من كان محظوظًا ونجا من «محنة» العيش في الولايات المتحدة بداية الخمسينات من القرن الماضي، فليشاهد فيلم «مساء الخير، حظًا سعيدًا»، ليعرف كم أسعفه الحظّ حين غاب عن تلك الحقبة الكالحة في تاريخ أميركا. الفيلم أخرجه الممثل الأميركي جورج كلوني وقدمه إلى السينما والعالم في عام 2005، باعتباره أهم وثيقة لدمغ الحقبة «المكارثية» التي شوهت الحياة وأفسدت المجتمع في الولايات المتحدة.
تنسب المكارثية إلى النائب الجمهوري جوزيف مكارثي، الذي استغل الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، ليعمم ثقافة التخوين والتخويف ضد خصومه الفكريين والسياسيين داخل البلاد. ما برحت تلك السياسة أن تحولت إلى سوط قمعي ضد المخالفين، وكانت نتيجتها أن تحولت الولايات المتحدة إلى معقل للاستبداد الفكري والإرهاب الثقافي بدعوى محاربة الشيوعية.
وجدت النخب الفكرية والثقافية والفنية أسماءها ضمن قوائم سوداء شملت مختلف قطاعات المجتمع، بل نجح المكارثيون في الزج بأسماء لامعة في السجون، بينما تم طرد الآلاف من وظائفهم وحرمانهم من الحقوق المدنية وفق تهم زائفة، بينهم مثلاً: ألبرت أينشتاين، وآرثر ميللر، ومارتن لوثر كينغ، وشارلي شابلن.
كانت حقبة سوداء ظالمة، تصدى فيها المتطرفون لاحتكار مفهوم الوطنية، وتفصيله على مقاساتهم، وعمدوا إلى مخالفيهم يقصفونهم بالتهم الشمولية وبالتخوين، وكانت نتيجتها مأساوية، فقد حدث شرخ عمودي في المجتمع، وكان من الطبيعي أن يتصدى المثقفون بوصفهم أول خط دفاعي عن قيم التآخي والتسامح لهؤلاء، فكتب راي برادبري روايته «فهرنهايت 451»، ردًا على الإرهاب الفكري للمكارثية، لكن الصحافة كانت أكثر جرأة في التصدي لهؤلاء.
فيلم «مساء الخير، حظًا سعيدًا»، يخلد الدور البطولي لرجال الصحافة الأميركيين الذين حملوا على عاتقهم مواجهة هذا الإرهاب الثقافي، ويستعيد الفيلم الدور الذي لعبه المذيع التلفزيوني الشجاع في محطة «سي بي إس» إدوارد مارو، وفريقه التلفزيوني الذي كافح المكارثية، وكشف خطرها في تقسيم الأمة الأميركية، واشتهر مارو بعبارة «مساء الخير وحظًا سعيدًا»، التي أصبحت اسمًا لهذا الفيلم السياسي الذي يتخذ من شجاعة هذا الفريق المكون من ستة صحافيين مدخلاً لعالم المكارثية المخزي.
كان الصحافيون في هذا الفريق يكافحون بمرارة وبكثير من التضحية في تحقيقات مصورة تظهر بشاعة التهم التي يجري تعميمها ضد المثقفين، ويكشفون أنها ليست سوى عمليات مبرمجة لتعميم ثقافة التخويف والترهيب، ومنح المتطرفين هيمنة على الحياة العامة.
يشير الفيلم إلى أن الإعلاميين الأميركيين الذي قاوموا المكارثية كانوا مدفوعين بعقيدة الدفاع عن القيم الوطنية، وبالتالي فهم وجدوا أن تفتيت المجتمع وبث الاحتراب الداخلي أشد وسائل إضعاف البلاد أمام خصومها الشيوعيين، على عكس ما كان المتطرفون يبشرون به، فحين تكون البلاد في مواجهة خطر خارجي يتعين بذل كثير من الجهد لرص الصف الوطني، وما فعله المكارثيون أنهم عمموا ثقافة التخويف بدعوى القوة، لكنها بالإضافة إلى كونها مجرد واجهة لبسط نفوذهم وتحييد خصومهم وتحقيق مكاسب ذاتية، فقد أعطت منحى معاكسًا تمامًا لما يروجون.
رغم التضحيات التي قدموها نجح رجال الإعلام في الانتصار لقيم الحرية والتسامح ومبادئ العدالة والديمقراطية، وسقطت المكارثية، بل أصبح صاحبها وصمة عار في جبين الولايات المتحدة، وانتهى به المطاف منبوذًا يواجه الموت وحيدًا في الثاني من مايو (أيار) 1957.
احتاجت الولايات المتحدة إلى فترة طويلة، لكي تتشافى من تلك الحقبة السوداء. تُرى ماذا يجد المكارثيون الجدد في تلك السياسة الرعناء حتى يعيدوا استخدامها في منطقتنا؟
المكارثيون الجدد

المكارثيون الجدد

لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة