هل يعود الانسجام المفقود لمجتمعاتنا؟

هل يعود الانسجام المفقود لمجتمعاتنا؟
TT

هل يعود الانسجام المفقود لمجتمعاتنا؟

هل يعود الانسجام المفقود لمجتمعاتنا؟

هل فقدت مجتمعاتنا العربية المتعددة الطوائف والإثنيات «انسجامها»، النسبي في الأقل، الذي عرفته في فترة اجتماعية وسياسية معينة، تبدو لنا الآن، في عز احترابنا الداخلي، كأنها صارت تاريخا؟ بكلمة أخرى: هل أصبح الشعور بالهوية الوطنية المشتركة شيئا عتيقا ينتمي إلى الماضي، لتحل محله مشاعر قلقة، منشطرة، لا تعرف أين تستقر، وإلى أي جسم تنتمي؟
يرى عالم الاجتماع بول براس أن «السلف المشترك» هو الذي يحدد الإثنيات في مجتمع ما. وهذا السلف المشترك يشمل التجارب التاريخية أو اللغوية أو الدينية المشتركة. لكن هذا الرأي، كما يضيف، يتجاهل الحدود المتحركة للمجموعات الإثنية التي يمكن أن تتغير في سياق الحركات الاجتماعية والسياسية. وبالطبع لا يمكن رسم هذه الحدود بشكل نهائي أو وضع خريطة ثابتة لها، على الرغم من أن بعض المجموعات التي تعرضت لتحولات كثيرة في هوياتها السياسية والاجتماعية قد حافظت على ثقافتها الجوهرية.
تعود الأقليات والطوائف المضطهدة إلى إرثها المشترك بوصفه نوعًا من التوكيد الذاتي في مجتمعات قامعة تتداخل فيها السلطة والهوية الطائفية، التي تصادر الهويات الأخرى. ولكن قلما نجحت مثل هذه المصادرة في التاريخ لأنها ضد الطبيعة الإنسانية. وقد ينعكس الأمر في ظروف تاريخية واجتماعية معينة، فيتحول القامع إلى مقموع. وفي الحالتين، يكون الثمن باهظًا، كما نرى الآن في أكثر من بلد عربي.
لم تتقدم أوروبا إلا حين نجحت في رفع الشعور الطائفي إلى مستوى الشعور الوطني بعد دخولها مرحلة العلمانية. ولكن ذلك لم يتحقق إلا بعد أن حقق الشعور الطائفي نفسه، بفضل النظام العلماني نفسه، من خلال تمتع الأقليات والطوائف والإثنيات الصغيرة بالحقوق المدنية والسياسية والدينية التي تمتلكها القوميات والطوائف الكبيرة. ولعل رفض اسكوتلندا العام الماضي الانفصال عن المملكة المتحدة واحد من أنصع الأمثلة التاريخية على ارتفاع الوعي الذاتي عند الإنسان العادي إلى مستوى وطني عام يتجاوز الإرث المشترك عند مجموعة إنسانية معينة.
وفي تقديرنا، أن الأكراد، خصوصا في العراق، ما كانوا ليتطلعوا للاستقلال لو تمتعوا بالحقوق نفسها التي تتمتع بها القومية الكبرى، ولم يواجهوا بالقمع والحرب منذ أربعينات القرن الماضي حتى التسعينات منه.
مجتمعاتنا العربية مجتمعات متعددة الإثنيات والطوائف، وبعض منها متعدد الأديان والقوميات، وأي قمع من قبل المجموعة الكبيرة المهيمنة وسلطتها المركزية، أو محاولة دمج، أو محو الإرث المشترك، لا يؤدي سوى إلى مزيد من الانقسام الاجتماعي والثقافي، والقضاء على ما تبقى من انسجام، ولو كان واهيًا. وفي المقابل، إذا لم تحقق الطائفة نفسها على المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي، فإنها لا يمكن أن ترتفع إلى مستوى الشعور الوطني، على الرغم من أن البعض يحاجج بأننا عرفنا ونعرف «انسجاما» معينًا في ظل الديكتاتورية السياسية والنظم البطريركية، متناسين أن مثل هذا «الانسجام»، ليس حقيقيًا، لأنه غير مبني على الإرادة والاختيار الحرّين، وإنما مفروض من فوق بالقوة، وما إن انهارت السلطة القمعية، كما حصل في العراق وليبيا على سبيل المثال، حتى تهاوى أمام الواقع الجديد.
ومع ذلك، يمكن القول إن ما تسمى «المشكلة الطائفية» مشكلة مفتعلة سياسيًا وفكريًا، بمعنى أنها ليست متغلغلة تمامًا في أعماق إنساننا العربي العادي، فقد عرفت شعوبنا انسجاما كبيرا بين مكوناتنا الطائفية والإثنية طوال تاريخنا، ولم تعرف حروبا أهلية طائفية بين السنة والشيعة مثلا، أو بين المسيحيين والمسلمين، ما عدا تناحرات حدثت في فترات تاريخية وسياسية معينة، لكنها لم ترتفع إلى مستوى الاحتراب الداخلي. هناك طائفية سياسية، صادرت الطوائف الصامتة التي لا تملك حولا، كما في لبنان منذ السبعينات، وفي العراق، الآن، وجعلت من نفسها ناطقا رسميا باسمها وضميرها، مستغلة عذاباتها وتهميشها في فترة تاريخية معينة. المقموع تحول إلى قامع حتى لطائفته، بمعنى أنه يحول دون أن ترتفع هذه الطائفة إلى مستوى المواطنة، بحبسها داخل الزنزانة الطائفية، خدمة لمشروعه السياسي. وما إن تمتلك هذا الطائفة وعيها الوطني العام، وهي تمتلكه بالتأكيد، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة التعبير عنه وتحقيقه فعليا، حتى يتهاوى هذا المشروع، لأنه سيفقد مرتكزاته الطائفية، التي يحاول أن يلبسها لبوسًا فكريًا ودينيًا.



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.