وقعت ألمانيا في غرام توماس مولر في 27 يونيو (حزيران) 2010، يوم المواجهة المشهودة في كأس العالم بين الخصمين اللدودين، ألمانيا وإنجلترا. كانت المباراة في شوطها الثاني وكان لاعب الوسط المهاجم صاحب الـ21 عاما، الذي كان قبل عام يشارك بانتظام في صفوف رديف بايرن ميونيخ، أنهى هجمة مرتدة نموذجية لتصبح النتيجة 3 - 1. وبعد ذلك بـ3 دقائق، تلقت إنجلترا ضربة جديدة، وكان مولر هو صاحب لمسة الهدف الأخير في المباراة التي انتهت بنتيجة 4 - 1.
لكن هذين الهدفين لم يكنا سبب عشق ألمانيا للاعب الشاب. حدث هذا بعد المباراة. كان مولر يطل على شاشة التلفزيون الألماني بابتسامته الساذجة والمحبوبة. في النهاية هنأه المحاور مرة أخرى على الأداء اللافت، وأشار إلى أن اللاعب يمكنه الآن الانضمام إلى الأجواء الاحتفالية في غرفة خلع الملابس. لكن سأل مولر: «هل يمكنني أن أوجه التحية لشخص ما؟». ورد المراسل المشدوه: «نعم بالتأكيد». قال مولر وهو يحاول أن يتوجه للكاميرا: «أود فقط أن أبعث بتحياتي لجدتي الاثنتين ولجدي، فقد تأخر هذا طويلا». ثم لوح للكاميرا كتلميذ صغير تغمره الفرحة، بعدما نجح لتوه في اختبار الإملاء، ويعرف أن أجداده سيكونون فخورين به. بالطبع رن جرس الهاتف في قرية بال، التي تبعد 25 ميلا إلى الجنوب من ميونيخ. وفي النهاية وصلت صحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» إلى إرنا بورغارت، إحدى جدتي مولر، البالغة من العمر 81 عاما. قالت إنها اعتادت أن تضيء شمعة في كل مرة عندما يلعب توماس لكنها نسيت هذه المرة، ولهذا كانت مندهشة قليلا لأنه سجل رغم هذا. وبسؤالها عن التحية التي أرسل بها مولر على الهواء مباشرة، أجابت: «كان هذا رائعا، أليس كذلك؟ يا له من ولد طيب».
قال الولد الطيب في مقابلة حصرية مع مجلة «إيت باي إيت»: «لم أخطط لهذا، ولا يمكنني هذا، فأنا لا أعرف أنني سأسجل هدفين وأجري مقابلات عقب انتهاء المباراة». كان مولر يجلس في غرفة بأحد فنادق فرانكفورت، حيث تجمع المنتخب الوطني استعدادا لمواجهة جمهورية آيرلندا في دبلن، ضمن تصفيات يورو 2016. وقال: «كان هذا عفويا، وقللت من شأن الأمر برمته. كنت جزءا من السيرك الممثل في كرة القدم الاحترافية منذ عام فقط، ولم يكن لدي أي خبرة في التعامل مع وسائل الإعلام. تعرضت جدتي لحصار من الصحافة بسبب هذا العمل. لم أفكر في أنهما قد يكونان في مركز الاهتمام بسبب كل هذا». نال مولر حب الجمهور بسبب هذه البادرة. في خضم الهياج والجنون واستعراض الذوات المتضخمة في حدث هائل بحجم كأس العالم، بدا قول: «مرحبا» لجدتيك أمرا ينم عن شخصية بسيطة. وواقع الحال اليوم، وبعد 5 سنوات شهدت الكثير من الألقاب، ما زال أول ما يتذكره الجميع عندما ينتقل مجال الحديث لمولر هو: أنه يبدو عاديا للغاية، بداية من اسمه -هو الأكثر شيوعا في ألمانيا بحسب الإحصائيات، ولهذا يستخدم «توماس مولر» أحيانا لوصف الرجل العادي تماما - ووصولا إلى مظهره.
مولر هو أول من يعترف أن لديه ساقين نحيفتين، وصدرا وصفه زميله السابق باستيان شفاينشتايغر بـ«صدر دجاجة». زوجته ليست عارضة أزياء وإنما فارسة هاوية (و«فتاة عادية»، كما تحدثت عنها الجدة إرنا بفخر للصحافة). يترك مولر شعره على سجيته، ولا يحمل جسده ولو وشما واحدا. وعندما سئل عما إذا كان يتعرض لكثير من الضغوط من جانب زملائه للظهور بالمظهر الذي يتناسب مع كونه عالميا الآن، قال: «لا إطلاقا. وحتى لو كانت هناك ضغوط، فسأكون قادرا على تحملها. انظر، أنا لا أفكر كثيرا في هذه الأشياء. ولا أحاول أن أظهر على غير طبيعتي».
كما أن أداء مولر يتسم بنفس هذا النهج العملي، فلا يضفي عليه شيئا لا معنى له. عندما يتحرك كرستيانو رونالدو وليونيل ميسي في أرجاء الملعب ويخترقان دفاعات المنافسين بسحر يبدو من عالم آخر، يتملكك الإعجاب بتحركاتهما وتشعر بالامتنان لوجودك في حضرة عبقريين كهذين. أما عندما تشاهد مولر، فإن لسان حالك يقول لا محالة، ربما أستطيع أن أفعل هذا أيضا. لكنك بالطبع لا تستطيع هذا. ويكاد لا يستطيع أحد فعل هذا. ولهذا مولر واحد من أهم اللاعبين في العالم والذين يلهث وراءهم الجميع. وواقع الأمر أنه قد يكون أرفع لاعبي العالم قيمة على الإطلاق. وليس سرا أن مانشستر يونايتد يسعى للحصول على خدماته.
في أغسطس (آب) تكهنت الصحافة البريطانية أن يونايتد تقدم بعرض بقيمة 60 مليون جنيه إسترليني لضمه. وبعد ذلك ببضعة أيام، أكد رئيس بايرن، كارل - هاينز رومينيغه أن ناديه تلقى «عرضا كبيرا جدا». في سبتمبر (أيلول) ذكرت مجلة «كيكر» الألمانية، وهي مصدر موثوق ومرموق، أن يونايتد مستعد للتقدم بعرض مذهل، قيمته 88 مليون إسترليني نظير خدمات مولر. وإذا صح هذا فإن يونايتد سيكون مستعدا لكسر الرقم القياسي العالمي للانتقالات من أجل لاعب محير.
وهذه هي حقيقة مولر: ربما هو أكثر لاعبي العالم غموضا. الشيء الواضح هو أنه لاعب متألق: وهو في عامه الـ26 فاز بكأس العالم ودوري أبطال أوروبا وحصل على المركز الخامس في قائمة المرشحين للكرة الذهبية. وكان هداف كأس العالم 2010 وثاني هداف لكأس العالم في البطولة التالية. خلال المواسم الثلاثة الأخيرة في البوندسليغا، سجل أو صنع 79 هدفا. وعندما كان لويس فإن غال يتولى تدريب بايرن صرح في مقولة شهيرة: «في فريقي، مولر دائما يلعب». وعندما حاول فإن غال بعد ذلك استمالة اللاعب للانضمام إلى أولد ترافورد، تصدى رومينيغه لكل المحاولات المتقدمة للتعاقد معه، بإعلانه أن مولر ليس للبيع. قال رومينيغه: «سنكون حمقى لو تركنا مولر يرحل».
ومع هذا فمن شبه المستحيل أن نشرح سبب تألق مولر. قال: «أعرف أنني أرتكب أخطاء فنية من حين لآخر. وهذا من الأشياء في أدائي التي أحاول معالجتها منذ سنوات. أعتقد بأنني استطعت تقليص عدد هذه الأخطاء الفنية إلى الحد الأدنى، ولكنها تحدث أحيانا. من ناحية أخرى، لدي لحظات من التألق الفني». فكر للحظة ثم أضاف: «اللاعبون الذين يتجهون إلى إحداث الفارق يكونون في كثير من الأحيان مراوغين بارعين. بعضهم سريع للغاية، وبعضهم يتوفر على ترسانة من الحركات ومهارات المراوغة. يحتاج هؤلاء اللاعبون إلى فنيات عظيمة لكي يصبحوا مراوغين جيدين. لكنني لست مراوغا جيدا. ولست قويا بما فيه الكفاية في مواقف واحد لواحد. وبالتالي يعتقد الناس أنني لا أتمتع بمستوى جيد من الفنيات، بينما الحقيقة أن أسلوبي أفضل مما أنال الإشادة عليه في كثير من الأحيان.
بمعنى آخر لا يستطيع مولر هزيمتك بتحكمه الوثيق بالكرة، ولا يستطيع هزيمتك بسرعته، ولا يستطيع هزيمتك بمهاراته في المراوغة. هو فقط يستطيع هزيمتك. وهو يفعل هذا بطريقة تستدعي للذاكرة أسطورة بنفس الاسم، جيرد مولر. لا يصف الناس مولر الكبير بأنه لاعب «لغز»، وإنما يشيرون إليه بوصفه شبح أو طيف منطقة الجزاء. كانت الأرض تنشق عنه فجأة في المكان المناسب للانقضاض على كرة طائشة، أو التسجيل من كرة مرتدة من القائم أو العارضة، أو إحراز هدف بالقرب من خط المرمى بأحد أطرافه.
والمثير للدهشة أن مولر هو نفسه من ابتكر عبارة رائعة لوصف ما يجعله لاعبا استثنائيا. قال لإحدى الصحف قبل بعض سنوات: «أسعى لفك طلاسم المساحات». ضحك عندما قمت بتهنئته على هذا التعبير الذي استحدثه، قائلا: «إنه تعبير جميل، أنت محق. ومع هذا فلست متأكدا ما إذا كنت أسديت نفسي صنيعا بهذا التعبير. إن كل لاعب جيد، ناجح، وبخاصة اللاعب المهاجم، يكون لديه إحساس عال بالمساحة والوقت. وليست هذه ظاهرة تجدها فقط في لاعب أو اثنين على وجه الأرض. وإنما كل مهاجم كبير يعرف أن الأمر كله يتوقف على التوقيت بين الشخص الذي يصنع التمريرة والشخص الذي يتحرك نحو المكان المناسب. ليس هذا بجديد».
وهذا وجه آخر للشبه بين جيرد مولر وتوماس مولر؛ فلأنه لا يبدو أن هناك تفسيرا منطقيا لقدرة جيرد على أن يتخلص فجأة من الرقابة، رغم أن كل مدافع في العالم كان يعرف أنه أخطر رجل في الملعب، فقد كان كثيرون يفترضون أنه يلعب بحس غريزي. يصف الألمان هذا بشم رائحة المرمى، كحيوان يلتقط رائحة. كان جيرد يمقت هذا التفسير نوعا ما، لأنه لم يكن يتجاهل فحسب ساعات لا تحصى من العمل الذي كان يبذله (كان حتى يحب أن يقف داخل المرمى أثناء التدريب ليفهم تفكير حارس المرمى بشكل أفضل)، وإنما كان هذا التفسير يتجاهل بقية أفراد الفريق كذلك. ونفس الأمر ينطبق على مولر.
قال مولر: «في أي مجال بالحياة، يحتاج المرء دائما لتفسير.. هو يريد أن يفهم الأشياء. في الغالب يتوصل إلى تفسير بسيط للغاية ويقول إن ذلك ربما كان بسبب موهبة معينة أو ربما جاء صدفة. لكن في بعض الأحيان ما يحدث يكون نتاجا لتحرك ذكي يتضمن الكثير من اللاعبين. عندما تركض فإنك لا تفعل هذا دائما من أجل نفسك. إنك تقوم بهذا غالبا لفتح الباب لزميل بالفريق. إذا نظرت إلى لعبة كرة السلة، ستجد أن هذا عنصر مهم: ثلاثة لاعبين يخلقون المساحة لواحد يقوم بالتصويب. أما في كرة القدم ففي كثير من الأحيان يتم التقليل من شأن هذا العمل».
أوضح مولر هذا بهدفه الافتتاحي في الهزيمة المنكرة التي ألحقتها ألمانيا بالبرازيل 7 - 1 في كأس العالم 2014. ناقشنا هذا الهدف أول الأمر في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي؛ والآن عاد للسؤال الذي طرحته آنذاك: كيف يمكن لمهاجم قاتل مثله أن يتخلص من الرقابة على هذا النحو وهو على بضع ياردات فقط من المرمى بعد تنفيذ ركلة ركنية؟ قال مولر: «أنا واثق من أن الناس الذين يشاهدون من المنزل رفعوا أيديهم وصرخوا، كيف لم يراقبه البرازيليون؟ بالطبع، في النهاية لم أكن مراقبا. لكن إذا شاهدت إعادة اللعبة، ستجد أن كلا من ميرو كلوزه وأنا كنا نخضع لرقابة وثيقة. لكننا عندئذ ركضنا في اتجاهين معاكسين. كنا بالأساس نتبادل الأماكن. تبعنا المدافعون الذين يتولون رقابتنا وتوقف أحدهم في الزحام أمام المرمى. هذا يحدث».
ربما كانت أعظم شهادة على مواهب مولر الفريدة، هي أن جوسيب غوارديولا، السيد الأعلى لطريقة الاستحواذ على الكرة بالتمريرات المتبادلة، يتفق مع فإن غال في رأيه بأن «مولر يلعب دائما». عندما تعاقد المدرب الكتالوني مع بايرن، تساءل البعض عما إذا كان سيحدث اتفاق بين الرجلين. فرغم كل شيء كان مولر وصف نفسه في مقابلة قبل بضع سنوات بأنه لاعب «لا شأن له كثيرا بالتحضير ولا يلمس الكرة كثيرا». وبدا هذا على خلاف أسلوب كرة القدم الذي يفضله غوارديولا، لكن مولر لم يكن قلقا. قال: «لا، لم يكن لدي تخوف حقيقي. في كرة القدم، وبخاصة في البايرن، الأمر يتعلق في نهاية المطاف بالأداء. إذا أبليت بلاء حسنا في التدريب وأديت خلال المباريات فستلعب. وإذا لم تفعل هذا، فلن تلعب. عندما سمعت بأن غوارديولا سيأتي لتدريب الفريق، لم أفكر في مستقبلي، بل كان فقط يتملكني شعور بالإثارة والفضول».
في يوم من الأيام، بطبيعة الحال، سيتعين عليه أن يفكر في مستقبله. في أكتوبر (تشرين الأول)، تسبب تصريح بريء للغاية من مولر، قال فيه «بالطبع، الرواتب المدفوعة في الدوري الإنجليزي (البريميرليغ) مغرية جدا، وسيكون من قبيل النفاق إنكار هذا»، تسبب في إثارة موجة من التقارير الصحافية حول إمكانية انتقاله إلى مانشستر يونايتد. ستكون هذه نقلة كبرى، لأن جذور مولر ترتبط بشدة بمنطقة ميونيخ. قالت جدته إرنا ذات مرة إن زوجها الراحل، الذي توفى قبل أن يولد مولر، لا بد أنه نقل إليه حبه لبايرن من السماء. ويقول مولر إنه يعرف كل الحكايات القديمة لعائلته، وكيف قال جده، وهو على فراش الموت، قبل يوم على وفاته: «دعوني أشاهد بايرن مرة أخيرة على التلفزيون». وبشكل شبه حتمي، نشأ مولر كمشجع للبايرن، كان ينام ملتحفا أغطية بألوان النادي، ويذهب إلى الملعب الأوليمبي، برفقة أبناء عمه الذين كانوا يملكون تذاكر موسمية، قبل أن يكمل عامه العاشر. (كان لاعبه المفضل جيوفاني إلبر، المهاجم البرازيلي في صفوف بايرن).
لكنه كذلك لاعب محترف ويتحلى بروح منافسة عالية. وكما يمزح كثيرا بشأن ساقيه النحيفتين، وافتقاره لمهارات المراوغة، فإنه يعرف أن قدراته صارخة الوضوح وإن كانت شديدة الغموض، هي عملة نادرة في كرة القدم الحديثة. والآن وفي ظل مواجهة الفرق الكبيرة لخصوم يلعبون بعمق دفاعي ولا يتركون تقريبا أي مساحة في الثلث الأخير، فإن وجود لاعب يمكنه خلق هذه المساحة ببراعة تجعله يبدو غير مراقب، هو شيء لا يقدر بثمن. في دبلن كان مولر يضع عينيه على الكرة بينما كانت عرضية هيكتور تتجاوز الزملاء والمنافسين. قابلها بلمسة مباشرة بباطن قدمه اليمنى. خلال كسر من الثانية بدا ملعب أفيفا في لاندسداون رود وقد خيم عليه الصمت. حبس الجميع، الألمان والآيرلنديون، أنفاسهم وهم يتابعون رحلة الكرة، التي أخطأت المرمى، بمسافة أقل من ياردة من القائم الأيسر. خر مولر على ركبتيه ودفن رأسه بين يديه. إنه رجل عادي، رغم أي شيء.
توماس مولر.. مهاجم يشم رائحة المرمى
يملك ساقين نحيفتين و«صدر دجاجة».. ويستعصي على أي مدافع مراقبته.. وألمانيا وقعت في غرامه
توماس مولر.. مهاجم يشم رائحة المرمى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة