عندما تُذكر الـ«هوت كوتير» فإن باريس هي أول ما يتبادر إلى الذهن، وقلة قليلة فقط يعرفون أنه كان لروما تاريخ في هذا المجال قبل أن يهجرها بعض أبنائها من أمثال فالنتينو غارافاني في السبعينات إلى باريس، وقبل أن يغيب الموت بعضهم والأزمات المتتالية البعض الآخر. روما تحاول منذ فترة أن ترسخ هذه الحقيقة في الأذهان من خلال أسبوعها السنوي «ألتا روما» الذي كانت تركز فيها على كبارها من أمثال الراحل سارلي، رافائيلا كيريال، روناتو باليسترا، دار «غاتينوني» وغيرهم، وتدعو فيه مصممين متخصصين في هذا المجال من كل أنحاء العالم لإغنائه وإضفاء صبغة عالمية عليه.
بعد عدة محاولات مستميتة لم تعط ثمارها المطلوبة، كان لزاما على منظمي الأسبوع أن يتبنوا استراتيجيات مختلفة. الهدف كان البقاء في الواجهة من جهة، وشد الانتباه إلى الحرفية اليدوية التي تتمتع بها أوراشها ومعاملها فضلا عن أناملها التي توارثت المهنة أبا عن جد، من جهة ثانية. ما جعل هذه الخطوة ضرورية أن «ألتا روما» استنتجت أخيرا أن الـ«هوت كوتير»، ورغم تهليل الجميع لها على أساس أنها تعيش نهضة ذهبية جديدة، لا يمكن أن تبقى منتعشة في ظل الأزمة العالمية، وبأن المسألة ما هي إلا مسألة وقت قبل أن تفقد رنتها الذهبية. الحل في نظرها كان استباق الأمور وتغيير دفة اتجاهها نحو الفنون التي ترتبط بروما كعاصمة السينما الإيطالية وباقي الفنون، والشباب، لا سيما أن علامات السن والكبر بدأت تظهر عليها.
الكل كان متحمسا لهذا التغيير ويباركه، خصوصا أن أسبوع باريس الأخير للـ«هوت كوتير» كان فاترا من الناحية الإبداعية باستثناء عروض تحسب على أصابع اليد الواحدة، ما أثار جدلا كبيرا حول مدى جدوى هذا الخط بعد اختفاء المتذوقات الحقيقيات لفنيته وظهور زبونات شابات أنعشنه، لكنهن يقبلن عليه من باب التباهي والرغبة في التميز لا أقل ولا أكثر. ما أجج السؤال أيضًا ارتقاء الأزياء الجاهزة إلى مستوى عالٍ من الفنية، إذ إن كثيرا من مصممي هذا الجانب يتنافسون على تقديم تصاميم تحاكي الـ«هوت كوتير» أحيانا، ما جعل الخط بين الجاهز والمفصل على المقاس رفيعا للغاية.
في أسبوع «ألتا روما»، لا تستطيع أن تقاوم ذلك الإحساس بأن الـ«هوت كوتير» تتراجع بالتدريج، ليس لأن مصمميها الكبار تعدوا السبعين، بل لأنهم لا يزالون يؤمنون بالفنية على الطريقة التقليدية التي توارثوها جيلا عن جيل، وربما أيضًا لأنهم لم يتقنوا فن التسويق بعد. لكن في كل الحالات تشعر بأن الرهان على الشباب أولا والفن ثانيا خطوة ذكية ولا بد منها. كايرا توسي بامفيلي، أمينة معرض «الجسد والموضة» الذي كان جزءا مهمّا من الأسبوع، توافق على هذا الرأي قائلة: «مهم جدا أن تقدم روما رسالة تجسد فيها ما تمثله وتطمح إليه، حتى تتميز عن عواصم موضة أخرى في إيطاليا هي ميلانو وفلورنسا.. كان لزاما أن ترسم شخصيتها الخاصة».
كلارا تذهب إلى أبعد من ذلك وتقول إن الأزمة الاقتصادية كان لها تأثير إيجابي على أسبوع روما، يتمثل في «رغبة مصمميها وفنانيها على الإبداع والابتعاد عن التجاري السهل، أي الموضة السريعة، وهو ما أثمر على تصاميم فنية فريدة من نوعها». المعرض الذي نظمته، ضم أعمالا لمصممين من كل أنحاء العالم، فكلارا، كما توضح، لا تتوقف عن السفر بحثا عمن يتمتعون بنظرة تجمع الفني بالعملي «بمعنى تصاميم مبتكرة ومنفذة بحرفية عالية ونظرة فنية لكن يمكن استعمالها بسهولة في المناسبات العادية، وفي الوقت ذاته تبقى مع أصحابها لمدة أطول من موسم أو موسمين». وتضيف بأنها معادلة صعبة لكن ليست مستحيلة. «المشكلة بالنسبة لي أني أؤمن بأن يكون الشخص إما مصمم أزياء وإما فنانا، أما أن يكون الاثنين معا فهذا صعب ولا يحدث دائما.. الراحل ألكسندر ماكوين مثلا كان واحدا من هؤلاء لكنه كان فلتة».
بالنسبة إلى كلارا ومنظمي الأسبوع فإن الاقتباس من الفن يجب أن يقتصر على الاستلهام ثم ترجمته في أزياء بتفصيل راقٍ وخطوط مبدعة يمكن أن تبيع عندما تصل إلى المحلات، وهذا ما رأيناه في كثير من العروض التي احتضنها مبنى «إكس دوغانا» (Ex Dogana) الذي يغطي مساحة 24.000 متر مربع وصممه المهندس المعماري أنجليو مازوني في عام 1925، وتم تصنيفه مؤخرا كمساحة صناعية أثرية من قبل وزارة الثقافة.
المشكلة الأخرى بالنسبة إلى كلارا توسي تكمن في أن الكبار يتمتعون بقدرات هائلة لكنهم يتصارعون مع تغيرات الزمن ومتطلباته الجديدة عدا أن الموت غيب بعضهم، بينما شريحة كبيرة من الشباب يأخذون أنفسهم محمل الجد ويعتقدون أن لهم إمكانيات أكبر مما هي عليه في الحقيقة. وتوضح: «أرى أن بعضهم مجرد منسقي أزياء وليسوا مصممين بالمعنى الحقيقي، الأمر الذي أرده إلى عدم ثقافتهم واهتمامهم بالسينما وغيرها من الفنون. جيد أن تكون ابن عصرك وتتقن فنون التواصل الاجتماعي والإنترنت لكن ليس على حساب الدراسة الواعية والتعمق في الفنون الجميلة. مهمتي أن أتوصل إلى المتميزين فعلا وأربطهم بالكبار حتى يتعلموا منهم ويكمل بعضهم بعضا.. وهكذا يبقى الحلم مستمرا».
يقسم الأسبوع على ثلاثة فعاليات، الأولى «فاشن هاب» وتخصص للبحث عن مصممين شباب وتوفير مسرح عرض للفائزين بجائزة «هو إيز نيكست» والثانية «أتولييه» التي يتم فيها تقديم معارض وعروض أزياء حية من قبل بيوت أزياء معروفة وخياطين مهرة أمام الحضور، وأخيرا وليس آخرا فعالية «إن تاون»، أي في المدينة وتستهدف الترويج لبعض شوارعها الخلفية التي لا يصل إليها السائح العادي، بهدف التعريف بها وتحريك حركة البيع فيها، مثل شوارع «فيا ديل أوكا» (Via Dell’Oca) وشارع «ديلا بيني» (Via Della Penne).
لكن تبقى الفعالية السنوية المخصصة لطلبة أكاديمية الأزياء والموضة وأكاديمية الفنون الجميلة ومعهد «كوفيا» هي التي تسرق الأضواء وتعطي الأسبوع ثقله بالنظر إلى قوة الطلبة المتخرجين ومهاراتهم في ترجمة الخيال إلى الواقع. كل موسم يتبارى نحو 15 طالبا للفوز بالجائزة. هذه المرة لم تختلف عن سابقاتها، حيث أبدعوا إلى حد يجعلك تفكر بأن تصاميمهم أفضل بكثير من تصاميم بعض المصممين المخضرمين، ليس بالنظر إلى الابتكار الذي تلمسه في كل قطعة اقترحوها فحسب، بل أيضًا في طريقة تنفيذها التي تتم في المعامل الإيطالية، وهذا شرط من شروط المسابقة، فضلا عن الرؤية الواضحة التي يترجمونها بها. توالت عروض كل واحد منهم، لتشد الأنفاس وتكاد تنسيك كل ما سبقها، لكن ذلك تبقى تشكيلة إيلاريا فلوري، الفائزة في هذا الموسم، في البال، نظرا لقوتها.
فهي تشكيلة غير تقليدية بكل المقاييس، اعتمدت فيها على الجلد الطبيعي، ودمجت فيها الأزياء والإكسسوارات مع بعض. مثلا يمكن أن تبدو القطعة مجرد فستان بجيب ضخم يتحول إلى حقيبة يد، مشبوكة مع الفستان بزر. غلبت هذه الفكرة على كل قطعة، حيث ترى حقيبة معلقة على الظهر أو الأكتاف أو ملصقة على الكم، وبحركة بسيطة يمكن فصلها لتُحمل باليد أو تحت الإبط في المساء. الجميل فيها أنها لم تأخذ شكلا مسرحيا، بل العكس تماما، كانت عملية وأنيقة، في الوقت ذاته تعكس واقع العصر ورغبة امرأة شابة في قطعة تغني عن ثلاث قطع أو أكثر.
إليانا لم تكن الوحيدة، وإن كانت الأقوى، فقد تقاسمت مع باقي الطلبة نفس الرغبة والقدرة على الابتكار بلمسة إيطالية أنيقة تبتعد عن الجنون أو السريالية التي نراها عادة في أسبوع لندن. المقارنة هنا لأن أسبوع لندن أيضًا يهتم بالشباب ويعتمد عليهم. في روما، تشعر بأن الطلبة متفتحون على العالم، لكن أقدامهم راسخة في التقاليد الرومانية، وهذا ما تشجع عليه روما وتفخر به: ترجمة التقاليد برؤية معاصرة تخول لها منافسة كل من ميلانو وفلورنسا.
فقد شهد الأسبوع مثلا، إلى جانب عروض الكبار، مشاركة كثير من الفائزين بجائزة «المصمم المقبل» (Who is Next) التي تقام سنويا بدعم من «فوغ» الإيطالية. من هؤلاء نذكر مثلا ماركة «إل 72» (L72) الفائزة في عام 2015، ميا أوران، لوكا شاشيا، جيسوبي دي مورابيتو، غريتا بولديني، وآخرين قدموا تشكيلات، تعكس نظرتهم الشبابية للموضة ورغبتهم في اقتحام الأسواق العالمية، وهو ما تعمل «التا روما» على تحقيقه لهم بتعبيد الطريق أمامهم بعدة وسائل. مثلا في يوم الافتتاح نظمت حفلا في محل «كوين إكسيلسيور» تخللته عروض أزياء، كانت الفكرة منها ربط علاقة بينهم وبين الزبائن. فعدا أنها وسيلة لبيع منتجاتهم، فهي أيضًا درس قيم لأي متخرج شاب يريد الاستمرار، فالابتكار وحده لا يبيع ولا بد أن يتقنوا أيضًا لغة التسويق بفهم متطلبات زبوناتهم. بالنظر إلى ما قدموها، فإن المشكلة التي يعاني منها أغلبهم ليست شح الأفكار بقدر ما هي شح الإمكانيات والدعم المادي، وهو ما يتجلى في الأقمشة التي لم تكن دائما في مستوى تصاميمهم الأنيقة ولا الحرفية الرومانية أو الاهتمام بالتفاصيل، وغيرها من العناصر التي تذكرنا بأن روما كانت في يوم من الأيام عاصمة الموضة الرفيعة.
عروض أزياء ومنافسات تؤكد أن الحاجة أُمّ الاختراع
«ألتا روما» تراعي الكبار وتراهن على الشباب
عروض أزياء ومنافسات تؤكد أن الحاجة أُمّ الاختراع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة