في مقهى بجبل اللويبدة غرب العاصمة الأردنية عمان، يرتاده محبو الفنون بمختلف أنواعها، يجلس صهيب العطار ليحتسي فنجانًا من القهوة بعد نهار عمل طويل قضاه في رسم لوحة غرافيتي ضخمة بارتفاع أكثر من 20 مترًا. بدأ العطار، ذو الثلاثة وعشرين عامًا رسم الغرافيتي قبل نحو 5 سنوات، عند بدايات ازدهار مشهد الغرافيتي في العاصمة الأردنية عمان. وتحولت هواية طالب الفنون الجميلة في الجامعة الأردنية إلى مهنة ومصدر دخل، بعد أن نفذ عددًا من المشاريع الفنية لصالح منظمات دولية عاملة في المملكة.
لم يعرف الأردن بإنتاجاته الفنية الغزيرة على الصعيد العربي، فلم ينتج الدراما بغزارة كجارته سوريا، أو يشتهر نجومه بالغناء كما في لبنان، ولم يحقق نجاحًا سينمائيًا كما حصل في مصر منذ نحو قرن وجعل الفيلم المصري يسمى «الفيلم العربي» في أرجاء العالم العربي. إلا أن المشهد الفني تغير في الأردن مؤخرًا، وبإمكانات متواضعة ودون دعم رسمي في معظم الوقت، حقق فنانون أردنيون شباب حضورًا في قطاعات فنية مختلفة، كفوز الشابة الأردنية نداء شرارة بلقب أحلى صوت في النسخة العربية من برنامج اكتشاف المواهب الغنائية «ذا فويس»، أو حتى نجاحات على مستوى عالمي بترشيح فيلم «ذيب» للمخرج الأردني ناجي أبو نوار لجائزة الأوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية.
واكب فن الغرافيتي، وعدد من فنون الشارع الصحوة الفنية الأردنية الأخيرة، مستفيدًا من المناخ العام المستقر في المملكة.
ومن جانبه، يوضح الفنان الشاب صهيب العطار أنه قام بالتعاون مع عدد من الفنانين الأجانب والمنظمات الدولية لتنفيذ مشاريع في شتى أنحاء المملكة، بدءًا من مخيمات اللجوء السوري وصولاً إلى مختلف محافظات المملكة. وقال في حديث مع «الشرق الأوسط»: «أعمل حاليًا على مشروع يهدف لتعزيز المساواة بين الرجل والمرأة في الزرقاء - 30 كم شرق عمان - مع منظمة دولية وبالتعاون مع رسامين أجنبيين. لا تحدد المنظمة موضوع أو طريقة الرسم بعد الاتفاق على «الثيمة» المنوي طرحها». ويضيف: «وبعد نقاش (الثيمة) مع المجتمعات المحلية والاستماع لآراء السكان، نتعاون معهم أثناء عملية الرسم».
وبخلاف نشأة فن الغرافيتي في الولايات المتحدة والدول الغربية، كحالة تمرد على السلطة القائمة وبعض القيم الاجتماعية، شهد الغرافيتي في الأردن دفعة قوية بعد دعم الرسامين الشباب من قبل مراكز ثقافية ومؤسسات مجتمع مدني كـ«مسرح البلد»، ومهرجان «واو بلدك»، ومؤسسة «ست الحيطة» التي تعنى بتمكين المرأة برسم غرافيتي لنساء بارزات عربيًا في مختلف أنحاء العالم العربي.
«أعتقد أن مهرجان (واو بلدك) الذي أقيم في عمان العام الماضي هو أحد أهم أسباب انتشار الغرافيتي في الأردن مؤخرًا»، تقول رسامة الغرافيتي ليلى عجاوي، لـ«الشرق الأوسط».
بدأت عجاوي رسم الغرافيتي قبل عام ونصف، واشتركت في عدد من المهرجانات في الأردن كـ«واو بلدك»، وشاركت في مهرجانات في دول عربية كمصر مع عدد من الرسامين الشباب.
لم يكن رسم الغرافيتي سهلاً في منطقة محافظة كمدينة إربد – 80 كم شمال عمان - إلا أنها أصرت على الاستمرار في الرسم. وحول ذلك تقول عجاوي: «بدأت الرسم بشكل عام منذ سن الخامسة تقريبًا، وظهرت موهبتي بشكل أكبر في السنوات الدراسية الأولى، استخدمت عددًا من الخامات والوسائل في الرسم، حتى قمت بخوض تجربة الغرافيتي، التي وجدتها استثنائية من ناحية مساحة التعبير - وأثره واشتراك كل الحواس في إنجازه، إضافة للمتعة في رسمه». وتضيف مستطردة: «حين بدأت وجدت صعوبة بالضغط على علبة (الاسبراي) بسبب نحالة جسمي، مما اضطرني لتقوية عضلاتي، معظم الصعوبات التي أواجهها اليوم تتعلق بتقلبات الأحوال الجوية، مما دفعني لتطوير رسمي وإنجازه في أسرع وقت. لم أواجه صعوبات مع الجهات الرسمية لحرصي على استخراج التصاريح اللازمة، مما يضمن بقاء الرسمة لأطول وقت».
وبينما تعتقد عجاوي أن الغرافيتي يعبر عن أهدافها ورؤيتها، وبأنها ترسم عملاً نسويًا بامتياز، ترى زميلتها يارا هنداوي التي بدأت بالرسم قبل نحو عام في عمان، أنها «تقدم رؤيتها الفنية الخاصة بفن الشارع، دون طرح قضايا كبرى». إذ تقول إن «مشهد الغرافيتي وفنون الشارع مختلفة في الأردن عن دول عربية أخرى، كمصر على سبيل المثال. هدفي من الرسم إضافة للتعبير عن رؤيتي، هو التسلية، وقد يكون هو الهدف ذاته لمعظم الرسامين في عمان». وتضيف شارحة: «لا أهدف لإيصال رسالة سياسية أو إحداث تغيير جذري في المجتمع، كما كان المشهد في مصر قبل عدة سنوات، ولا أظن أنه من العدل أن يدعي الفنان تمثيل ما لا يعرف». وتعتقد هنداوي أن من أهدافها تعزيز ثقافة الغرافيتي وفنون الشارع لدى الشباب الأردني، وتوسيع قاعدة انتشارها. وحول ذلك تقول إن «من المعوقات نظرة الناس للفن، وعدم تقبلهم في بعض الأحيان له، وتجاوز السخرية للوصول إلى منع الرسم، إذ اضطررنا في إحدى المرات لمسح رسمة بعد اكتمالها لأن بعض الشباب في المنطقة اعترضوا عليها».
بدورها، تؤمن عجاوي بالمسؤولية الأخلاقية المترتبة على من يرغب بممارسة الفنون، خصوصًا الغرافيتي، لقدرتها على إحداث تأثير فعال في المجتمع، لذا فهي تنصح الشباب - بعد أخذ الاحتياطات الصحية كارتداء قناع للوقاية من الغازات المصاحب لعملية الرش - بإدراك معنى الفن الذي يقدمونه، والتأثير الذي قد يعكسه على المتلقي.
يذكر أنه قد يرجع البعض بداية الغرافيتي والرسم على الجدران إلى إنسان العصر الحجري، إذ عرفت كل الحضارات القديمة نوعا من الجداريات تشبه فن الغرافيتي المعاصر، بأدوات الإنسان البدائي القديمة. وعبرت الحضارات عن تفاصيل حياة شعوبها وقادتها، إضافة لانتصاراتها العسكرية وشعائرها الدينية، والطقوس المرتبطة بالصيد وحصاد المواسم.
ونشأ فن الغرافيتي الحديث في مدينة نيويورك في النصف الأول من القرن العشرين، وتطور بفعل الحركة الاحتجاجية التي قادتها الحركات السلمية ومجموعات «الهيبيز» التي عارضت حرب فيتنام، وجعلت من الرسم على الجدران وسيلة احتجاجية لرفض الحرب.
يصنف الغرافيتي لنوعين أساسيين؛ إذ يعنى النوع الأولى برسم حروف وعبارات على الجدران، بينما تشكل الشخصيات محور النوع الثاني، وقد يرسم كلا النوعين بالفرشاة، إلا أن استخدام علبة الرش هو الأكثر شيوعًا.
«الغرافيتي» وفنون الشارع في الأردن.. جرأة مدروسة
رسوم على جدران الشوارع تواكب موجة الصحوة الفنية فيه
«الغرافيتي» وفنون الشارع في الأردن.. جرأة مدروسة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة