بعد 30 عامًا على انكسار الإمبراطورية العابرة للمجرات في «حرب النجوم» تواجه المجرّة - وفق الإطلاق الأحدث لسلسلة أفلام الخيال العلمي الأميركية الأشهر - تهديدًا جديدًا من دولة المنظومة الأولى التي يتحد في مواجهتها طيار متمرد على النظام (يلعب دوره الممثل البريطاني الأسود الشاب جون بويغا) مع صبية حسناء تعيش حياة هامشية في بقايا خراب الكواكب بعد الحرب الأخيرة (الممثلة البريطانية ديزي ريدلي) بالإضافة إلى مقاتل معتق (شخصية هان سولو التي يلعبها النجم هاريسون فورد) وذلك لدعم المقاومة في الحصول على معلومات استخبارية بشأن مكان وجود الشخصية الملهمة وآخر رعيل مجموعة فرسان (الجيدي) لوك سكايووكر (ويلعب دوره الأميركي مارك هاميل).
لقد حطم الفيلم الجديد المعنون «قيامة القوة المقاتلة» (ضمن سلسلة الخيال العلمي المستقبلي الأطول في السينما الأميركية والمسماة حرب النجوم) عدة أرقام قياسية وجمع ما يفوق الملياري دولار على شكل عوائد وما زال مرشحًا للتفوق على الفيلم الأميركي «أفاتار» الذي سبق وجمع ما يقارب الثلاثة مليارات دولار - باعتباره الفيلم الأعلى عوائد عبر تاريخ هوليوود وخصوصًا بعد إطلاقه في سوق الصين الهائلة التي يتوقع أن تصبح أكبر أسواق العالم سينمائيا خلال عام أو عامين متفوقة على السوق الأميركية ذاتها.
الفيلم الجديد كان مغامرة محسوبة قامت بها شركة والت ديزني عندما اشترت بأربعة مليارات دولار أميركي الحقوق الفكرية للفيلم من جورج لوكاس منتج الأجزاء الستة السابقة مراهنة على نجاح ثلاثة أجزاء أخرى جديدة، كان أولها هذه القيامة. وعلى الرغم من أن الستة أجزاء الأولى جلبت لمنتجها ما مجموعه عشرة مليارات دولار، فإن «ديزني» تعتقد بأنها ستجمع 30 مليارا من عوائد شباك التذاكر إلى جانب حقوق الألعاب الإلكترونية والكتب والمجلات المصورة والمجسمات والمسلسل التلفزيوني المرتبط بالفيلم وغيرها.
إذن الفيلم كان بالضرورة ومنذ اللحظة الأولى مشروعًا تجاريًا محضًا يستهدف استخلاص آخر نقطة «نقد» من هذه البقرة الحلوب. بالطبع فإن كل الأفلام الهوليوودية تنتج بالضرورة بغرض الربح أساسًا ولا جديد في ذلك، لكن أي محاولة لمقاربة محتوى الفيلم دون تفهم إطار الضغط الذي وضعته «ديزني» على فريق العمل، والذي كان – مباشرًا وقليل الحياء وفق أحد النقاد - يمكن أن لا تعطي صورة متكاملة عن كيفية تشكل الصورة الفنية للفيلم.
كان أول إطلاق لـ«حرب النجوم» في عام 1977 وقد فاجأ وقتها الجميع بنجاحه المبهر. وكما هي عادة الإعلام الأميركي فالنجاح الخارق يفسر دومًا بعبقرية أسطورية بالطبع لشخصية واحدة متفردة.
جورج لوكاس كان هذه الشخصية. ورغم أنه لا يمكن لأي فردٍ مهما أوتي من الألمعية أن ينتج فيلمًا عظيمًا وأن لوكاس اعتمد على طاقم واسع من موهوبين في مجالات مختلفة، فقد استمرأ الرجل رواية العبقري الفرد هذه وكرسها في كل مقابلاته معليًا من دوره في العمل على حساب بقية الفريق. على أن قراءة عمومية لكل الأجزاء معًا تكشف ذكاء يكاد يكون خارقا من قبل لوكاس في تبسيط الأفكار الكبرى المتداولة في السردية الأميركية المعاصرة للجمهور العادي: الفيلم مبني على فكرة الصراع بين الخير المطلق والشر المطلق، حروب الإمبراطوريات المعولمة وقوى المقاومة، حرب النجوم، حروب المستنسخين، الجمهورية الأولى وقوى الاتحاد، عبثية المقاومة، الأبطال الخاضعون للمنظومة، صناعة الهويات وذلك دون أي محاولة حقيقية لتفسير هذه الأفكار من خلال الفيلم ربما باستثناء المقدمات النصية الطويلة نسبيًا والتي صارت تقليدًا في افتتاح كل فيلم تحت هذه السلسلة.
خط السرد الأساسي لقصة سلسلة أفلام حرب النجوم يقوم على مبدأ الحرب الأهلية الواسعة النطاق في هذا العالم والعلاقات التي تنشأ بين مجموعة من الأفراد التي تتولى أعمال مواجهة إمبراطورية الشر. النموذج الروائي يقوم على القالب الكلاسيكي للولد اليتيم البسيط الذي ينطلق من بدايات متواضعة في رحلة عجائبية - تطول بعض الشيء - لكنه يصل إلى مصيره من خلال قوى سحرية غامضة. ربما يبدو نجاح القصة عائدًا إلى هذا التداخل الشديد بين السرد المألوف والعناصر الغامضة، حيث يتحول كل مألوف إلى صورته المستقبلية المضخمة، في حين تساعدنا الرموز والمصطلحات الثقافية في ربط تسلسل الأحداث وتعدد الأشياء وتقاطع الشخصيات.
لوكاس وبعد إطلاقه لثالث الأجزاء في العام 1983 كان له أن يستريح على قمة النجاح. هو لم يصنع فيلمًا ناجحًا فحسب بل خلق ظاهرة ثقافية شديدة التعقيد لها أتباع وموالون على نطاق عالمي وجمع من ورائها ثروة طائلة لكنه لم يقاوم الإغراء وعاد بثلاثية أخرى بين 1999 و2005 محاولاً الاستفادة من التقدم التكنولوجي المذهل منذ ثلاثيته الأولى وأيضًا من التاريخ الموسّع للحرب الذي كتبه لوكاس دون أن يكون له أي علاقة بالقصة كما شاهدها الجمهور في الثلاثية الأولى. وعلى الرغم من عودة ذلك الجمهور ذاته بكثافة لمشاهدة أول أجزاء الثلاثية الجديدة، فإنه لم يعبأ بالجزأين الآخرين بل وشن معجبو ثلاثية حرب النجوم الأولى هجمات لاذعة واسعة النطاق - لا سيما بعد ظهور الإنترنت - اتهمت لوكاس بالتربح من نجاحه السابق وبخيانة حرب النجوم وتحوله إلى تاجر بضاعة مزورة. لوكاس لم يقنع بهذا النقد أبدًا، وبدا في مقابلاته شديد العناد وحزينًا على فشل الجمهور في فهم عبقريته الفنية.
«ديزني» عندما أقدمت على شراء الحقوق الفكرية لحرب النجوم قررت أن لوكاس سيكون بالضرورة عبئًا على أي محاولة لإحياء القصة، وهكذا فإن جورج لوكاس خارج الصورة تمامًا في الإنتاج الجديد، بل وقطعت الجذور مع الثلاثية الثانية في القصة، وتم التركيز على إعادة تأسيس الربط مع الثلاثية الأولى بوصفها الأقدر على استحضار الحنين والنوستالجيا في ذهن الجمهور. وطبعًا لن تجد «ديزني» أفضل من المحترف الأول - ج.ج. أبرامز - الذي اشتهر بأعمال شديدة النجاح في الدراما والسينما الأميركية ليس أقلها إنقاذ «ستار تريك» - فيلم الخيال العلمي الموازي لحرب النجوم والذي بدوره فقد روحه بالابتعاد عن أجواء أجزائه الأولى.
ج.ج. أبرامز ألهب حنين جمهور السلسلة القديم ونجحت النوستالجيا في استجلاب ليس فقط جيل الثلاثية الأولى بل عادوا جميعًا ومعهم أبناؤهم وأحفادهم لدور العرض، لكن الفيلم لا يقدّم في الحقيقة أي فكرة جديدة أو إبداع حقيقي وبقيت كل النقاط المرجعية للفيلم مرتبطة بموضوعات الثلاثية الأولى. بل إن الأمكنة التي تجري بها أحداث الفيلم الجديد تكاد تكون ذاتها في الثلاثية الأولى - رغم الدقة المتناهية في صياغة التفاصيل - وهي كانت بصفة مقصودة شديدة الواقعية مقارنة على الأقل بالإخراج الإلكتروني الذي ساد ثلاثية لوكاس الثانية الفاشلة.
حاول إبرامز الاشتغال على الرموز الثقافية في فيلمه كي يوسع دائرة استقطاب الهواة والمريدين بتقديمه شخصيات جديدة ذات أبعاد ثقافية مختلفة نوعًا ما عما ساد في السلسلة حتى الآن التي كان نموذجها التقليدي الرجل الأبيض في منتصف العمر. البطلان الجديدان للفيلم هما شابان في مقتبل العمر، صبية جريئة وطيار شديد المثالية، هي بيضاء وهو أسود ويبدوان معًا شديدي الجاذبية وتاريخهما غامض للغاية - ربما سيعاد استكشافه في الأجزاء المقبلة.
الشخصيات الأخرى كانت في أغلبها مستعادة من الثلاثية الأولى ذات وجوه مألوفة وماض معروف لكنه ينحو لأن يكون تاريخًا أسطوريًا وفق الحوارات بين الصبية البيضاء (ريي) والشاب الأسود (فيين)، لا تاريخًا قريبًا. وقد استعان أبرامز أيضًا بفكرة الشخصية الشريرة التي تتحدث من وراء الخوذة رغم موت البطل الأصلي في الأجزاء السابقة، فاستعار فكرة الخوذة لشخصية كايلو واحتفظ بأجزاء مهشمة من الخوذة التي ارتداها دارث فادر - الشرير في الثلاثية الأولى - وكأنها تراث ديني مقدس يحتفظ به اللاحقون ويجلونه.
وعلى الرغم من أن العمل الذي قدمه أبرامز موجّه للعائلات في أجيالها المختلفة، فإن الفيلم يحتوي على كمية ضخمة من أعمال العنف والإعدامات الجماعية، بل والقتل الكلّي للحضارات بأسلحة الدمار الشامل. ويتم تقديم البطل (فيين) بوصفه واحدًا من الأطفال الذين تخطفهم دولة المنظومة الأولى الفاشية النزعة وتربيهم ليصبحوا جنودًا صنعتهم القتل دون عميق تفكير.
الاستثناء طبعًا هو (فيين) الذي لا يقبل ضميره المشاركة بأعمال العنف العمياء هذه، لكن الآخرين هم ضحايا ومجرمون في الوقت ذاته، وهم يتساقطون كالذباب في معارك أشبه بألعاب الفيديو حيث لا قيمة للحياة إلا بوصفها ومضة في شاشة إلكترونية لا تلبث أن تنطفئ. الموت هنا - كما في كل فيلم هوليوودي - تراجيديا حزينة عند موت الأخيار لكنه جميل ويحتفى به عند مقتل الأشرار بل وهو أداة لإظهار مدى شرّ هؤلاء الأشرار عندما يقومون بقتل الأبرياء المحايدين. لا نتقدم كثيرًا هنا عن سطحية التعامل مع الموت التي قدمتها أفلام رعاة البقر والغرب الأميركي الكلاسيكية: حرب النجوم إذن أميركا مستقبلية، تتحول فيها التكنولوجيات وترتقي، لكن السيكولوجيا تبقى ذات إيقاع الأبيض والأسود المخطوف الذي إذا تحلى بضمير يصبح استثناءً، الكاوبوي - راعي البقر - والهندي الأحمر، والولايات المتحدة وكأنها على امتداد المجّرة كلها.
الثلاثية الجديدة من حرب النجوم إذن تكريس للفكرة بأن المنظومة الرأسمالية المعاصرة - وفي قلبها كجزء لا يتجزأ منها محورها الأميركي - قد تجاوزت مفهوم الوطنيات الفردية المرتبطة بالحدود لتنتقل إلى صيغة النظام الدولي المعولم الذي يعيد تعريف العدالة والقانون وفق وجهة نظره الذاتية، وعليه فكل من ليس خاضعًا للمنظومة هو بالضرورة عدو لها يستحق القتل الاستباقي دون رحمة حتى لمجرد الشك في إمكانية تحالفه مع المنظومة - بل ويراها البعض (كارل سيلفيو مثلا) أنها جزء من العمل الإعلامي الموجه من قبل المؤسسة الحاكمة في واشنطن بغرض تحضير عقول البشر لتقبل النظام العالمي الجديد، كما كان قد وصفه مايكل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما النبوءة: «الإمبراطورية».
* إعلامية لبنانية
«حرب النجوم».. تكريس المفهوم الرأسمالي للعولمة
إنه ليس فيلمًا فقط بل ظاهرة ثقافية بالغة التعقيد
«حرب النجوم».. تكريس المفهوم الرأسمالي للعولمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة