عند بوابة المنطقة الخضراء، حيث كنت أحضر مؤتمرًا للمصالحة المجتمعية التي يتبناها البرلمان العراقي، أوقفت سيارة أجرة لم يتوانَ سائقها عن سؤالي حين دخلنا النفق المحاذي لفندق الرشيد.. هل تمكن «الجماعة»، ويقصد بهم حكام العراق الجدد، من تعبيد شارع كهذا «بلطه» مثلما قالها باللهجة العراقية الدارجة (رئيس النظام السابق) صدام حسين؟
احتجاج سائق التاكسي ضدي كان له ما يبرره من وجهة نظره طالما أنني كنت داخل المنطقة الخضراء مما أوحى له منظري أنني ربما أحد ساكنيها أو العاملين فيها، وكان ينتظر ردة فعلي لكي يكمل هجومه عليّ. سارعت إلى نفي انتمائي إلى هذه المنطقة التي تضم مكاتب الحكومة وكبار مسؤولي الدولة والأحزاب والقوى المتنفذة والمحمية بالحواجز والكتل الخرسانية والأسيجة الكهربائية وأنني صحافي أنتمي إلى منطقة الشعب الحمراء، حيث انعدام الخدمات بالإضافة إلى المفخخات والعبوات الناسفة.
سائق التاكسي هذا نموذج للبقال والقصاب والحلاق ممن باتت صيغ تعبيرهم عن فساد الطبقة السياسية تتخذ صيغًا وأشكالاً شتى يعبر عنها في الأقل أسبوعيًا من خلال مظاهرات احتجاج مستمرة منذ نحو ثمانية شهور بدأت تثمر الآن إحالة عدد من كبار الوزراء والمسؤولين إلى هيئة النزاهة والقضاء بتهم مختلفة أقلها الكسب غير المشروع وتضخم أموالهم خلال سنوات قليلة لا تنسجم مع ما يحصلون عليه من رواتب وامتيازات رغم كونها عالية جدًا بالقياس إلى الدخل الذي يحصل عليه المواطن العادي في العراق.
موجة الاحتجاجات التي بدأت عبر المظاهرات ورفع أشهر شعار في عراق ما بعد 2003 وهو القائل «باسم الدين باكونة الحرامية» أخذت تتسع إلى الحد الذي تم فيه رمي وزير التعليم العالي والبحث العلمي حسين الشهرستاني بالحجارة وقناني المياه الفارغة لدى زيارته إحدى الجامعات في محافظة المثنى الجنوبية الشيعية. الشهرستاني الذي تدور الأحاديث عن شموله بالتغيير الوزاري رغم انتمائه أكاديميًا إلى صنف التكنوقرط «يحمل شهادة دكتوراه في الكيمياء الذرية» بسبب ما يؤخذ عليه من وعود بإنهاء أزمة الكهرباء في العراق عام 2013 حين كان رئيسًا للجنة الطاقة الوزارية، بل وتصدير الكهرباء، وهو ما لم يحصل مما جعل العراقيين يبحثون عن تكنوقراط مستقلين لا سياسيين يحملون شهادات عليا، لكنهم ينتمون إلى أحزاب في الغالب إسلامية فشلت في بناء دولة مما جعل عددًا من المسؤولين العراقيين قبل الناس العاديين يقارنون بين الوضع في ظل نظام صدام حسين وبين الوضع الحالي. الأمر نفسه يتمثل في احتجاج من نوع آخر كان «فيسبوك» ميدانه الأبرز هذه المرة ضد رجل الدين والقيادي البارز في المجلس الأعلى الإسلامي جلال الدين الصغير. كان الصغير وخلال خطبة له في جامع براثا الذي يؤم صلاة الجمعة فيه دعا العراقيين إلى ترك تناول «النستلة» بوصفها ليست ضرورية وهو ما يعني أن من يتقاضى منهم راتبًا قدره 100 ألف دينار عراقي شهريًا (نحو 85 دولارًا أميركيًا) فإن بإمكانه مع اتباع سياسة تقشفية منزلية أن يعيش بـ30 ألف دينار (نحو 25 دولارًا أميركيًا) شهريًا، وذلك عبر نصيحة اشتعلت على أثرها مواقع التواصل الاجتماعي، وهي دعوة العراقيين إلى ترك تناول «النستلة» مما ذّكر العراقيين بمقولة ماري أنطوانيت حين سألت عن أسباب احتجاجات الفرنسيين، وحين قيل لها إنهم يبحثون عن الخبز تساءلت.. ولماذا لا يأكلون بسكويتًا؟ أما الصغير وبعكس أنطوانيت فدعا إلى توفير نحو 70 ألف دينار عراقي (60 دولارًا) بعدم تناول «النستلة» في حين أن معدل رواتب الطبقة السياسية العليا حتى بعد الترشيق الحكومي تتعدى الخمسة عشر ألف دولار أميركي.
وحيث إن من يتقاضى 100 ألف دينار هم المشمولون بشبكة الحماية الاجتماعية فإنه حتى الموظفون الذين يتقاضى أقل درجة فيهم نحو 500 ألف دينار شهريًا (400 دولار) لا تكفي حتى لبضعة أيام لمن يسكن دارًا بالإيجار (أقل مشتمل بسيط أو شقة للإيجار لا تقل عن 300 ألف دينار) ما عدا أجور الكهرباء والمولدة وكروت الهاتف وأبسط غذاء يمكن تناوله وهو الطماطم والبطاطا والباذنجان فإنها تكلف أكثر من 200 ألف دينار عراقي لعائلة تتكون من ثلاثة أفراد فقط.
يقول القيادي البارز في مظاهرات الجمعة في العراق جاسم الحلفي في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «احتجاجات العراقيين سوف تتواصل لإرغام هذه الطبقة الفاسدة على الاختفاء عن المشهد السياسي لأنها هي سبب كل الكوارث والمآسي التي يعانيها العراقيون اليوم من مختلف الطبقات والتوجهات».
ويضيف الحلفي أن «حركة الاحتجاجات سوف تتواصل حتى لو لم تتخذ صيغة الاعتصامات المفتوحة حتى الآن وقد يؤخذ عليها تراجع العدد، لكن هذا لم يعد هو المعيار لأن حركة الاحتجاجات أصبحت أكثر تنظيما وسعة من ذي قبل، وهو ما بات يعطي نتائجه من خلال الحراك السياسي، سواء على صعيد البحث عن حكومة تكنوقراط بعد فشل حكومات المحاصصة أو من خلال الإحالة إلى القضاء».
من «فيسبوك» إلى القناني الفارغةاحتجاجات الشارع تتسع ضد الطبقة السياسية
بعض خطب الجمعة تحوّلت إلى دعوة للتقشف قابلتها عاصفة من الاستهجان
من «فيسبوك» إلى القناني الفارغةاحتجاجات الشارع تتسع ضد الطبقة السياسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة