من التاريخ : الثورة الصناعية الأولى والاقتصاد الدولي

جيمس وات
جيمس وات
TT

من التاريخ : الثورة الصناعية الأولى والاقتصاد الدولي

جيمس وات
جيمس وات

اطلعت منذ عدة أيام على مقال كلاوس شواب، مؤسس «المنتدى الاقتصادي الدولي»، حول ما سماه بـ«الثورة الصناعية الرابعة» التي يتأهب العالم اليوم لاستقبالها من خلال تطبيق نظريات تكنولوجيا «النانو» والتكنولوجيا الحيوية لعلم التحكم وغيرها من الاختراعات. وهي اختراعات بدأ العالم يستوعبها تدريجيًا بعد الثورة الصناعية الثالثة خلال النصف الثاني من القرن الماضي التي تمثلت فيما هو معروف بمعجزة «الثورة الرقمية».
وتقدير الكاتب أن «الثورة الرابعة» التي نحن على أعتابها ما كانت لتتحقق لولا الثورة الصناعية الأولى التي أدخلت الماء والبخار كعنصرين لـ«ميكنة» (أو «مكننة») الإنتاج. فنحن اليوم نعيش على القواعد التي وضعتها الثورة الصناعية الأولى في منتصف القرن الثامن عشر التي غيرت من شكل الحياة آنذاك، ووضعت اللبنة الأولى لتطوير حياتنا واقتصادياتنا على النحو الذي نعيشه اليوم.
لقد بدأت الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في الحقبة السادسة من القرن الثامن عشر من خلال سلسلة من الاختراعات التي حوّلت مجرى وأنماط الإنتاج على مستوى القارة الأوروبية. إلا أن الأسباب الحقيقية وراء ذلك التطور ارتبطت بشكل وثيق بالثورة التجارية ونظام «الميركانتيلية» التي تابعناها على مدار الأسبوعين الماضيين، إذ دفعت زيادة وتيرة التجارة الدولية إلى السعي من أجل زيادة معدلات الإنتاج على مستوى الدول الأوروبية. وهو ما بات يحتاج إلى «ميكنة» النظم الصناعية، ولو بشكل بدائي، خاصة مع زيادة الطلب الدولي على المنتجات المصنعة، وذلك على ضوء وجود مستعمرات واسعة للغاية تبادلات تجارية كثيفة على المستوى الدولي. أما السبب الثاني فوقف وراءه ظهور الطبقة الرأسمالية التي ولّدتها الثورة التجارية التي كانت قادرة على الاستثمار في أعمال المخترعين والاستفادة منها رغبةً منها في إيجاد وسائل حديثة لزيادة الإنتاج وتطويره ومن ثم الربحية. ولقد كانت هذه الطبقة هي الوحيدة القادرة على تمويل مثل هذا التحرك. ومن ثم، لم يكن مستغربًا أن يرتبط كثرة من المُخترعين برجال أعمال عكفوا على تمويل أبحاثهم وتجاربهم للاستفادة منها على مستوى واسع. وكانت هنا بداية مفهوم «البحث والتطوير R&D» في غالبية الشركات الكبرى اليوم، فزواج رأسمال والفكر كان نسله الطبيعي الثورة الصناعية الأولى.
واقع الأمر أن الثورة الصناعية الأولى بدأت في بريطانيا دون غيرها من الدول الأوروبية الأخرى على الرغم من أنها لم تكن أكثر الدول تقدمًا مقارنة بدول أوروبية أخرى. عناصر ظهور هذه الثورة في بريطانيا توافرت لأسباب كثيرة، أبرزها: أن بريطانيا كانت أكثر الدول الأوروبية تطبيقًا للمفهوم البدائي للرأسمالية، فهي المستفيد الأول من الثورة التجارية في القرنين السادس والسابع عشر، واستطاعت أن تنظم اقتصادياتها على النحو المطلوب وهو ما سمح بعنصرين أساسيين: الأول، التراكم الرأسمالي المطلوب في أيدي طبقة جديدة بازغة. والثاني، التنظيم الجيد للدولة في هذا المجال. وبالتالي، الكل استفاد من الثورة التجارية من الدولة إلى المزارع البسيط، فضلاً عن وجود نظام بنكي وشركات مساهمة كبيرة متطورة، وكان دور الدولة يتمثل بضمان حرية المنافسة والاستقرار والانخفاض النسبي للفساد الحكومي مقارنة بدول أخرى مثل إسبانيا وفرنسا. لكل هذه الأسباب مجتمعة كانت الساحة معدة تمامًا لانطلاقة الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا، التي تبعتها باقي القارة الأوروبية فيما بعد، ولكن ليس قبل أن تقطف بريطانيا ذاتها ثمار هذه الثورة العظيمة أكثر من أي دولة أخرى في أوروبا والعالم.
لقد أخذت الثورة الصناعية الكثير من الأشكال، ولكن أهم عناصرها على الإطلاق كان التوسع في عملية «الميكنة» ومن ثم التصنيع. لقد كانت البداية في مجال الغزل فبعد اختراع عجلة الغزل (النول) التي سمحت بغزل ما يقرب من ثمانية خيوط في وقت واحد وسمّي هذا الاختراع باسم «ماكينة جيني» نسبة إلى زوجة المخترع، بدأت عمليات تطويرها إلى أن طوّر آخرون ماكينات تسمح بغزل أربعمائة خيط في وقت واحد، وهو ما كان يُعد معجزة صناعية في ذلك الوقت، ثم جرى تطوير الماكينات لتدخل مجال النسيج.
بعدها، باشر المخترعون العمل على بناء الماكينات البخارية لأغراض صناعية، ولكن نظرًا لكبر حجم هذه الماكينات كان من المستحيل أن تستمر عملية التصنيع في الورش الصغيرة Workshops، وصار من المطلوب التوسع في المرافق. هذا ما دفع المستثمرين لشراء الأراضي وبناء المصانع لاستيعاب هذه الماكينات أو الآلات الضخمة الحديثة، ومع ذلك وضعت طبيعة الماكينات حدودًا على عملها نظرًا لحاجاتها الكبيرة للتبريد لدفع عملها. وهنا كان الدور الرائد للمخترع جيمس وات الذي ابتكر وسائل للتبريد تسمح لهذه الماكينات بالعمل لمدد طويلة للغاية من دون التوقف للتبريد، ويعد مثال هذا المخترع تجسيدًا لمفهوم تزاوج العلم ورأس المال، إذ أفلس هذا العبقري بينما كان يصنّع اختراعاته ما دفعه لعقد شراكة مع أحد الرأسماليين البريطانيين. ولقد موّل هذا الأخير الاختراعات حتى استطاعا معًا تسجيل براءة اختراع أول ماكينة تعمل بالبخار والتبريد أيضًا، واستفادا منها استفادة عظيمة وباعا ما يقرب من ثلاثمائة ماكينة. وتواكب مع ذلك التوسع الكبير في استغلال الفحم كأداة للطاقة بدلاً من الخشب. لم يتأخر الأمر كثيرًا لنقل فكرة ماكينة البخار إلى المجالات المختلفة، إذ سرعان ما صنعت أول سفينة تسير بالطاقة البخارية. ولكن الفضل فيها هذه المرة لم يكن للبريطانيين، بل جرى تطويرها في الولايات المتحدة بعد استقلالها عن بريطانيا، وبالفعل أجريت تجربة أول سفينة يحركها البخار (باخرة) في نهر البوتوماك الذي يمر في العاصمة الأميركية واشنطن وشهد الاحتفال الزعيم الأميركي جورج واشنطن بنفسه.
وتوالى تطوير السفن البخارية على مدار العقود التالية إلى أن أصبحت أداة تجارية في أيدي الدول الكبرى؛ غير أنه لا حدود لحركة التقدم، إذ سرعان ما انتقلت الثورة الصناعية على الفور إلى اختراعات موازية فطور البريطانيون نظام المحركات البخارية لتصنيع أول سيارة غير أنها لم تكن اقتصادية فطبق هذا المفهوم لاختراع وسيلة جديدة للنقل السريع فكان اختراع العربات الحديدية التي تقطرها قاطرة تمشي على قضيبين أي القطار. وبدأت بريطانيا تتوسع في ربط مدنها بهذه الوسيلة الجديدة والمتطورة والتي توفر الجهد والوقت معًا، وسرعان ما انتشر هذا الاختراع إلى باقي الدول الأوروبية.
من ناحية أخرى، اخترع العالم صامويل مورس وسيلة لاستخدام الطاقة الكهرومغناطيسية للتواصل التلغرافي فرُبطت المدن الكبيرة بخطوط تلغرافية استخدمت ما هو معروف بـ«رمز مورس»
Morse Code عبر استخدام النقطة والشرطة للتواصل. ولقد وُضع أول خط بحري عبر المحيط الأطلسي بين الولايات المتحدة وبريطانيا في عام 1866. كذلك انتشرت الاختراعات في مجال الزراعة ما أدى إلى «ميكنة» وسائل الحصاد والتصنيع الزراعي بالإضافة إلى اختراع أسمدة كيميائية وعضوية جديدة ساهمت بشكل كبير للغاية في تطوير الأنظمة الزراعية وزيادة إنتاجها.
وبصفة عامة، وضعت الثورة الصناعية الأولى العالم على أعتاب انطلاقة حديثة غير محدودة للتطوير، وكانت انعكاساتها على النظام الاقتصادي الدولي هائلة غيّرت بشكل جذري طريقة الحياة، إذ أدت إلى «ميكنة» الزراعة والصناعة، ولو بشكل بدائي، إلى رفع الإنتاجية. كما أنها أدخلت مفهوم استخدام الطاقة في الحياة فطوّرت نظم الإنتاج ووضعت أساسيات نظام المصانع بدلاً من الورش الصغيرة. وأدت بشكل مباشر لسرعة التواصل والمواصلات سواء الداخلية أو الخارجية، ولئن اعتقد البعض أن هذا كان نهاية المطاف فحقيقة الأمر أنه كان مجرد بداية المطاف للثورات الثلاث التي أشار إليها كلاوس شواب في مقاله المشار إليه، فأصبح العالم يتأهب حقًا لاستيعاب الثورة الصناعية الثانية كما سنرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.