الجزائر: «الدولة العصرية» للقطيعة مع «دولة المخابرات»

التطورات في ضوء المراجعة الدستورية

أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي  وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين  إلى الشمال محمد بوضياف 
وديدوش مراد  ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة
أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين إلى الشمال محمد بوضياف وديدوش مراد ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة
TT

الجزائر: «الدولة العصرية» للقطيعة مع «دولة المخابرات»

أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي  وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين  إلى الشمال محمد بوضياف 
وديدوش مراد  ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة
أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين إلى الشمال محمد بوضياف وديدوش مراد ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة

يدور في الجزائر راهنًا حديث عن «تأسيس جمهورية ثانية» وعن «دولة مدنية» و«مناخ جديد تسوده الحريات»، وذلك في ضوء التعديل الدستوري الذي صادق عليه البرلمان الجزائري يوم الأحد 7 فبراير (شباط) الحالي، بنسبة تأييد كبيرة فاقت 90 في المائة. والفكرة الرئيسية التي يتداولها المدافعون عن مراجعة الدستور، هي أن الدستور الجديد أحدث قطيعة بين عهد سيطر فيه جهاز المخابرات العسكري على كل مناحي الحياة، وعهد جديد نقيض الأول.

كان أول من أعطى مؤشرات عن تحوَل لافت في الدولة الجزائرية، على صعيد ممارسات نظام الحكم، عمّار سعداني، أمين عام حزب الأغلبية «جبهة التحرير الوطني».. ففي مطلع 2014 هاجم سعداني بحدة رئيس «دائرة الاستعلام والأمن» بوزارة الدفاع الفريق محمد مدين، الشهير بـ«الجنرال توفيق».
كلام سعداني الذي أدلى به لصحيفة إلكترونية محلية، لم يسبقه إليه أحد. ولعل من أخطر ما قال سعداني إن الجنرال الذي كان بعبعًا في البلاد، مسؤول عن اغتيال الرئيس الأسبق الراحل محمد بوضياف عام 1992، ومسؤول عن التقصير في حماية الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة من محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في 2007. وكذلك هو مسؤول عن الانشقاقات التي وقعت في أحزاب المعارضة، وعن سجن المئات من الكوادر التي سيرت الشركات العمومية.
ومن ثم، عُدّ أن كلام سعداني بحق «توفيق» يعكس شيئًا ما غير عادي في الدولة؛ ذلك أن الصحف ما كانت تجرؤ أصلاً على ذكر اسم الضابط الكبير، وتعلم أنه حريص على البقاء «وراء الستار». وكان معروفًا عنه أنه لا يظهر إلى العلن أبدًا، ولم يتعرّف الجزائريون على ملامحه إلا يوم عزله في 13 سبتمبر (أيلول) الماضي، بعد 25 سنة من رئاسته الجهاز الأمني القوي.
هجوم سعداني تلته سلسلة تغييرات مهمة في المخابرات التي تعد العمود الفقري للجيش منذ أيام «جيش التحرير الوطني» وصراعه مع الاستعمار الفرنسي. ولقد بدأت بإلغاء «شرطة المخابرات» التي كان سببًا في متابعة مسؤولين بارزين بتهم الفساد، بعضهم مقرب من رئيس الجمهورية. وتوالت التغييرات بتجريد المخابرات من صلاحية تسيير الأمن الرئاسي وأمن الجيش، وإلحاق هذين النشاطين برئاسة أركان الجيش. وبذا انتقل النفوذ في المؤسسة العسكرية من مركزه القديم؛ أي المخابرات ورئيسها، إلى القطاع العسكري العملياتي المولج التعبئة في حالة الحرب، ومنه أضحى قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، أقوى رجل في الجيش. ومعروف عن صالح شدة ولائه للرئيس بوتفليقة، على عكس «توفيق» الذي عارض ترشحه لولاية رابعة في 2014، ووقف ضد هذه التغييرات.

* الإصلاح الدستوري لتفادي الربيع العربي
بالموازاة مع هذه التطورات، كانت الرئاسة بصدد تنفيذ خطة إصلاحات سياسية، تعهد بها بوتفليقة في ربيع 2011 لتفادي توسع دائرة «الربيع العربي» وشمولها الجزائر؛ إذ وصلت «عدوى» الإطاحة بالأنظمة حينذاك إلى ليبيا، وشعر النظام الجزائري بأن «ساعته» حانت، فسارع إلى إطلاق وعود بتغيير بعض القوانين ذات الصلة بالحريات وممارسة الديمقراطية. وقرّرت الحكومة الترخيص لنحو 20 حزبًا، كانت تعطل نشاطهم بحجة أنه «لا جدوى من إنشاء أحزاب جديدة لوجود أكثر من 60 حزبا في الساحة السياسية».
وتفاءلت الطبقة السياسية خيرًا، وقال نشطاؤها إن بقاء النظام أفضل من «التوجّه إلى المجهول».. فالتغيير في مخيال قطاع واسع من الجزائريين يعني العودة إلى سنوات الإرهاب المدمر، ومجرد استحضار صور آلاف القتلى والخراب في البنية التحتية كفيل برفض أي فكرة تدعو إلى نقل البلاد إلى مرحلة جديدة. وحقًا، استغل موالون للرئيس هذه الحقيقة، واستثمروها في حملة انتخابات الرئاسة في 2014 التي لم يشارك فيها الرئيس رغم ترشحه بسبب المرض، وردّدوا بشكل صريح ما يلي: «ستلقى الجزائر مصير ليبيا في حال عدم التجديد».
لقد استغرقت بلورة الدستور الجزائري الجديد قرابة 5 سنوات، حشد خلالها الرئيس تأييد كل أحزاب «الموالاة» ومئات التنظيمات والجمعيات والنقابات لصالح المسعى، في حين قاطعت مشاورات الدستور كل أحزاب المعارضة، التي قالت إنها «تشتم رائحة ربح الوقت» على أساس أن النظام يجد دائمًا شيئًا يلهي به الجزائريين عندما يكون في مأزق، واتهمته بأنه غير جادٍ في إحداث التغيير.
وفي خضم هذه التطورات السريعة، تم اللجوء إلى قرار وإطلاق فكرة.
«القرار» يتعلق بمنع الجزائريين مزدوجي الجنسية من الوصول إلى المناصب الحساسة في الدولة. وأوحى ذلك بأن بوتفليقة يريد التخلص من أشخاص أصبحوا عبئًا عليه بحكم ارتباط مصالحهم الشخصية مع بلدان غربية، خصوصا فرنسا. ويُشاع في الأوساط السياسية حاليًا، أن التعديل الحكومي المرتقب بعد صدور الدستور الجديد، سيشهد خروج بعض الوزراء الذين يحملون الجنسية الفرنسية إلى جانب الجزائرية. وستتبع ذلك «حملة تطهير» تخص مزدوجي الجنسية في الوظائف الحكومية الكبيرة.
أما «الفكرة» فهي تعيين وزير دفاع مدني، في مستقبل قريب، لأول مرة في الجزائر. وسيكون هذا الوزير مطالبًا بالنزول إلى البرلمان لمناقشة موازنة وزارة الدفاع الضخمة (14 مليار دولار سنويا)، وهو ما لم يفعله شاغل منصب وزير الدفاع منذ الاستقلال، الذي جمع دومًا بين الوزارة ورئاسة الجمهورية.
أول من روج لهذه الفكرة، المستشار بالرئاسة كمال رزاق بارة، الذي قال للإذاعة الحكومية: «إن التوازنات الجديدة في مجتمعنا والتحديات المطروحة أمامنا تفرض أن تكون لمؤسسات مدنية وجمهورية الغلبة على المؤسسة العسكرية في تسيير البلاد». وقصد بذلك أن تدار شؤون السياسة والحكم المدني من طرف مؤسسات مدنية لا الجيش. وأضاف: «ربما سنشهد في المستقبل نزول وزير دفاع مدني إلى البرلمان لشرح ميزانية المؤسسة العسكرية وتبريرها، وهذه المرحلة تؤكد فعلاً إرادة لبناء دولة مدنية».
وعن التغييرات التي أدخلت على الجهاز الأمني، قال بارة: «إصلاح مصالح الأمن يعكس إرادة رئيس الجمهورية في إقامة دولة عصرية، ويندرج في إطار استكمال بناء جزائر المستقبل. يجب على كل واحد في المرحلة المقبلة، أن يؤدي دوره في إطار دولة عصرية، حيث يتم احترام مبدأ التداول على المناصب (..) أما عن تدخل العسكريين في تعيين مدنيين في مناصب المسؤولية، فينبغي أن يضبط ضمن المادة (25) من الدستور، التي تقول إن مهام الجيش هي حماية السيادة والوحدة الوطنية والحدود من المخاطر».
وكان بارة أول مسؤول بارز برئاسة الجمهورية يتحدث، وبشكل واضح، عن التغيير الذي جرى في المخابرات وعن أهداف هذا التغيير. وكلام بارة بهذا الخصوص يفهم منه أن الأمر يتعلق بقطيعة بين فترتين؛ فترة هيمنة المخابرات على الحياة السياسية بقيادة «الجنرال توفيق»، وفترة جديدة تمثل نقيض الأولى.

* التغييرات عززت موقع النظام
خالد شبلي، الباحث في القانون الدستوري والشؤون البرلمانية، يعلّق بخصوص التطوّرات الكبيرة في البلاد، لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «التعديل الدّستوري في الجزائر، وفقًا للقراءة القانونية، يندرج في إطار مواصلة مسار الإصلاحات السياسية؛ فقد جاء فيه أن الهدف من هذا المشروع ملائمة القانون الأسمى للبلاد مع المتطلبات الدّستوريّة التي أفرزها التطور السريع لمجتمعنا، والتحولات العميقة الجارية عبر العالم، وذلك من خلال تعزيز مبدأ الفصل بين السلطات، وتدعيم استقلالية القضاء ودور البرلمان، وتأكيد مكانة المعارضة وحقوقها، وضمان المزيد من الحقوق والحريات للمواطنين. أما من الناحية السياسية، فمن البديهيات المسلم بها في علم السياسة والنّظم السياسية أن أي نظام سياسي في أي بلد ما، يعمل باستمرار لكي يبقى، ويظل في السلطة. وبذلك يكيف نفسه مع مختلف المستجدات. ولا يوجد نظام سياسي في العالم يعمل ضد مصلحته الرامية للبقاء، ولذا فإن هذا التعديل جاء ضمن هذا السياق».
وأضاف شبلي: «مصطلح الدولة المدنية، الذي جرى الحديث عنه كثيرًا في البلدان العربية في الآونة الأخيرة، ومنها الجزائر، بمناسبة التعديل الدستوري، مصطلح غربي بالأساس يقصد به الدولة اللائكية (العلمانية)، على نقيض الدولة الدينية التي كانت مسيطرة على مقاليد الحياة العامة في أوروبا في عصر الظلام، الذي عرفته أوروبا، والذي تزامن مع عصر النهضة الإسلامية في الشرق. أما توظيف هذا المصطلح في الجزائر، فجاء في سياق الإشارة إلى أن الجزائر، حاليًا، في مرحلة جديدة تهدف إلى تجديد الأطر الناظمة للحكم بما يتماشى مع مشروع مجتمع يتبنى طرح تعزيز دولة القانون والمؤسسات. وبصراحة، فإنه طرح سياسي أكثر منه قانونيا، لأنه من الناحية الدستورية في الجزائر، الإسلام هو دين الدولة، وهذا إذا كان المقصود بمشروع الدولة المدنية الدولة اللائكية. أما إذا كان المقصود بالدولة المدنية هو الفصل بين السلطة المدنية والعسكرية، فهذا طرح آخر».
وتابع شبلي: «إذا كان التعديل الدستوري الجديد، يكرّس لبناء جمهورية ثانية في الجزائر، فتجب الإشارة هنا إلى أن مصطلح (الجمهورية الأولى) أو (الثانية) أو (الثالثة)، أو (الرابعة).. مصطلح مأخوذ من التجربة الفرنسية، التي كرّست لهذا المفهوم، حيث ربطت بين التجديد الدستوري للدولة، وقيام الجمهوريات المتعاقبة. وضمن هذا الطرح، فإننا نقول بأننا لسنا أمام (الجمهورية الثانية)، بل أمام بناء (الجمهورية الخامسة)، منذ دستور 1963، إذا ما تمّ الربط بين إقرار الدستور والتجديد الجمهوري.. فالجمهورية الأولى مع دستور 1963، والثانية مع دستور 1976، والثالثة مع دستور 1989، والرابعة مع دستور 1996، والخامسة، حاليا. إذا ما جرى الأخذ بهذا الطرح الفقهي».
ويرى الباحث أن الدستور «ما هو إلا اجتهاد بشري يتطوّر باستمرار من أجل تكريس نظام حكم أكثر فعالية، بما يساهم في تفعيل العقد الاجتماعي القائم بين الحرية والسلطة. لذا يجب على الجميع احترامه والتقيد به، مهما اعترته نقائص أو سلبيات. إن القراءة القانونية للوثيقة الدستورية تخبرنا بأنّ الدستور دستور الشعب الجزائري، الذي أقره ممثلوه في البرلمان، وليس دستور شخص أو فئة معينة. أما القراءة السياسية، فتتلخص في أن الجزائر تسير بخطى ثابتة نحو تداول سلمي وسلس للسلطة، ستفرز تجديد النظام الجمهوري القائم في البلد».

* قفز نحو المجهول!
ولكن بعكس هذا الطرح تماما، يقول حسني عبيدي مدير «مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسط بجنيف» لـ«الشرق الأوسط» موضحًا: «الإصلاحات الدستورية التي أدخلها بوتفليقة لا تحمل من الدستورية إلا الاسم. التعديلات أتت متأخرة بعد انتظار طويل على أن تكون في مستوى تحديات المرحلة وتقلبات المنطقة، غير أنها جاءت مخيبة للآمال، لأنها تفتقر للحد الأدنى للمصداقية الدستورية، بعد تمريرها بطرق ملتوية، وتتهرّب من معضلة الشرعية الدستورية التي يفتقدها النظام. لقد تم التصويت عليها وكأنها لا تهم الشعب الجزائري؛ بل شعبًا افتراضيًا. وهذا الأخير بدوره يعيش في قطيعة مع نسق سياسي لا يمثله ولا يعترف به. من هنا، فإن التعديل الأخير يعد حدثًا عرضيًا. والرئيس نفسه لا يعيره أي اهتمام. إن ما يشغل الرئيس هو تجديد نظامه السلطوي، وتوسيع دائرة المرتزقين وزبناء النظام، وتأمين مساره ومستقبله. وهنا أظهر الرئيس قدرة فائقة في تقزيم أي سلطة مضادة أو مشروع سلطة مضادة في التوقيت السيئ».
وأضاف عبيدي – وهو جزائري – أن «فتح ورشة تخصّ المؤسسة الأمنية استعمله الرئيس للتغطية على الفشل الذريع في الإحاطة بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وقد أنهك هذا التصرف الدولة وجعلها تدور في حلقة مفرغة. أكثر من ذلك، من شأنه أن يضعف مؤسسة أمنية استطاعت أن تحافظ على مقومات الدولة في العشرية السوداء (فترة الإرهاب) وبعدها. إن الزجّ بالمؤسسة الأمنية في صراع البقاء قبل الشروع في إصلاحات سياسية حقيقية، بمرجعية مستمدة من الشرعية المفقودة، قفز نحو المجهول. من هنا، فإن مدنية الدولة التي يصفّق لها النظام، أول من سيعمل على تقويضها هو رأس النظام. في ظل غياب عقد اجتماعي حقيقي، فإن الحديث عن المدنية ترف سياسي. وبالمحصلة، فما يجري في الجزائر من شأنه أن ينقلها إلى عهد يكرّس سراب الاستقرار، بدل تكريس الإصلاح من أجل الاستقرار الحقيقي».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».