10 سنوات على حكم حماس (3 - 4): 165 ألف طفل يعملون في الشوارع وورش البناء وعلى الحدود الخطرة

ظاهرة تتسع مع «استمرار الحصار» وتوالي «الحروب»

TT

10 سنوات على حكم حماس (3 - 4): 165 ألف طفل يعملون في الشوارع وورش البناء وعلى الحدود الخطرة

ما إن يُنْهِ «وليد» (12 عاما) دوامه الدراسي في إحدى مدارس الأونروا المجاورة لمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة حتى يعود مسرعا إلى منزل عائلته في المخيم الأكثر اكتظاظا، حاملا بعضا من «علب الدخان» و«العلكة»، ويخرج ثانية ليتجول بها في حي الرمال، أحد أرقى الأحياء في قطاع غزة، الذي يُعد من أكثر المناطق رغبةً لدى الغزيين لقضاء وقتهم فيه إلى جانب شاطئ البحر.
ويختصر يوم وليد المليء بالمعاناة، الناتجة عن التفاوت المعيشي والحياتي الشاسع الموجود في القطاع (مخميات مكتظة قبالة أحياء راقية).
وعادة ما يملأ الباعة الفقراء المناطق الأكثر رقيا أو حيوية في غزة، كالرمال، وميدان فلسطين، والمناطق الساحلية، خصوصا في الصيف، من أجل كسب لقمة العيش. ويحصل أولئك الأطفال على البضائع التي بحوزتهم، إما بدعم من أهاليهم، وإما بدعم من أصحاب محال بهدف تصريف بضاعتهم وكسب المال بطرق أخرى.

ووليد واحد من ثلاثة أشقاء تبلغ أعمارهم ما بين التاسعة والسادسة عشرة، يعملون جميعا في مجال بيع «الدخان» و«العلكة» و«المكسرات» و«المشروبات الساخنة»، في ساحة الجندي المجهول بحي الرمال وسط مدينة غزة. ولجأ الأشقاء الثلاثة إلى ذلك بسبب ضنك العيش الشديد الذي تعيشه أسرتهم، جراء الأوضاع الاقتصادية والحياتية الصعبة في القطاع. ويكاد والدهم الذي يعمل في قطاع البناء يحصل على مبلغ 50 شيقلا، أي ما يعادل نحو 13 دولارا، في الأسبوع، بسبب عدم توفر العمل بشكل يومي، نتيجة لعوامل عدة، منها نقص مواد البناء وتحكم الاحتلال في إدخالها وآلية توزيعها على المواطنين وفقا للنظام المعمول به منذ انتهاء الحرب الأخيرة على قطاع غزة.
وقال وليد بلغته العامية لـ«الشرق الأوسط»: «يوميا بأجي هان (هنا) على الرمال مشان (لكي) أبيع البضاعة اللي بجيبها أبوي، بدنا نعيش وما فيه حل ثاني لنصرف على البيت ونوفر أكلنا».
أما عن تأثير ذلك على دراسته، فقال إنه في نهاية الأمر لا يفكر أبدا بترك الدراسة، بل يجتهد ويخصص لها ساعتين يوميا بعد عودته من العمل، لكن في وقت متأخر جدا. وأضاف: «وقت الصبح عم روح على المدرسة مشان أتعلم، وبعد ما يخلص الدوام برجع ع البيت، بترك شنطة المدرسة وبروح آكل خبزة صغيرة فيها زعتر أو جبنة، بعدين باخذ شنطة البضاعة اللي فيها الدخان والعلكة، وبروح مشي على الرمال مشان أبيعها»، مشيرا إلى أن ما يحققه يوميا من بيعه للبضاعة وحده، من دون شقيقيه الآخرين، يبلغ ما بين 40 إلى 50 شيقلا، أي ما يعادل 13 دولارا، وفي أفضل الأحوال قد يصل إلى نحو 70، أي ما يعادل نحو 18 دولارا.
أما فاضل (16 عاما)، وهو الشقيق الأكبر لوليد، فيعمل مع أصحاب المحال لتوفير البضاعة بسعر التكلفة. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذا يضمن لنا سعرا أقل وربحا جيدا ويخلص التجار من بضاعتهم كذلك».
ويشير فاضل إلى أنهم لا يعتمدون فقط على بيع الدخان والعلكة، بل يعملون على بيع ما يمكن توفيره من بضائع مختلفة، حتى أنواع مختلفة من الشوكولاته أو «علب المحارم»، إضافة إلى المشروبات الساخنة، مثل الشاي والقهوة، وغيرها من البضائع الخفيفة التي يمكن حملها والتجوال بها.
وبينما يحلم وليد وشقيقه الأصغر أحمد باستكمال دراستهما وتغيير حياتهما، اضطر فاضل إلى إنهاء دراسته عند الصف الثالث عشر، لعدم قدرته على التوفيق بين العمل والدراسة. وقال فاضل إنه وصل إلى مرحلة أصبح غير قادر فيها على التوفيق بين عمله ودراسته، ففضل مساعدة عائلته. ويخشى فاضل من أن يضطر أشقاؤه إلى اتخاذ القرار نفسه، لكنه يأمل بتغير الأحوال.
ومثل هؤلاء الأطفال ينتشر مئات آخرون في مفترقات قطاع غزة الرئيسية والفرعية كافة، يتنافسون في ما بينهم على تصريف البضاعة التي بحوزتهم، بالإصرار على السائقين والمواطنين بشراء ما يحملونه. ولا تحرك أي جهات مسؤولة في غزة ساكنا من أجل منع هذه الظاهرة أو تطويقها على الأقل.
ولا تنحصر عمالة الأطفال في البيع في شوارع غزة، بل رصدت «الشرق الأوسط» كثيرا منهم يعملون في أعمال شاقة، كقطاع البناء، أو جمع الخردوات والنحاس والبلاستيك، حتى في المناطق الحدودية، ما يشكل خطرا على حياتهم، وكان تعرض بعضهم لإطلاق نار من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، ما أدى إلى وقوع جرحى.
ويغادر مهند اللهواني (11 عاما) من سكان بلدة بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، الذي ترك دراسته منذ أكثر من 3 أعوام، منزل عائلته يوميا، في ساعات الصباح الباكر، ليقترب من الحدود الشمالية الغربية والشرقية من بلدة بيت لاهيا، بحثا عن بعض البلاستيك والنحاس وغيرها، من تلك المواد التي يجمعها ليبيعها لمحال متخصصة في استخدام تلك الخردوات والأدوات، لإصلاحها واستخدامها في أعمالهم المختلفة.
وقال اللهواني لـ«الشرق الأوسط» إنه يكسب يوميا ما يقرب 30 شيقلا فقط، يسلمها إلى والدته التي تعيل عائلة من 5 أطفال هو أوسطهم، إذ يكبره شقيقان يبلغ أحدهما 13 عاما والآخر 15 عاما، وكلاهما يعمل في المهنة عينها، لكن أحدهما ما زال يحاول الحفاظ على الاستمرار في التعليم والدوام يوميا في مدرسته، ومن ثم العمل بعد عودته، ليعيلوا معا عائلتهم، بعد فقدانهم والدهم إثر مرض مفاجئ ألمّ به منذ نحو 8 أعوام.
وتعتمد العائلة على بعض الاحتياجات التي توفرها المؤسسات لهم، لكن وفقا لوالدة الطفل اللهواني فإن ذلك لا يكفيهم للعيش مستورين، وإنهم بحاجة إلى المال لتوفير متطلبات البيت كلها، مشيرةً إلى أنها تضطر إلى إجبار أطفالها على العمل لكي يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم لبناء مستقبلهم، وتوفير متطلبات عائلتهم، في ظل حاجتها الماسة إلى المال لتوفير احتياجات المنزل وأفراد عائلتها.
ولا يتوقف هؤلاء الأطفال، على الرغم من تعرضهم لإطلاق النار. وقال الطفل مهند: «كثيرا ما نتعرض لإطلاق نار من قبل جنود الاحتلال على الحدود الشرقية والشمالية، ولحسن الحظ لم أصَب حتى الآن رغم أن أصحابي أصيبوا». وأضاف: «مش راح أوقف حتى لو في خطر اتصاوب لانو احنا لازم نجيب فلوس».
ولا توجد إحصائيات دقيقة لما يمكن تسميته «ظاهرة عمالة الأطفال»، إلا أن إحصائية صدرت عن مركز الإحصاء الفلسطيني في أبريل (نيسان) 2015، أشارت إلى وجود 65 ألف عامل من الفئة العمرية 7 - 14 سنة يعملون في الأراضي الفلسطينية كافة، وأكثر من 102 ألف طفل يعملون دون سن 18 سنة في أعمال مختلفة، بدءًا من الانتشار في الشوارع على المفترقات وصولا إلى الورش والمصانع والمنشآت الاقتصادية المختلفة.
وتشير الإحصائيات إلى أنه في السنوات العشر الأخيرة ازدادت في قطاع غزة «عمالة الأطفال المبكرة»، بسبب تضاعف نسب البطالة والفقر، وعدم قدرة كثير من الآباء على توفير احتياجات عوائلهم بسبب الحصار الإسرائيلي على القطاع وما خلفته آثار الحروب الإسرائيلية المتزايدة.
وقالت جمعية الوداد للتأهيل المجتمعي في غزة إن ظاهرة عمالة الأطفال لمن هم دون سن 15 عاما في غزة، ازدادت معدلاتها خلال الآونة الأخيرة، لتصل إلى أكثر من 48 في المائة. وهذه الأرقام معرضة للزيادة في كل وقت بسبب استمرار الحصار الإسرائيلي وانعدام الآفاق الاقتصادية والسياسية.
وقال مركز المعلومات الوطني إنه يصعب الإحاطة بمدى تفشي هذه الظاهرة بفلسطين، والخروج بإحصائيات دقيقة عن أعداد الأطفال الذين ينخرطون في أعمال تدخل ضمن الأعمال الواجب منع الطفل من خوض غمارها، وذلك لأسباب عدة أهمها، عدم استقرار ظاهرة عمالة الأطفال، ما يجعل حصرها أمرًا صعبًا، نظرًا لانتقال الأطفال من عمل إلى آخر بسهولة وانخراط أغلبية الأطفال في أعمال اقتصادية غير منتظمة، ما يجعل الوصول إليهم أمرًا صعبًا.
ويرى حازم هنية، الحقوقي والباحث القانوني في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، أن تفاقم الأوضاع الاقتصادية، واستمرار الحصار، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، وانعدام الأمن الغذائي، كانت نتائج واضحة ومباشرة لبروز «عمالة الأطفال»، مشيرا إلى أنه من خلال مجموعة من الوقائع، جرى تسجيل ازدياد مضطرب في أعداد الأطفال العاملين. وعد هنية تشغيل الأطفال مؤشرا خطرا لا بد من التوقف عنده والتنبه لخطورته، مشددا على ضرورة وضع حلول واضحة لمنع تفاقم هذه الحالة، وتقديم علاج جذري لإنهاء معاناة الأطفال العاملين في الشوارع.
وقال هنية لـ«الشرق الأوسط» إن جزءا من الأطفال العاملين يجبرون على ذلك تحت ضغط وطلب عوائلهم، مبينا أن ذلك ناتج من واقع اجتماعي صعب تعيشه تلك العائلات، فتلجأ لتشغيل أطفالها لكسب مريح للمال، باستدرار عاطفة الناس تجاههم بحكم أن من يعمل طفل وليس شابا. ولفت إلى أنه لم يظهر من خلال التحقيقات الميدانية التي تجريها الهيئة، وجود أي ارتباط بين عمالة الأطفال وما يعرف بـ«جنوح الأحداث»، مبينا أن غالبية الأطفال العاملين غير ملتحقين بالمدارس، وأن جزءا آخر يعمل بعد انتهاء الدوام الدراسي.
وأضاف: «كل ذلك مخالف للقانون لما فيه انتهاك لخصوصيات الأطفال، وسيكون له آثار اجتماعية خطيرة»، داعيا إلى ضرورة توقف المسؤولين والجهات المختصة عند مسؤوليتها، بوضع حلول مناسبة وفورية، والالتزام بالقانون الدولي لحماية حقوق الطفل. لكن في قطاع غزة، لا يوجد قوانين تمنع التسرب من المدارس، ولا قوانين أخرى تمنع عمالة الأطفال أو على الأقل تنظمها.
ويربط مختصون آخرون بين عمالة الأطفال ومستوى التعليم والموقف الاجتماعي منه. وأشارت بيانات مسح القوى العاملة 2012 إلى أن 28.5 في المائة من الأطفال غير الملتحقين بمقاعد الدراسة يعملون. وتبقى فرص التحصيل المادي لهؤلاء الأطفال متدنية، فيدوم الفقر ويتحول إلى دائرة مفرغة. وقد يضطر أولاد هؤلاء الأطفال عندما يكبرون إلى العمل أيضًا، وفي بعض الحالات قد يشترك الأهل والأطفال في اعتبار التعليم مضيعة للوقت، أو قد يضطر الوالدان أحيانا إلى «التضحية» بواحد أو اثنين من أولادهم وتركهم دون تعليم، وإرسالهم إلى العمل للمساهمة في نفقات تعليم إخوتهم.

* بيانات مسح القوى العاملة في فلسطين
56.9 في المائة من الأطفال العاملين في فلسطين يعملون لدى أسرهم دون أجر.
95.5 في المائة من بين الإناث يعملن.
54.0 في المائة من بين الذكور يعملون، مقابل 37.4 في المائة يعملون مستخدمين بأجر لدى الغير.
2.6 في المائة من بين الإناث العاملات يعملن لحسابهن.
40.0 في المائة من بين الذكور العاملين 5.6 في المائة يعملون لحسابهم أو أصحاب عمل.

* أنواع العمل والأجور
38.5 في المائة من الأطفال العاملين في فلسطين يعملون في قطاع الزراعة، و42.9 في المائة في الضفة الغربية و12.2 في المائة في قطاع غزة، و30.0 في المائة يعملون في قطاع التجارة والمطاعم والفنادق، و27.9 في المائة في الضفة الغربية، و42.5 في المائة في قطاع غزة. أما العاملون في باقي الأنشطة الاقتصادية الأخرى وتشمل: التعدين، والمحاجر، والصناعة التحويلية، وقطاع البناء والتشييد، والنقل والمواصلات والاتصالات والخدمات والفروع الأخرى، فقد بلغت نسبتهم 31.5 في المائة: 29.2 في المائة في الضفة الغربية، و45.3 في المائة في قطاع غزة.
بلغ معدل الأجر اليومي بالشيقل للأطفال 10 - 17 سنة للعاملين كمستخدمين بأجر 43.1 شيقل، كما بلغ معدل ساعات العمل الأسبوعية للأطفال العاملين 46.0 ساعة عمل أسبوعيا.



المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم