من التاريخ: مسيرة الاقتصاد الدولي والحرب العالمية الثانية

هربرت هوفر
هربرت هوفر
TT

من التاريخ: مسيرة الاقتصاد الدولي والحرب العالمية الثانية

هربرت هوفر
هربرت هوفر

عبرت مسيرة النظام الاقتصادي الدولي الكثير من المراحل من خلال الثورة التجارية وما ولدته من فائض رأسمالي لم تشهده أوروبا من قبل إلى تطبيق النظرية «الميركانتيلية» خلال القرنين السابع والثامن عشر. وهذا ما دفع نحو تقوية الدولة المركزية من خلال تكديس رأس المال وحماية الصناعات المحلية من المنافسة بتحجيم الواردات وقصر التجارة مع المستعمرات على الدولة المُستعمرة. ولقد نجح هذا النظام الذي طبقته الدول بتشدد كبير في خلق بيئة اقتصادية دولية معتمدة على الفردية الاقتصادية وغير مؤمنة بفكرة الاعتماد المتبادل أو حرية التجارة، ناهيك من حرية حركة رأس المال والتي كانت مقصورة على الدولة. كل هذه كانت مفاهيم جديدة، من حيث التطبيق ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، ولقد منح هذا النظام الميزة للدول الأوروبية القوية لتزداد ثراءً على حساب الآخرين وعلى رأسهم المستعمرات.
بيد أن هذا النظام ما لبث أن بدأ يتعرض لمشكلات كثيرة - كما رأينا على مدار الأسابيع الماضية - فغدا مصدرًا لكثير من المشكلات على الرغم من التطور المذهل الناتج عن الثورتين الصناعيتين في أوروبا، وهو ما وضع الدول الأوروبية ومستعمراتها في حالات احتكاك اقتصادي وسياسي مستمر، وصل إلى حد الصراعات والحروب. ولعل خير مثال على ذلك كانت «حرب جنكينز إير Jenkin›s Ear War» - أو «أذن جنكينز» - التي اندلعت بين بريطانيا وإسبانيا بذريعة قطع أُذن عريف بريطاني في إحدى المستعمرات الإسبانية، وهكذا أسهمت الاحتكاكات التجارية بين المستعمرات في إشعال الحروب.
ومع ذلك، استمر النظام الاقتصادي على وتيرته من المنافسة وتطبيق السياسيات التي حذر منها المفكّر آدم سميث، التي تعرف في علم الاقتصاد بأطروحة «على حساب جارك» Beggar thy neighbor أي أن كل دولة تؤسس لصناعاتها وتقوي اقتصاداتها على حساب جيرانها من الدول الأخرى من خلال كثير من الممارسات على رأسها تحجيم التجارة البينية من خلال الجمارك الباهظة أو التعريفات أو الحصص التجارية. وسرعان ما دخل العالم في مرحلة متقدمة لهذه الفرضية من خلال ما عرف بـ«القومية الاقتصادية» Economic Nationalism أي بزيادة تطبيقات الدول للممارسات الحادة من التجارة ولمنع خروج رأس المال من الدولة، حفاظًا على الثروة القومية وحماية للعملة المحلية من التأثر بالعجز في ميزان المدفوعات لديها.
هذه السياسات ظلت قابلة للتحمّل حتى نهاية القرن التاسع عشر على الرغم من المشكلات والأزمات، ولكن مع بداية القرن العشرين بدأ النظام الاقتصادي يعاني بشدة من التوترات الاقتصادية التي أدت أو كانت نتيجة للحرب العالمية الأولى، وهو ما دفع بدوره إلى بداية دخول العالم في مرحلة الكساد العالمي عقب الحرب خاصة في أوروبا. ذلك أن هذه القارة بدأت تعاني بشدة من نتائج الحرب المدمرة على اقتصاداتها، وبخاصة، ألمانيا التي تعرّضت لصلح مُهين في فرساي، الضاحية الباريسية، مما أدى إلى تكبيلها وحلفائها بتعويضات ما كانت لتستطيع الخروج منها، ناهيك من الآثار المدمرة للحرب على اقتصادات وموازنات الدول التي خاضتها أو تأثرت بها.
عند هذا الحد انتشرت الأمراض الاقتصادية الشائعة في هذه الفترة، وعلى رأسها البطالة والفقر والتضخّم، ولا سيما، في الدول التي هُزمت في الحرب. وهو ما أدى إلى بداية ظهور الفوضى في النظام الاقتصادي الدولي، الذي بدأ يدخل في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي في حالة ركود أصبح معروفًا فيما بعد بـ«الركود الكبير».
كان من الأسباب الرئيسة وراء «الركود الكبير» الهبوط الحاد في أسعار المنتجات الصناعية والغذائية على حد سواء بسبب زيادة المعروض نتيجة التطور التقني الكبير الذي شهده العالم، خاصة في الولايات المتحدة، فبات الفائض في السلع الزراعية المعروضة يفوق الطلب. والشيء نفسه انطبق على كثير من الصناعات بعدما هبطت أسعار التكلفة جراء التطور التكنولوجي، وهو ما جعل الولايات المتحدة في ذلك الوقت تسعى للسيطرة على ضغوط انخفاض الأسعار Deflation أي عكس التضخم.
ومن ثم، أخذت الأحوال تضطرب دوليًا، فبدأ «الركود الكبير» بإفلاس بعض البنوك الأوروبية وكانت البداية مع بنك النمسا، وهو ما صاحبه انهيار كامل في البورصة الألمانية وانتشار حالات الإفلاس في أوروبا، إلى أن وصل الكساد بريطانيا ذاتها فكان يكلفها ما يقرب من تسعين مليون إسترليني في اليوم الواحد. وهو ما أدى إلى إعلانها التوقف عن تحويل الإسترليني إلى ذهب في الوقت الذي كانت فيه هذه العملة هي معيار التقييم والتداول الدولي، مع العلم أن المخزون الدولي من الذهب كان متمركزًا في الولايات المتحدة التي كانت أكثر الاقتصادات استقرارًا وعمقًا وحجمًا - وبدرجة أقل فرنسا - وهو ما أدى إلى مشكلات تجارية إضافية بدأ العالم كله يعاني منها.
عندها لجأت الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى التوسّع في تطبيق سياسات «القومية الاقتصادية» المتمثلة بزيادة الجمارك وإعاقة التجارة الخارجية والحفاظ على النقد المحلي والأجنبي المتوافر لديها في محاولة للحد من آثار «الركود الكبير». وسعيًا لتخفيف حدة الكساد اقترح الرئيس الأميركي هربرت هوفر (حكم بين 1929 - 1933) تطبيق الدول حظرًا طوعيًا على تلقي أقساط الديون من الدول المهزومة في الحرب، إلا أن فرنسا التي كانت تعتقد أن الديون كفيلة بإبقاء ألمانيا قيد السيطرة رفضت الفكرة من الأساس. وعند هذا الحد أدركت الدول الأوروبية ضرورة العمل الجماعي من أجل معالجة هذه الأزمة بالتعاون فيما بين الدول قبل فوات الأوان. وبناءً عليه دعت عصبة الأمم إلى عقد مؤتمر اقتصادي دولي في لندن عام 1933 بمشاركة 62 دولة لتداول الأمر والسعي لاحتواء الموقف المتدهور دوليًا.
يومذاك كان على جدول الأعمال ثلاثة محاور أساسية هي: مشكلة الديون والتجارة واستقرار أسعار الصرف. ولقد كانت المشكلة الملحّة في حقيقة الأمر تكمن في استقرار أسعار الصرف الدولية، لأن الدول كانت تلجأ إلى ما يسمى بـ«الخفض التنافسي للعملة» Competitive Devaluation بهدف تشجيع التجارة ووقف خروج رأس المال، وهو ما أضر بشكل كبير بالتجارة والتي رؤي أنها أحد المخارج الأساسية من الركود. وكادت الدول أن تصل إلى صيغة مقبولة لوضع نظام دولي يمنع هذه الممارسة، غير أن الركود كان قد ضرب بشدة في الولايات المتحدة - التي صارت أكبر القوى الاقتصادية عالميًا - مما دفع البيت الأبيض لوقف تحمّسه لهذه الآلية بعدما زادت الأصوات المعارضة في الإدارة الأميركية لعدم الانخراط في مشكلات القارة الأوروبية اقتصاديًا، بينما يعاني الاقتصاد الأميركي من انحسار شديد. ومن ثم ارتؤي في ضوء ذلك ضرورة تعامل كل دولة مع مشكلات سعر الصرف لديها في إطارها الوطني والإحجام عن ضخ الأموال في آلية دولية قد تفشل. والمعنى أن الإصلاح الاقتصادي كان الحل، لكن الدول الأوروبية ما كانت قادرة مع «الكساد الكبير» على صياغة هذا الحل.
وهكذا تركت أوروبا نفسها تواجه هذه الكارثة الاقتصادية وهي غير مدركة أنها ستكون أحد الأسباب الأساسية لبداية متغيرات ستؤدي إلى حرب ضروس جديدة على غرار الحرب العالمية الأولى. وما دفع أكثر بهذا الاتجاه بدء ظهور التطرف السياسي بعد استيلاء الفاشيين على الحكم في إيطاليا وكانت الأوضاع الاقتصادية المتردية سببًا رئيسيا وراء هذا الانقلاب الفاشي. وسرعان ما تبعتها ألمانيا بأسلوب ديمقراطي عندما صوّت الشعب لصالح الحزب النازي (القومي الاجتماعي) الذي أوقف دفع ديون ألمانيا وبدأ عمليات التسليح وبناء الدولة الألمانية بكل قوة. وهكذا ساهم تدهور النظام الاقتصادي الدولي في دق طبول الحرب العالمية الثانية، وهو ما دفع دول الحلفاء المنتصرة إلى ضرورة صياغة نظام اقتصادي دولي يستطيع العمل على تلافي كل هذه المشكلات للدفع بالاستقرار السياسي عالميًا بعد الحرب، كما سنرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.