أشرف ريفي.. «حارس مرمى» الجمهورية اللبنانية

يوصف بأنه «حالة حريرية مستقلة».. ولذا استقال من الحكومة معبرًا عن قناعته

أشرف ريفي.. «حارس مرمى» الجمهورية اللبنانية
TT

أشرف ريفي.. «حارس مرمى» الجمهورية اللبنانية

أشرف ريفي.. «حارس مرمى» الجمهورية اللبنانية

في الأسابيع الأخيرة كان وزير العدل اللبناني أشرف ريفي الذي اصطلح على وصفه بـ«الوزير المشاكس» داخل الحكومة، هو الحدث في لبنان، خصوصًا بعد استقالته المفاجئة من الحكومة.
ريفي كان أعلن أكثر من مرة تبرّمه من حكومة ليست عاجزة عن حل مشكلات الناس فحسب، إنما باتت مطية لـ«حزب الله»، خصوصًا أنها بدت عاجزة عن التصدي لموقف وزير الخارجية جبران باسيل الذي أخرج لبنان عن الإجماع العربي، وأسهم موقفه في جامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي في ضرب علاقة لبنان بالمملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى.

أنصار وزير العدل اللبناني المستقبل اللواء أشرف ريفي يرفضون تسميته بـ«المشاكس»، بل يعتبرونه صاحب مبدأ الدفاع عن الدولة في وجه الدويلة. والرجل المتصالح مع نفسه، وصاحب الموقف وليس الموقع. ويقول هؤلاء: «أشرف ريفي كان في الموقع (الحكومة) مع وضوح في الموقف، واليوم ماضٍ في الموقف من دون الموقع، خصوصًا بعدما لمس أن هذا الموقع لم يعد يخدم القضية التي دخل الحكومة من أجلها».
أيضًا يرفض أصدقاء ريفي مقولة انقلابه على قرار تيار «المستقبل»، إذ يؤكدون أنه ليس عضوًا في هذا التيار، لكنه «حالة حريرية مستقلة»، والقواسم المشتركة بينه وبين الرئيس سعد الحريري كبيرة جدًا، لكن عندما يكون القرار في تيار المستقبل غير منسجم مع قناعته يعبّر عن رأيه بوضوح، مثل حالة ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. ومن ثم، يشددون على أن اللواء المتقاعد سيبقى مقاتلاً شرسًا لقضيته، فلا تساهل ولا مسايرة على مبدئه وقناعاته.
نشأ وزير العدل اللبناني أشرف ريفي في عائلة فقيرة وعصامية، لكنه كان مسيّسًا من نعومة أظفاره، ولقد عايش حقبة صعبة جبلته في السياسة كما في الأمن والروابط الاجتماعية.
والده، أحمد ريفي، كان يمتلك مطحنة للحبوب في منطقة القبّة الشعبية الفقيرة في مدينة طرابلس عاصمة شمال لبنان، حيث ولد نجله أشرف مع شقيقين وخمس شقيقات.
حال الأب لم تكن تسمح بتعليم أولاده الثمانية في مدارس خاصة، فاتجه أشرف للدراسة إلى مدرسة القبة الرسمية (الحكومية). وإلى جانب متابعته دراسته في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، كان يساعد والده مع شقيقيه الأكبر عبد الرحيم والأصغر جمال في المطحنة التي يستثمرها الوالد، فكان يغسل البرغل، وهو القمح مسلوقًا ومكسّرة حبوبه، قبل سلقه. بيد أن شغفه برياضة كرة القدم كان واضحًا منذ الصغر. إذ عشق هذه الرياضة الأكثر شعبية، فانتمى إلى «النادي الاجتماعي» المعروف في الوسط الرياضي اللبناني، وكان حارس مرماه الأساسي.
وبعد مرحلة المتوسطة، انتقل الشاب الطامح لدراسة الهندسة إلى ثانوية المئتين في حرمها بشارع المئتين الموازي لشارع عزمي، أحد أكبر شوارع طرابلس وأشهرها. وفي هذه المدرسة أكمل علومه الثانوية، لكنه بدا أكثر انخراطا في الشأن العام من خلال نشاطه في الحركات الطلابية التي توّجت بانتخابه رئيسًا لرابطة الطلاب في الثانوية. وعلى الصعيد العائلي لم يكن الشاب الطامح لكل شيء بعيدًا عن أجواء السياسة، فوالده كان مسؤول الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان يرأسه الزعيم الراحل كمال جنبلاط (والد النائب وليد جنبلاط) وبقي في هذا المنصب إلى أن توفي في عام 1993.
وفي عام 1973 نجح ريفي في مباراة الدخول إلى الكلية الحربية كتلميذ ضابط في قوى الأمن الداخلي. وإلى الكلية الحربية نقل معه هوايته الرياضية، وغدا حارس مرمى فريق الكلية الحربية لكرة القدم أيضًا.
يروي عارفو ريفي قصة لافتة، إذ خلال دورة لكرة القدم، تأهل للمباراة النهائية فريق الكلية الحربية وفريق الجامعة الأميركية في بيروت وأقيمت هذه المباراة على ملعب الأخيرة. وأثناء المباراة احتسب الحكم ركلة جزاء ضّد فريق الحربية، وكان الفوز في هذه المباراة أمرًا حاسمًا في تحديد هوية بطل الدورة. وبينما كان ريفي يتهيّأ لمواجهة ضربة الجزاء، تقدّم منه قائد الكلية الحربية - الذي كان يتابع المباراة مع عدد كبير من الضباط - وهمس في أذنه: «إذا نجحت في صدّ هذه الكرة، سأعفيك من الحجوزات طيلة سنوات الدورة الثلاث». وقبل حارس المرمى الشاب ذلك التحدّي وتمكن من كسبه، إذ صد الكرة وساعد فريقه على أن يتوّج بطلاً لتلك الدورة.
تخرّج ريفي ورفاقه من الكلية الحربية لكن فرحة التخرج لم تكتمل، إذ ما إن انتهت الدورة العسكرية، في العام أواخر العام 1975 حتى وقع ما يعرف بـ«انقلاب اللواء عزيز الأحدب» على السلطة الشرعية في الأشهر الأخيرة من عهد الرئيس سليمان فرنجية. وبالتالي، اضطر كل ضابط متخرّج إلى الالتحاق بمنطقته بعد انفراط عقد الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية.
غير أن الضابط المتخرج الشاب رفض أن يكون جزءًا من محاور الصراع في الداخل، فاختار العاصمة الفرنسية باريس وجهة له. ومن هناك التحق بعدد من رفاقه الذين سبقوه إلى جامعة مونبلييه العريقة بجنوب فرنسا، ليختار التخصص في هندسة الكيمياء ويتابع تحصيله العلمي. ولكن سرعان ما طرأ في لبنان تطوّر جديد أعاده إلى أحضان مؤسسته الأمنية. فإثر انتخاب الرئيس إلياس سركيس دعا الرئيس الأسبق الراحل كل موظّفي الدولة في المؤسسات المدنية والعسكرية إلى العودة إلى مؤسساتهم، فحزم ريفي حقائبه وعاد إلى لبنان على الفور ليلتحق بمؤسسة قوى الأمن.
وهنا يؤكد أصدقاء اللواء ريفي أن الأخير ترك بصماته في كل المراكز التي شغلها، لكن الموقع الذي أثّر وتأثر فيه، هو مركز رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي. لقد كان أول ضابط يعيّن في هذا الموقع، ومنه تمكن من نسج شبكة علاقات مهمة مع كثرة من الإعلاميين، وهو يعتز بأن معظم أصدقائه الإعلاميين من تلك الحقبة شغلوا مناصب رؤساء تحرير في مؤسسات إعلامية مهمة، وعلاقاته بهم مستمرة حتى الآن.
من ناحية أخرى، عزّزت علاقات ريفي المميزة مع مَن هم على احتكاك معه ثقة رؤسائه به، وكانت بالتالي مدخلاً لتعيينه رئيسًا لسرية رئاسة الحكومة في أواخر عام 1988. تزامن ذلك مع دخول لبنان مرحلة دقيقة جدًا كان فيها الدكتور سليم الحص رئيسًا لحكومة مدنية مقابل حكومة عسكرية كان يرأسها ميشال عون. وحينذاك، ساعده قربه من الحص ومن الوسيط العربي الأخضر الإبراهيمي في مرحلة التحضير لـ«اتفاق الطائف» في أن يطلّ على المجتمع السياسي من بابه الواسع، فتعمّقت علاقاته مع السياسيين اللبنانيين وغير اللبنانيين بشكل أوثق.
بعد استقالة حكومة الحص التي أتت بعد الطائف، عُيّن الرئيس عمر كرامي رئيسًا للحكومة، ولأن عائلة ريفي على خصومة سياسية محلية مع آل كرامي في مدينة طرابلس، كان الشرط الأول لرئيس الحكومة نقل ريفي من هذا المنصب. وفي الحقيقة، لم يفاجأ الأخير بهذا القرار، الذي أدى إلى تعيينه مديرًا لجهاز أمن الدولة في شمال لبنان، حيث بقي فيه إلى أن تولّى رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة.
عارفو ريفي يروون أن الحريري الأب استدعاه ذات يوم في عام 1994 إلى مكتبه في السرايا الحكومي ببيروت وأبلغه أنه سيؤسّس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وطلب منه تسلّم رئاسة هذا الفرع. بالفعل، أعطاه هذا الموقع خبرة كبيرة في مجال الاستعلامات والمخابرات، غير أن الوصاية السورية - في تلك الأيام - كانت ترسم سقفًا لهذا الفرع بحيث لم يتخطّ الـ120 عنصرًا و7 ضباط. ثم استبعد من رئاسة فرع المعلومات مع خروج رفيق الحريري من الحكم مع وصول إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية.
عند هذه المحطة نقل ريفي إلى الشمال، وجاء نقله بما يشبه المنفى المعنوي، لكنه مع ذلك بقي على تواصل مع رفيق الحريري، وكان يزوره ثلاث مرات في الأسبوع (الاثنين والأربعاء والجمعة) مرتديًا البزة العسكرية متمردًا على كل المحظورات والمضايقات التي كان يتعرّض لها من قيادته. ويذكر أنه في تلك الفترة افتتح لحود عهده بحرب إعلامية وقضائية وأمنية عنيفة على الحريري غايتها إخراجه من الحياة السياسية في لبنان، مُستندًا بذلك على ما كان يُعرف بـ«الجهاز الأمني اللبناني السوري».
بعد ذلك، شكّل فوز رفيق الحريري الكاسح في انتخابات عام 2000، فرصة لعودة ريفي إلى رئاسة جهاز المعلومات، إلا أن رئيس جهاز الأمن والاستطلاع السوري (المخابرات) في لبنان اللواء غازي كنعان وضع «خطًا أحمر» أمام الرغبة الحريرية. وفي ضوء ذلك كان المكان الأفضل لريفي رئاسة قسم المباحث الجنائية الخاصة، الذي بقي فيه إلى أن أخرج الحريري لآخر مرة من رئاسة الحكومة في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2014. وبعد تولّي النائب الحالي سليمان فرنجية منصب وزير الداخلية نقل ريفي عقابيًا إلى المفتشية العامة لقوى الأمن الداخلي بما يشبه المنفى السياسي.
يتحدث أصدقاء ريفي عن الأثر السلبي الذي تركه اغتيال رفيق الحريري في نفسه. ويذكرون أنه صباح يوم الاغتيال، 14 فبراير (شباط) 2005، وصل ريفي مع زوجته المحامية سليمى أديب إلى قصر قريطم عند العاشرة صباحًا واجتمع بالحريري لمدة 25 دقيقة، وكانت أمام الأخير صحيفة «المستقبل» التي نشرت في «المانشيت» تعيين آصف شوكت (صهر بشار الأسد) رئيسًا لشعبة المخابرات العسكرية السورية، وما ترك ذلك من دلالات أمنية لافتة كان لها تفسيراتها في مرحلة ما بعد الاغتيال.
واقعة لافتة أخرى يرويها لصيقون بريفي أيضًا؛ أنه «ليل 24 ديسمبر (كانون الأول) 2014 أي ليلة يوم الميلاد، كان يمارس رياضته في نادي «باناسيا» الرياضي بمنطقة الجناح في بيروت، حضر مسؤول أمني وأبلغه أن اسم رفيق الحريري وضع على لائحة الاغتيال بقرار سوري كبير. فورًا ترك (ريفي) رياضته وانتقل على عجل إلى قصر قريطم وعقد جلسة مع الحريري أبلغه مضمون الرسالة التي وصلته، أي أن القيادة السورية اتخذت القرار باغتياله ووضعته موضع التنفيذ بغضّ النظر عن الجهة المنفذة. ومن ثم، تمنّى على الحريري ألا يتساهل في هذا الأمر بل يتخذ كل الاحتياطات اللازمة. كذلك نصحه بأن يغادر البلد في هذه المرحلة ولو لفترة قصيرة إلى أن تتبدل الظروف. لكن جواب الحريري كان: «أنا أعرف أن لديهم إرادة باغتيالي، لكنهم لا يجرؤون على فعلها لأنها ستكلّفهم الكثير، ولدي تطمينات من قادة دول مؤثّرة حصلوا عليها من بشار الأسد شخصيًا». ولم تتوقف تحذيرات ريفي عند هذا الحدّ. ففي الأسبوع الأول من يناير (كانون الثاني) 2005 التقى ريفي شخصية أمنية على علاقة بالسوريين، وأبلغه الأخير أن الأجواء غير مطمئنة بالنسبة للحريري، وكرّر إبلاغ الأخير بالأمر، لكنه سمع منه الجواب نفسه. وعندها ردّ ريفي: «أنت تعرف أن هذا النظام لا يقيم اعتبارًا للعلاقات الدولية، والجو ذاهب باتجاه الاغتيال بغض النظر عن الأداة التي قد تنفذ الجريمة». في الأول من أبريل (نيسان) 2013 أحيل ريفي على التقاعد لبلوغه السنّ القانونية (59 سنة) فكان تقاعده من مؤسسة قوى الأمن خسارة كبيرة لفريق «14 آذار» الذي أخفق في التمديد له لأن الحكومة التي كان يرأسها نجيب ميقاتي كانت خاضعة لنفوذ «حزب الله».
وبعد التقاعد كان ثمة فترة زمنية فاصلة لتقييم مرحلة ما بعد التقاعد. لكن لا الشأن العام ولا الوضع الأمني تركا ريفي وشأنه، إذ تعرض عام 2013 لإصابة طفيفة جراء تفجير سيارة مفخخة أمام منزله في طرابلس المواجه لمسجد السلام في طرابلس الذي فجّر بالتزامن مع تفجير مسجد التقوى، وأودى تفجيرا المسجدين إلى مقتل 54 مصليًا وجرح أكثر من 250 آخرين. ولقد ردّد ريفي غير أن معلوماته تفيد أنه كان المستهدف بالتفجير، خصوصًا أن السيارة المفخخة كانت تحاول الوقوف أمام منزله في البداية، لكن حراسه منعوا سائقها من الوقوف فالتف وأوقفها في الجهة المقابلة.
بعد تلك الفترة سافر ريفي لأيام إلى المملكة العربية السعودية، ثم قادته سفرة عائلية طويلة إلى فرنسا وأستراليا، قبل أن يعود إلى لبنان ويستأنف علاقاته مع الناس، إلى أن شكلت حكومة الرئيس تمام سلام. ويقول مقربون منه أن اسمه كان مطروحًا كوزير للداخلية، لكن فيتو «حزب الله» حال دون تسلمه هذه الوزارة. وعندها عرضت عليه وزارة الشؤون الاجتماعية، لكن ريفي رفضها. وفي نهاية المطاف، رست التسوية على تسليمه حقيبة العدل، فكان له دور في تنظيم هيكليتها الجديدة، وإنجاز خريطة المحاكم التي تخدم لبنان لـ50 سنة مقبلة، بالإضافة إلى إعداد مشروع قانون المنظومة القضائية الجديدة البديلة عن المحاكم الاستثنائية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.