. كان الطامحون، وهم أعضاء حركة الحداثة، يمثلون الداخل الجديد الذي يدخل في صراع قائم مع المهيمنين الذين يحتكرون السلطة النوعية و«الذين يحاولون الدفاع عن احتكارهم للرساميل الرمزية»، وفقًا لبورديو، ويسعون إلى إقصاء المنافسين الجدد؛ وهذا ما تحقق لتلك الحركة بصفة مؤقتة؛ إذ كان هذا الصراع فرصة لتقديم إنتاجهم، ومن ثم بسط نفوذهم، مع أن تأثيراتهم كانت على فئات محدودة من الجمهور الأدبي.
من جانب آخر، يقودنا ذلك إلى ما هو أهم: ما علامات غياب الحوار عن تلك التجربة؟ إن السجال غير العلمي أثناء حدوث الصراعات التي سادت تلك الحقبة، يؤكد غياب الحوار إلى حد كبير في التجربة السجالية بين هؤلاء النقاد وخصومهم؛ أولئك الخصوم الذين لا يُشك في أُحاديّتهم، ومع الإيمان بأن سطوة الخصوم وقسوتهم ضد الحركة، قد قادت إلى مثل هذا الغياب للحوار، واعتماد الرؤية الواحدة بناءً على آليات سجالية مختلفة، تبناها معظم أقطاب حركة الحداثة، فقد تجلت بعض الردود من مقالات الغذامي والعلي والسريحي، وقد اشترك كل هؤلاء في الارتكان إلى آليات سجالية عامة، نابعة من السائد الذي يتبناه الاتجاه المخالف، ولعل أبرز تلك الآليات المشتركة: استثمار الخطاب الديني، وشتم الخصم والسخرية منه، والتهديد (إن عُدْتُم عُدْنا). وتعد الآلية الأخيرة أبرز آليات الخطاب السّجالي المشتركة التي راجت بين التقليديين والحداثيين في ذلك السجال. لقد بنيت تلك الآلية على غلبة الحجة وقدرة المساجل على الرد قبل الشروع في الرد على الدعوى المضادة، الأمر الذي يُبرز الخصم في صورة من لا حجة له، وتأتي تأكيدا للإصرار على المتابعة حتى النهاية، فتبدو حال المساجل كالمحارب الذي لا يكف عن القتال حتى ينتصر أو يموت.
كانت المجموعة تشكل فريقًا واحدًا متجانسًا، توحد فيه الناقد والشاعر والصحافي، كما مثلته مجموعة «منطق النص» التي يمثل أفرادها هذا التجانس والاتفاق، لكنها تفتت؛ إذ كانت، كما يشير الغذامي «صحوة ظرفية مؤقتة، لم تصمد كأسماء ولا كحركة نقدية». إن الشعور بالاطمئنان وعدم القلق، واحتكار رأس المال الرمزي لذلك الجيل؛ جعل أفرادها المتنافسين يبدأون في محاولة الاستئثار بعلاقات القوة في الحقل نفسه؛ رغبة في امتلاك رأس المال الرمزي الذي حظيت به الحركة، فتحولت الحركة نفسها: الاسم، والمنجز، والتنظير، إلى مجال صراع رمزي، شارك فيه أعضاؤها من النقاد والشعراء، وأصبح كل واحد منهم مشروع صراع مع زملائه؛ لا سيما بعد صدور كتاب «حكاية الحداثة». إن المنافسة شرط للنجاح بين الأقران، لكنها في كل ما سبق تجاوزت إلى الاتهام والتقليل من منجز الآخرين، فألقت بظلالها على الحركة. كانت تلك السجالات الأولية سجينة عقد من الزمن، ولو كتب كل أفراد الحركة عن الحداثة، لرأينا فجوات وصراعات كبرى، تنبئ عن بوادرها منشورات الصحافة، ومدونات الكتب حتى الآن.
تبدو العلاقة بين الأبعاد السابقة: التناول النقدي، وسجال المعارضين، وتفتيت الحركة، علاقة تكاملية؛ فكما قاد التناول النقدي ظاهريًا إلى سجالات مختلفة مع أرباب التقليد الأدبي، ومن ثمّ إلى صراع أفراد المجموعة؛ فإن التناول النقدي الأُحادي المضمر يؤكد أن غياب الرواية عن منجز الحركة النقدي في تلك الحقبة، أوجد نسقًا مونولوجيًا أحاديًا قاد الحركة إلى سجال ظاهر مع التقليديين، وسجال مضمر بين أفراد الحركة، ما لبث أن برز للعيان بعد انتهائها. وأخيرا ينبغي القول: إن وصف حركة الحداثة بالأحادية في هذا البحث لا يقلل من منجزين، أراهما مهميْن لها؛ إذ تناوب أفرادها في تقديم ذلك؛ وهما: التنظير النقدي الحديث، وتحمل أضرار كبيرة لحقت بأعضائها البارزين مثل الغذامي والسريحي وعالي القرشي.. وآخرين، وذلك نتيجة مؤامرات دامية من تيار تقليدي كسيح معرفيًا.
* موجز لورقة عمل قدمت في «ملتقى النص الأدبي الرابع عشر» الذي أقامه نادي جدة الأدبي مؤخرًا