نبيل المالح: أغنية السينما العربية الحزينة

نبيل المالح
نبيل المالح
TT

نبيل المالح: أغنية السينما العربية الحزينة

نبيل المالح
نبيل المالح

لم يتوقف المخرج السوري الراحل نبيل المالح عن الحلم. مثله في ذلك مثل مبدعين كثيرين يحققون في عالم السينما أقل مما يهدفون إليه وعلى رقعة كبيرة من السنوات ما يجعلهم يشعرون دومًا بأن الحياة وظروفها لم تساعدهم مطلقًا على إنجاز أكثر من نطاق ضيق مما حلموا بتحقيقه.
مرّات عدة من خلال لقاءاتنا خلال الأشهر القريبة الماضية، ذكر مشاريع تطوف في البال. إذ يتحدّث عن أي منها يجعلك تتصوّر الفيلم كما سيريد إنجازه. تسمعه يعد نفسه ويعدك بأنه سيطرق بداية جديدة. أفكاره لا تنتهي. فكرة عن الوضع في سوريا اليوم وأخرى عن مهاجرين في أوروبا، وثالثة عن حكاية تاريخية مستمدة من ملفات لأحداث واقعة ورغبة في تحقيق ملحمة طويلة «قد تصلح للتلفزيون أكثر من السينما لكني سأصوّرها كما لو كانت فيلمًا بعناصر السينما وليس بعناصر التلفزيون».
الحلم ليس عيبًا، لكن المالح لم يكن يحلم فقط، بل كان يسعى. ما افتقر إليه المخرج هو آليات التنفيذ.
ولد في مدينة دمشق سنة 1936 ورحل عنها أكثر من مرّة. مرّة ليدرس السينما في براغ، ومرّة لمحاولة شق طريقه في السينما الغربية في الثمانينات، ثم عاد لينجز أحد أهم أفلام السينما السورية والعربية في حينه على الأقل وهو «الكومبارس»، وبقي فيها هذه المرّة، لكنه غادرها مرّة ثانية عندما تكونت لديه القناعة من أن العيش في بلد يديره نظام ما زال يشتغل على المحسوبيات والتفرقة والتدخل في شؤون الإبداع ليراقب ما في البال ويسيطر على المكتوب والمعلن والمنتج من الأفكار ليس ما يريده لنفسه. هذه المرّة اختار دبي وجاءها واعدًا نفسه بمرحلة جديدة.
* زوار النهار
«كومبارس» هو فيلم عن ذلك الهم المتآكل الذي اشتغلت عليه الدولة السورية لمراقبة ما قد تفضي به إبداعات الآخرين. عن الحريّة المنتقصة في حدودها الطبيعية وما ترمز إليه من سيطرة الرقابة على كل أشكال الحريات الأخرى.
هناك شاب (بسام كوسا) يمني النفس بملاقاة حبيبته الشابة (سمر سامي) في مكان مغلق يجمع بينهما لأول مرّة. يوافق صديق له على إعارته شقّته. يهرع وإياه إليها ويبتهل لصديقه أن يتركه بعدما أخذ ذلك يتباطأ في المغادرة. بعد قليل تصل الفتاة. وديعة. جميلة وعاشقة. يأخذهما الكلام في أمور عدّة تفضي أحيانا إلى ما يشعران به من حب كل للآخر وأحيانا لما يخشيانه على هذا الحب. هناك طرق على باب الشقة ومحاولة رجل أمن استنطاق الشاب وما يعرفه عن سلوك جاره. لكن الشاب لا يعرف ومن حسن حظه أنه لا يعرف. بعض قليل ها هم رجال الأمن والمخابرات يقتحمون بيت الجار ويقودونه بعيدًا. أعين المخابرات في كل مكان.
بنجاح لافت يولج المخرج ظروف البلد ومنوال نظامه الأحادي على الشاب وفتاته. الفكرة ذاتها تقوم على الرغبة في الهرب من واقع يحد من حريّتهما، حتى إذا ما طرق المجهول ذلك الباب أحس العاشقان أنهما في خطر محدق. انتقل خوف المدينة إلى داخل الشقّة التي ليست المكان الأمن كما اعتقداه.
بعد عشرات الأفلام القصيرة وحفنة من الأفلام الروائية (بدأت بفيلم «الفهد» سنة 1972) جاء «كومبارس» ليتوّج أفلام المالح الروائية وليوحد بين خطوطها إذ طالما تحدّثت عن الكرامة التي أهانها القمع في مراحل وعصور مختلفة. الفيلم بحد ذاته رائع لناحية قدرة المخرج التشكيلية والسردية على تجسيد ساعة ونصف من الحدث بين شخصين في بيت واحد من دون هوان. كما من حيث تداعياته.
على صعيد عملي، وعلى الرغم من أن عددًا من أعماله تم إنتاجها عبر «المؤسسة العامة للسينما» في سوريا، فإن العلاقات لم تكن على خير ما يرام. فهو لم ينتم تمامًا للمؤسسة. رفض التطويع وحافظ على استقلاليته داخلها وخارجها على عكس ما فعلت المجموعة التي انخرطت فيما وفرته المؤسسة من أفلام. بالنسبة إليهم، كان الانخراط فرص عمل ثمينة بغياب القطاع الخاص (الذي تم تقويضه بالتدرج السريع). بالنسبة إليها كانت المؤسسة ترى أنها تقوم بواجبها كقطاع عام منتج للأفلام لأجل تعزيز الصناعة المحلية. أما بالنسبة إليه، فإن المؤسسة بقيت الذراع القوية للسلطة التي لا تستطيع أن تمنح المخرج حرّية القول لئلا يقول ما لا تود سماعه.
* تحت السيطرة
بعد «كومبارس» بثماني سنوات قدّم المالح فيلمًا روائيًا آخر لا يقل قيمة عن ذاك ويحمل التنوّع الشديد الذي اعتادت عليه أفلامه. إنه «بقايا صور» (1980) الذي جاب المخرج فيه الريف السوري بأسره. تعددت طقوسه وأجواؤه بتعدد أحداثه وانتقالها من مكان لآخر تبعًا لرحلة فلاح فقير (أديب قدورة) يبحث عن ملجأ داخل هذا الزمن لنفسه ولعائلته. على عكس «الفهد» مثلاً، والحكايات الشبيهة به القائمة على فرد يقود ثورة، سوف لن يتحول بطل «بقايا صور» إلى بطل مغوار يحارب النظام الذي يريد أن ينساه، بل يبقى ضحية كل تلك الظروف المناوئة التي يعايشها. بطله ساذج إذ يعتقد أن البركة والنجاح في السفر بين الأقطار وأنه إذا ما انتقل من مكان إلى آخر سيصيب تغييرا ملموسًا في حياته. لكن الرجل سيكتشف في النهاية أن الأماكن هي واحدة لأن المسيطر عليها (فوق أصحاب المزارع والمسؤولين وذوي السلطات المحلية) هو أيضًا حكم واحد.
قامت المؤسسة العامة للسينما بإنتاج هذا الفيلم محتفية آنذاك بعودة المخرج إلى العمل معها. القصّة لحنا مينا، والسيناريو لنبيل المالح وسمير ذكرى والتصوير لحنا ورد (الذي صوّر «كومبارس» أيضًا) والمونتاج لمروان عكاوي والجميع ذوي مكانة كبيرة في تاريخ السينما السورية.
حين سألته ذات مرّة عن السبب في قراره تحويل قصّة حنا مينا إلى فيلم لم يذكر سوى تلك العناصر التي تجذب الفنان مثله: «غناها بالتفاصيل والمناح وعمق البحث الإنساني عن مقومات الحد الأدنى لكرامة العيش».
قيمة كل من «كومبارس» و«بقايا صور» تتأكد بمرور الزمن عوض أن تنضوي في غياب رغم أن كليهما على نقيض من الآخر: الأول من بطولة شخصين مع ظهور محدود العدد لشخصيات أخرى، والثاني فيه 80 دورا ما بين رئيسي ومساند ومشاهد لمجاميع كبيرة. «الكومبارس» يدور داخل شقّة بينما يغطي «بقايا صور» 120 مكان تصوير. في الفيلمين جهد فني خلاق سنفتقده افتقادنا لمخرجهما النادر نبيل المالح.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.