سليمان فرنجية.. في مواجهة «التيار»

زعيم مناطقي يطمح إلى رئاسة لبنان

سليمان فرنجية.. في مواجهة «التيار»
TT

سليمان فرنجية.. في مواجهة «التيار»

سليمان فرنجية.. في مواجهة «التيار»

لم يعتبر سليمان فرنجية يوما أنه «الماروني الأول» في لبنان. الزعيم الزغرتاوي، نسبة إلى قضاء زغرتا في شمال البلاد، هو من الذين يمتلكون «التواضع التمثيلي»، والقدرة على التأقلم مع متطلبات المراحل المختلفة وتوازنات القوى القائمة إقليميا ومحليا. لكن الرجل المعروف بولائه الشديد لـ«الخط» (كما يفضل أن يسمي التحالف الذي يضمه إلى النظام السوري و«حزب الله» وإيران)، معروف أيضا بصراحته الجارحة التي تزعج البعض - وتطمئنهم في الوقت نفسه.
سليمان الصغير، أصبح اليوم في الـ51 من عمره، وهو يتحضّر لتسليم نجله طوني قيادة العمل النيابي والتيار السياسي، متفرغا لطموح كل ماروني في لبنان تقريبا.. رئاسة الجمهورية، خصوصا أنه حفيد لرئيس جمهورية سابق ويحمل نفس اسمه، وكان الرئيس الوحيد الذي انتخب في لبنان نتيجة حسابات محلية، وانتخب بفارق صوت واحد فقط، معطيا الاستحقاق الرئاسي طابعه اللبناني الوحيد حتى اليوم.
في خضم أزمة شغور رئاسة الجمهورية في لبنان، والاصطفاف الحاصل منذ عام 2005 بين فريقي 14 آذار و8 آذار، اهتز هذا الاصطفاف مرتين. الأولى عند تبني رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري زعيم تيار «المستقبل» وأحد أبرز قيادات 14 آذار، قبل بضعة أسابيع، ترشيح النائب الحالي والوزير السابق سليمان فرنجية الذي هو من أركان 8 آذار للمنصب. والثانية، رد الدكتور سمير جعجع، زعيم حزب «القوات اللبنانية» وحليف الحريري في 14 آذار بتبنيه ترشيح النائب ميشال عون زعيم «التيار الوطني الحر» وحليف فرنجية وحزب الله في 8 آذار.
اليوم، وقد أتت فرنجية رئاسة الجمهورية على طبق «مستقبلي» نسبة إلى تيار «المستقبل» لا يبدو الزعيم «الشمالي» مستعدًا للتنازل عنها، منطلقا من أنه لو كان لعون حظوظًا لكان في مقدمة منتخبيه، «لكن إذا ذهبت حظوظ عون فحقي أن أكون رئيسًا». ولهذا بدا فرنجية متمسكا جدا بترشحه إلى حد تحدي حلفائه في «الخط» الذي طالما نادى بأهميته، أي خط «المقاومة» ويعني به الحلف الإيراني مع النظام السوري و«حزب الله».وكان لافتا جدا قيامه في جلسة الحوار الأخيرة بالانتقال من مقعده على طاولة الحوار الرسمية في رئاسة مجلس النواب، من كرسي يضعه عادة بين رئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد ورئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل (صهر عون)، إلى مقعد بجانب رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة في دلالة سياسية واضحة، وخرج بعدها ليتحدى عون بأنه يمتلك 70 صوتا (في البرلمان) ولا يمكن أن يتنازل لمن يمتلك 40 صوتا، في إشارة إلى حليفه المفترض رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون.
النشأة
ولد سليمان طوني فرنجية في مدينة طرابلس حيث كان يسكن أهله شتاءً على غرار كثير من العائلات الزغرتاوية التي كانت تمضي الشتاء في المدينة الساحلية، والصيف في زغرتا وتوأمها بلدة إهدن الجبلية. وبالتالي، تلقى علومه في المدينة ذات الأكثرية الإسلامية. لكن اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية أجبر العائلة على ترك طرابلس، فأكمل المرحلتين التعليميتين التاليتين في «مدرسة فرير زغرتا» التي أنشئ لها فرع طارئ في زغرتا ليكمل أبناء القضاء دراستهم بعد مغادرتهم طرابلس. ولاحقا انتقل إلى بيروت حيث تعلّم في «مدرسة الأتينيه جونيه». وكان انتقاله إلى بيروت عاملا أساسيا في وجوده في الحياة السياسية اليوم، فوجوده في المدرسة الداخلية آنذاك نجّاه من موت شبه محتم فيما اصطلح على تسميته «مجزرة إهدن» التي اغتيل فيها والده النائب والوزير طوني فرنجيّة ووالدته فيرا وأخته ابنة الثلاث سنوات جيهان في قصر العائلة بمصيف إهدن على يد مجموعة من حزب الكتائب اللبنانية في عام 1978، يومذاك كانت المجموعة تضم سمير جعجع، الذي يقال إنه كان قد أصيب فعاد بسبب الإصابة إلى مقره ولم يشارك مع زملائه في العملية التي كانت تهدف إلى إطاحة البيت السياسي لآل فرنجية، على غرار عمليات أخرى أدت إلى تحجيم عائلات مسيحية أخرى لصالح شعار «وحدة البندقية المسيحية»، الذي رفعه الرئيس الراحل بشير الجميل آنذاك.
احتضن سليمان فرنجية الجد (رئيس الجمهورية السابق) حفيده «سليمان الصغير» ورباه تحت جناحه، مفضلا إياه على ابنه روبير الذي كان يقود العمل العسكري لـ«المردة». ومن ثم فرض عليه الجد ما يشبه «الإقامة الجبرية» فعاش تحت «الحماية المشددة» في زغرتا مدة 13 سنة خوفا عليه، فطارت أحلامه بالتخصص الجامعي في الميكانيكا أو الهندسة.
أما المراهق الشقي الذي عاش في كنف جده، فكان يهرب من المدرسة، مفضلا عليها نقاط مراكز شباب تيار «المردة»الذي كان أسسه والده عام 1969، ولاحقًا أسس «سليمان الصغير» عام 1987 - وهو في عمر 22 سنة - كتيبة من 3400 شخص، واتخذ له من قرية بنشعي مقرًا كما كانت مقرًا لوالده طوني فرنجيّة، وتسلّم فعليًا القيادة يوم 20 أغسطس (آب) 1990 من عمه روبير فيما يشبه الانقلاب العسكري، بمباركة تامة من الجد.
وبعد تسلمه للقيادة بدأ سليمان طوني فرنجية يعمل على تمتين العلاقة مع سوريا مكملاً علاقة الرئيسين سليمان فرنجيّة (الجد) وحافظ الأسد، وتربطه حاليًا علاقة شخصية قوية مع الرئيس السوري بشار الأسد. وهو قال في مقابلة صحافية: «إذا سألوني إذا كنت أحب أن أعيش في فرنسا أم في سوريا، طبعا سأقول فرنسا. ولكن بالنتيجة أنا أنتمي إلى الشرق، وإقناع المجتمع المسيحي بذلك أمر صعب، لأن هذا المجتمع يرى الشكل في كثير من الأماكن وينسى المضمون السياسي، والوجود العسكري للجيش السوري لم يساعدنا في إقناع الناس، لأنهم كانوا يرون الأخطاء فقط، والأخطاء دائما تطغى على الحسنات، وأتصوّر أن الوضع أصبح أفضل اليوم لأننا أصبحنا قادرين على إظهار الحسنات، والأخطاء لم تعد قادرة على أن تطغى على الحسنات».
آخر لقاءات فرنجية بالأسد، كان في النصف الأول من يناير (كانون الثاني) الماضي، كما ذكرت صحيفة «السفير» اللبنانية. وقالت «السفير» إن الأسد وفرنجية اللذين يتواصلان هاتفيًا بصورة مستمرة، قد ناقشا المبادرة الرئاسية والهواجس التي تحيط بها، والتفويض المطلق المعطى لحلفاء سوريا في لبنان باتخاذ القرار الذي ينسجم ومصلحتهم الوطنية. ولاحظت الصحيفة أن فرنجية عاد من زيارته السورية «مرتاحًا جدًا» لنتائج المباحثات والأجواء التي تخللت الزيارة، وهو لمس مجددًا مدى تقدير وثقة القيادة السورية بشخصه وخياراته السياسية، خصوصًا أنه أحد قلة قليلة من السياسيين اللبنانيين الذين وقفوا إلى جانب سوريا والمقاومة في أصعب الظروف.
لكن فرنجية عاد ليأخذ موقفا آخر، بعد أن ووجه برفض «حزب الله» لترشيحه، فقال في مقابلة تلفزيونية بعدها بأيام إن «الأسد صديق ونتبادل الآراء لكني لا أقبل بأن يؤثر النظام في سوريا على الوضع في لبنان»، ثم ما لبث أن نقل عنه قوله إنه لن يتراجع عن ترشيحه «حتى لو اتصل به الأسد ونصر الله»
بداية طريقه السياسي
عين فرنجية في عام 1991 نائبا في إطار اتفاق بين القوى السياسية لترميم البرلمان بعد اتفاق الطائف، وكان حينها أصغر نائب بالبرلمان. ومن ثم عين وزيرا للإسكان عام 1992، في الحكومة الأولى بعد الطائف، ليبقى ثابتا في كل الوزارات المتعاقبة حتى عام 2005، وكان وزيرا للداخلية في حكومة الرئيس عمر كرامي عندما خرج الجيش السوري من لبنان عام 2005 بعد اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. بعدها خرج من النيابة والوزارة بعد سقوطه في الانتخابات النيابية لدورتين، في أعقاب اعتماد المحافظة دائرة انتخابية، لكنه عاد ليفوز بعد العودة إلى اعتماد القضاء (الدائرة الأصغر) في عام 2009 ليتمظهر أكثر فأكثر دوره كزعيم مناطقي.
يعرف فرنجية، من أين تؤكل الكتف في السياسة. ولأنه يعرف حجمه بالسياسة، اختار أن ينحني للعواصف، بدلا من أن يواجهها، ويقدم حين يكون للإقدام فائدة. ففي عام 1989، وبعد إقرار الطائف، وافق على دعم ترشيح الرئيس رينيه معوض، الذي يعتبر من منافسيه السياسيين المحليين الكبار، ما شكل علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين أهل السياسة في المنطقة الواحدة.
وبعد خروج سوريا عام 2005 انكفأ لبعض الوقت، ثم عاد ليلتحق بكتلة النائب ميشال عون النيابية عندما اقترب الأخير من النظام السوري وحلفائه في لبنان. ليؤكد أنه «حليف عون وفي تكتل واحد إلى جانبه، لأنه الأقوى على الساحة المسيحية ولأنه الأكبر سنا قبلنا بقيادته، ونحن بحاجة إلى تقويته على الصعيد الوطني، لذا أقول إنني لا أتقدم يوما عليه، وهو يتقدمنا جميعا».
ثم ما لبث أن اقترب من رئيس الحكومة سعد الحريري، عندما اقترب الأخير من سوريا في عام 2009، ويقال إنه لعب دورا في «التمهيد» لزيارة الحريري إلى دمشق. إلا أن فرنجية يرفض أن يصنف «وسيطا»، لأنه لا يعرف ولا يرغب في هذا الدور. وهو قال في أكثر من تصريح، إنه لا يدّعي أي علاقة مباشرة بلقاء الحريري والأسد، لكنه لم ينفِ قدرته على نقل الأجواء الطيبة والمساعدة مع جو التقارب السوري - السعودي، ليذكر أن الزيارة جاءت ثمرة تقاربات إقليمية، وهو يوافق على أن تنازله عن حقيبة وزارية سهّل إنجاز التشكيلة الحكومية، لكن ذلك لا يعني أنه كان «عرابا» ليصر على أنه لاعب أساسي.
التباين مع عون
في تلك اللحظة ظهر واضحًا التباين الأول بين فرنجية وعون، وتحديدا عندما انتقد عون علنا تنازله عن الحقيبة، اكتفى فرنجية بالصمت ومتابعة جهوده، وبعد فترة قال في مقابلة تلفزيونية إنه اختار التنازل لقدرته على ذلك، «وحتى لا يدفع الثمن حلفاء لنا داخل تكتل الإصلاح والتغيير»، ويشير إلى أنه «فاوض الحريري ليحصل عون على حقائبه الوزارية».
وإذ لم ينكر الخلاف مع عون شدد على أن ذلك لم يؤدِ لإلى القطيعة، ويوضح: «نحن الاثنين طباعنا حادة والجنرال كان يعتبر التنازل غير محق، أما أنا كنت أراه تسهيلا ومرّت غيمة ولكن هناك خط سياسي يجمعنا، وخطّي عمره 30 سنة قبل كل الناس»، ويضيف: «العلاقة عادت سليمة، تحدثنا وتصارحنا وكل الأمور عادت طبيعية، حدث فتور وانتهى».
إلا أن ذلك لا ينفي أنه بدأ يتوسع ليخرج من المنطقة والعشيرة إلى رحاب أوسع، لذا افتتح مكاتب لتيار المردة في جبيل وكسروان والمتن، مظهرا أنه يريد الخروج من الشمال باتجاه لبنان كله، لا سيما أن البعض يصف تياره بأنه تجمع صغير لآل فرنجية وليس حزبا له فكره وبنيته، وهو ما رأى فيه بعض خصومه محاولة من فرنجية لوراثة عون سياسيا في اللحظة المناسبة.
عائلته وحياته الخاصة
تزوج سليمان صغيرا، ففي عام 1983 تزوج من ماريان سركيس وكان وقتها بعمر 18 سنة، وكانت هي في السادسة عشرة من عمرها. وأنجبا: طوني (مواليد 1987) وباسل (مواليد 1992) تيمنا بباسل الأسد، نجل الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. لكن أموره تغيّرت فزواج الصغر لم يكتب له طول العمر، لينتهي على الورق بعد جفاف اعتراه. ثم تزوّج فرنجية الإعلامية ريما قرقفي عام 2003 بعد قصة حب شغلت الأوساط الاجتماعية والسياسية. فللعلم، لم يستطع فرنجية أن يحصل على الطلاق لعدم وجود ما يسمى طلاقا في الزواج الماروني الذي يعقد لمدى الحياة. ولم يستطع أيضا أن يحصل على إبطال للزواج من الكنيسة المارونية اللبنانية التي كان يتربّع على رأسها البطريرك نصر الله صفير الذي كان فرنجية على خصومة شديدة معه، فما كان منه إلا أن ذهب إلى الفاتيكان، وحصل من هناك على قرار بإبطال زواجه الأول باعتبار أن زوجته كانت قاصرا عند الزواج، فتزوج فرنجية مجددا، ورزق بفتاة سماها «فيرا».
العلاقة مع البطريركية
وخلافا للكثير من رجال السياسة في لبنان، لم يجد فرنجية نفسه يوما ملزما برضا البطريرك الماروني، فجماعته التي تؤيده إلى حد الشغف كانت مستعدة لمعاداة زعيمها الديني الأكبر من أجل زعيمها المناطقي. وفي لحظة خلاف مع البطريرك صفير، نال البطريرك من فرنجية نقدا جارحا ولاذعا أثار استنكار المسيحيين وآخرها وصفه بعض رجال الكهنوت بـ«المنغلقين على أنفسهم الذين يأكلهم الغبار والصدأ»، فتجمع الزغرتاويين حوله هاتفين له بلهجتهم المميزة «إنت البترك (البطريرك) يا سليمان». إلا أن هذا الأمر لم يقطع شعرة معاوية بين فرنجية وصفير، ولم يحُل دون محطات «وفاقية» ترجمت بزيارات متقطعة قام بها فرنجية إلى البطريركية المارونية.
يقول عنه المقربون منه إنه شخص عفوي لا يجيد التصنع والتكلف، ولا يحب السهرات الصاخبة، ويفضل سماع الموسيقى الكلاسيكية والطرب العربي. أصدقاؤه المقربون يختارهم بدقة، ويعيش بينهم، مكرسا الوقت الأكبر لعائلته، التي يكنّ لها عاطفة كبيرة، وغالبا ما يجهل كيف يعبر عنها، لا سيما عندما يتعلق الأمر بصغيرته فيرا، التي أعطاها اسم والدته.
قال في إحدى المقابلات التلفزيونية: «إن شعوره تجاهها (أي فيرا) يختلف عن شعوره تجاه طوني وباسل، لأن العاطفة بين الأب وابنته تكون دائما أقوى»، كما عرف عنه الجمهور ممارسته هوايات مترفة، كالصيد وقيادة الطائرات والتصوير والغطس والاهتمام بالبيئة وتكريسه وقتا لمحمية بنشعي التي يجلب إليها حيوانات من رحلات الصيد.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.