تناول القبح في الفن يعني بالضرورة التنبه إلى إشكالية تأخر الاعتراف بحضوره وأهمية تناوله وبيان الفجوة بين الممارسة الإبداعية للقبح داخل الأعمال الفنية والنظرة النقدية له
فعلى عكس الفنانين ظل النقاد بعيدين عن تناول ظاهرة «تمظهر» القبح داخل الأعمال الفنية لتجرى الأعمال الفنية إلى تعلة الأخلاقيات الاجتماعية الخاصة بمجتمع ما، هذا الموقف لم يمنع بروز نظريات فلسفية فرقت بين القبح واقعا وبين تمثيله الجمالي، فكتور هيجو يعتبر أن القبح واقعا يمثل منبعا ودافعا للفن ويساهم في توسيع المشهدية الجمالية داخل العمل الإبداعي بحيث قد يتفوق عما سواه من الأعمال الإبداعية.
من هنا كان الاحتفاء بالموضوعات القبيحة داخل مجتمع ما إبداعيا يمثل وعيا بالدور التربوي والثقافي للفن ومحاولة إيجاد واقع بديل يعزز القيم الأخلاقية والتربوية والثقافية وهو ما رآه ولتر ستيس في كتابه «معنى الجمال»، فاعتبر أن تناول القبح يخلق شعورا بالاستياء -أي أن يصبح الفن مرآة المجتمع - إضافة إلى المشاهدة الجمالية التي يحققها.
هذا الشعور بالاستياء مع مقابلة جمالية حققتها المشاهدة هو ما سنرصده في مسرحية «العنف»، فبعد خمس سنوات يعود التونسي فاضل الجعايبي إلى المسرح بعمل جديد مع رفيقة دربه جليلة بكار في عمل من إنتاج المسرح الوطني.
مسرحية «العنف» تجمع بين مجموعة «فاميليا» - فاطمة بن سعيدان ونعمان حمدة ولبنى مليكة - وأربعة شبان من مدرسة الممثل - أيمن الماجري وأحمد طه حمروني ومعين مومني ونسرين المولهي -
ترتكز المسرحية على الحكايات التي تتقاطع كلها حول ظاهرة العنف، يذهب بنا الثنائي الجعايبي وبكار للسؤال ما يحصل هنا والآن؟
أن تقتل امرأة زوجها، أن يذبح واحد منا صديقه من الوريد إلى الوريد، أن ترمي أم بابنها بين ألسنة النيران، أن يُلقي مجموعة من التلاميذ بأستاذهم من الطابق الأول متسببين في وفاته، فلا بد أن نسأل ونتوقف طويلا أمام المرآة لنرى انعكاسنا ونتأكد من إنسانيتنا ونتساءل عما يحدث فينا وحولنا.
في حقيقة مسرحية «العنف» لم تذهب بعيدا، ولعل الصورة التي تنقلها هي ذاتها الصورة التي نسمع عنها يوميا من هنا وهناك في أحاديثنا أو حتى في الإذاعات التونسية ونراها في برامج الواقع على القنوات التونسية.
لعلها أيضا السؤال الكبير الذي يلح داخل عقول التونسيين اليوم عن الذين يسافرون لسوريا لأجل الدم والقتل، لعلها تلك الصدمة العميقة التي أصبحنا ننام ونستفيق عليها بعد كل حادث.
من هذا المنطلق تنبش مسرحية العنف داخل جسد التوحش، تعري الجريمة وتعلق حبال القتل بغوصها عميقا داخل هذا الكائن الذي يسمى «إنسانا» وذلك التحول الحيواني الذي يصيبه لحظة ذهابه ناحية العتمة، لحظة ارتكابه «للجريمة».
مسرحية العنف جاءت عنيفة، حتى من الناحية اللغوية التي اختارت معجم الجريمة (ذبح، نحر، خنق، حرق،...)، اللغة ها هنا اتخذت أشكالا متنوعة فلم تقتصر على الكلام ولكن ذهبت إلى ذلك العناق بين النص والأجساد ضمن حركته وانفعالاته واستجاباته للفعل المسرحي. عاضد هذا السينوغرافيا (ديكور سوداوي - حديدي) مع موسيقى قاسية تدفع بالمتفرج نحو عالم المسرحية المفجعة.
عوامل تساعد وتدفع بالمتفرج للتشبث والذهاب داخل المسرحية، عوامل لا تترك أمامك فرصة النجاة ومحاولة الهروب دون تتبع أحداثها وتعلق بها للنهاية.
مسرحية «العنف» لا تدين القاتل ولكنها أيضا لا تبرئه، هي فقط تعري الظاهرة - القبح - وتنبش داخل المجتمع التونسي، تحاول أن تجعله ينظر ويتساءل ويُحاول إيجاد الطريق ليضع يديه على الجرح ويحاول إيجاد الدواء، تحاول لفت الانتباه إلى بيئة أصبحت مهددة بالإرهاب.
جليلة بكار وفاضل الجعايبي وفريق الممثلين استطاعوا أن يعيدوا للمسرح «رسالته» عبر عمل جمع بين المتعة الفرجوية والرسالة الإبداعية الهادفة، عمل قد يبدو «متوحشا» ومفجعا وموجعا وعنيفا على كل المستويات، عمل يسيل منه الدم، سواء عبر الصورة التي يقدمها أو اللغة التي اختارها أو كموضوع، ولكنه عمل - حسب اعتقادي - انتصار للرسالة التي يتوجب على الفن أن يتبناها ويسير وفقها خصوصا في ظل كل التحديات التي تواجهنا اليوم وتجعلنا أمام اختبار يكاد يكون لحظيا لإنسانيتنا ومنابع الخير فينا واتزان العقل داخلنا.
مسرحية «العنف».. الفن في مواجهة القتل
التونسي فاضل الجعايبي وجليلة بكار في عمل جديد من إنتاج المسرح الوطني
مسرحية «العنف».. الفن في مواجهة القتل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة