يُفصح السطر الأول من مقدمة كتاب «مراعي الصبار» بأنّ نصوصه مُنتزعة من «يوميات» الكاتب، لكنها ليست بريئة من فعل الخيال الذي يضفي عليها غموضًا مُحبّبًا يستدرج القارئ إلى غابة مُضبّبة ملأى بالأسرار والمفاجآت.
قد تبدو «اليوميات» كلمة عائمة تدور في فلك التشابه والتكرار المملّين، لكن ثمة «مُذكّرات» مهمة تغري الكاتب للعودة إليها، ونبشها، وتقليبها، لأنها تنطوي على ما يستحق الرصد والتأمل والتدقيق. وهذا ما حصل بالضبط لفوزي كريم الشاعر، والناثر، والرسّام، والناقد الموسيقي الذي يدّعي أنه «الشاعر الأكثر عزلة عن الناس»، وينأى بنفسه عن الوسط الثقافي العربي، لكن واقع الحال يكشف العكس تمامًا، كما تقول اليوميات، فهو يرتاد دار الأوبرا، والمتحف الوطني، والأكاديمية الملكية، ويتردد على الساوث بانك، والباربيكان، وشارع كورك المُزدحم بالمعارض الصغيرة، ويتنقل بدراجة هوائية بين صالات السينما، والقاعات الموسيقية، ومعارض الفن التشكيلي التي تغذّيه بالثقافة البصرية التي لا تحتاج إلى معرفة باللغة الإنجليزية التي سوف يتعلمها لاحقًا، ويُترجم منها إلى اللغة العربية ما يتناغم مع ذائقته الشعرية من قصائد.
لم تتحطّم جدران العزلة التي يعاني منها فوزي كريم إلاّ بمَقْدم صلاح، الصديق الذي سيشاركه السكن على مضض. فهذا الرجل يتحدث «باحتقار أخ يكبره سنًّا»، فلم يجد حرجًا في القول: «سأقتسم معكَ سُكنى الفئران هذه إلى حين»، لكن الراوي كان يتحمل هذا الصديق لأنه «كان مثقفًا مهمومًا باجتراح حلول جذرية لأزمة الفقر». إنّ ما يهمّ القارئ هو التناقض الحاد بين الكاتب وضيفه، فهذا الأخير نباتي، ويساري متطرف، إضافة إلى تركيبته الشيزوفرينية التي حرّكت الحياة في هذه الشقة الساكنة.
مثلما أطلّ صلاح وتوارى عن الأنظار مُخلِّفًا حضوره الباذخ، تطل زاهية التونسية التي يحبها الراوي على الرغم من ارتباطها العاطفي بأدهم، فهي تحبهُ، ولديها الرغبة في الزواج منه، لكن شيئًا من كيانها بقي تائهًا ومعلقًا في الفراغ الذي لا يستطع أدهم أن يسدّه وحده، فلا غرابة أن يحضر الراوي ليعوّض العنصر التائه في هذه العلاقة الإشكالية التي لا تكتمل من دونه، وأغرب ما في هذه العلاقة الشائكة أنه لا يحبّذ امتلاكها وإنما يريدها معه فقط.
ليس من الغريب أن تحضر اللوحة الفنية في هذه اليوميات، فهي جزء أساسي من الثقافة البصرية للراوي، فهو رسّام وإن لم يكرّس حياته للرسم، كما أنه ناقد فني لمّاح تتجلى خبرته النقدية عند الحديث عن المعرض الاستعادي لمونك، فهو بخلاف جمهرة من النقاد التشكيليين لم يرَ في نظرات مونك المذعورة أي ملامح غيرة مثلما هو لا يغار على زاهية من أدهم أو حتى من الناس الآخرين. لا بد من الإشارة إلى الصراع الداخلي، ومشاعر الحرج الثقيلة، والإحساس بالذنب الذي يعانيه الراوي بسبب موقفه من زاهية وعلاقته الغامضة بها، لأن قسمًا مهمًا من مشاعرها ينصبّ عليه لأنه يشغل المساحة المرتبكة من عاطفتها الإنسانية الحميمة.
الصديق الثاني الذي يلتقيه قادمًا من العراق هو المسرحي جليل الشرقي، الذي كبُر بعض الشيء وسيتخذ من وجوده ذريعة لتأكيد عدم معرفته باللغة الإنجليزية، فلم يذهبا إلى عرضٍ مسرحي مثلا، وإنما ذهبا إلى حفل موسيقي بحجة أن الموسيقى لغة عالمية يفهمها الجميع. كما سيتخذ الراوي من وجود هذا الصديق حجة للعودة إلى بغداد التي لن تعود إلى سابق عهدها، لأن «الزورق دخل في المحيط العاصف»، وأن السيد النائب قد أصبح رئيسًا للجمهورية وبدأ بتصفية الحساب مع رفاقه في القيادة قبل أن يبدأ بخصومه وأعدائه.
يكتظ هذا الكتاب بالأفكار المتناسلة التي ينتجها الراوي عن نفسه وعن الشخصيات التي تظهر وتؤدي وظيفتها قبل أن تختفي لتظهر من جديد أو تتوارى كليا لتتيح للراوي أن يتجول في «مراعي الصَبَّار»، وهو يتأرجح بين فكرتي الإيمان والإلحاد: «إنني لستُ ملحدًا، كما أنني لستُ مؤمنًا»، لأن «اللاإيمان يليق بالشاعر».
لعل «ليلة الكابوس» هي أهم ما في العودة الذهنية إلى بغداد حيث نتعرف على شخصية «هوبي» الذي يبدو ضعيفًا، سهل المكسر، لكنه مرتبط بعلاقة حميمة مع شاعرة. ويتضح لاحقًا أن ليلة الكابوس التي كذّب فيها «هوبي» قليلا كانت ليلة إعدام أخيه، فلا غرابة أن يهلع من فكرة اعتقاله الوشيك لأن العراق «لا فسحة فيه للعزاء أو السلوان، هذه هي الحقيقة كلها».
يحلّ حجي إسماعيل ضيفًا على الراوي بمزاجه الرائق، وشخصيته خفيفة الظل التي تصوِّر لنا خوف الشخصية العراقية من الديكتاتور وهي بعيدة عنه آلاف الأميال، فهذا الرجل يهمس حينما يأتي على ذكر «السيد النائب» أو عبارة «بعد مجيء الجماعة»، لكن قصصه الأخرى الأقرب إلى الخرافات تمنح الكتاب بُعدًا فانتازيًا جميلا.
يبدو أن الشاعر فوزي كريم هو أفضل من وظّف عِلله البدنية في الأدب العراقي، ومن يقرأ هذا الكتاب لا بد أن يرتجف قلبه، ويتضاعف عنده الخفقان، لكن العبرة في هذا الكتاب أنه يحوّل الأمراض الجسمانية إلى مختبر لفحص الآراء، والمفاهيم، والقيم الحضارية التي يتشبث بها هذا الكائن البشري على الرغم من البقع السوداء التي تبسط نفوذها على مساحة غير قليلة من هذا القلب المرهف.
يُفزع كريم قارئه حينما يتابع تدهور الحالة الصحية للشاعر شريف الربيعي الذي تبين أنّ غدة البنكرياس لم تسلم من مخالب السرطان التي بدأت تنهش في أعماقه، وأن حالته الصحية ميؤوس منها، بعد أن فشلت كل المحاولات الطبية للدفاع عنه وإنقاذه من هذا الأخطبوط الغامض الذي فاجأه على حين بغتة.
تكمن أهمية هذا الفصل تحديدًا في مراقبة الراوي لوجوه الأصدقاء الكثر الذين زاروه في المستشفى، بعد أن استحوذت عليهم مشاعر الخوف والقلق والترقب. بعضهم يبكي بصمت، وبعضهم ينشج، وبعضهم الثالث ينخرط في بكاء حار حينما تتناهى إليه مناغاة صادق الصائغ المؤثرة وهو يقول بصوت مسموع «أبو الشرف، فدوة لعيونك».
هذا الكتاب مُهدى إلى عبد الستار ناصر، الصديق الذي توقع أن يرحل أحدهما، هو أو فوزي كريم، إلى عالم الأبدية في عام 2007، وتمنى صادقًا أن يكون هو الراحل وليس فوزي كريم، وقد تحققت نبوءته ولكن بعد ست سنوات. لم يرتكس الكاتب إلى السحر والمعجزة والنبوءة، لكنه يؤمن بأن «هناك فيوضات روحية يشحنها الشعر والفنون»، وربما تقودنا هذه الفيوضات إلى القول بأن «الموت لا يعني العدم».
لم يأتِ فوزي كريم إلى لندن طمعا بمغامرة أو رغبة باكتشاف، وإنما جاءها هاربًا فأصبحت تيمة الهروب الأبدي أساسية في شعره ونثره أيضا. أما الماضي فقد كان يعيشه ولا يكتفي باستعادته.
وهو لا يحب أيضا نثر المعميات والرطانة اللغوية التي يُعِّدها مرضًا يفتك بجمالية النص الأدبي، ولا يجد حرجًا في القول بأنه يريد أن يفهم ما يقرأه، فلا غرابة أن يحرِّم على نفسه استعمال كلمات لا يفهمها من قبيل «الشعرية»، «النسق»، «التناص»، «التماهي»، «حركية السكون» و«المسكوت عنه»! هل حقًا لا يفهم فوزي كريم هذه المصطلحات وهو المُشتغِل في حقل اللغة منذ خمسة عقود تقريبا؟
يوميات ليست بريئة من الخيال
«مراعي الصبار» لفوزي كريم
يوميات ليست بريئة من الخيال
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة