مضى ربع قرن على سقوط النظام الدولي، ومعه «الحرب الباردة»، ودخل التاريخ في منعطف جديد لم يُعرف له نمط مشابه من قبل، وهو ما جعل بعض المؤرخين وعلماء السياسة ينظرون إلى التاريخ على أنه بدأ نمطًا أو توجهًا غير تقليدي قد يستحيل معه التعرف على مساره. فلقد تغيرت الكثير من العوامل الثابتة التي كانت تُحرك التاريخ والكيانات الاجتماعية، بل والأفراد أيضًا، ما جعل من إمكانية استقراء المستقبل أقرب إلى التنجيم منه إلى الثوابت العلمية. ومن ثم أصبحنا اليوم ننظر إلى ربع قرن من الزمان باستغراب وذهول مفهومين، كما أننا أصبحنا عاجزين في كثير من الأحيان عن استشفاف المستقبل استنادًا إلى ثوابت التاريخ.
إن ربع القرن الذي مضى يدفعنا اليوم لمحاولة فهم فلسفة التغير الجديدة قبل أن نفكر في استشفاف المستقبل، ومن هذا المنطلق فإننا نسعى اليوم جاهدين لفهم هذه الفلسفة علّنا نستطيع فهم حركة التاريخ ومعها المستقبل. وفي هذا السياق أضع أمام القارئ خريطة مبسطة لرؤية هذه الفلسفة، وليس بالضرورة فهمها، من خلال النقاط الرئيسية التالية:
أولاً: أن النظام الدولي تغير بشكل فجائي وعلى غير توقع علمي مرصود بانهيار الاتحاد السوفياتي منذ ربع قرن من الزمان. وكانت نوعية هذا التغير فريدة على مر التاريخ، فصراع الأقطاب كان ينتهي بهزيمة عسكرية لأحد الأقطاب وسيطرة قطب على النظام الدولي، وهو ما حدث بين اليونان وفارس، ثم بين روما وقرطاجة، ثم سقوط فرنسا النابوليونية وسيطرة بريطانيا على مقاليد السياسة الدولية. كل هذه المتغيرات جاءت إثر حروب واسعة، ولكن ما حدث مع الاتحاد السوفياتي لم يكن هزيمة عسكرية بل جاء نتيجة انفجار داخلي Implosion في هذا القطب أدى إلى خروجه من الصراع الدولي مؤقتًا ودخول العالم «نظاما أحادي القطبية»، ثم بدأ يسير نحو «نظام متعدد الأقطاب» بميزة نسبية للولايات المتحدة على غيرها من الدول الأخرى. وفي تقدير كثرة من المنظرين أن هذا سيكون نمط العلاقات الدولية من الآن فصاعدا، بمعنى أن الصراعات العسكرية - رغم وجودها - ستظل محصورة على المستوى الإقليمي وبدرجة أكبر على مستوى الدولة، خاصة أن أدوات إدارة العلاقات الدولية جعلت من القوة العسكرية أولوية متأخرة في حسابات الدول خلال إدارة علاقاتها الخارجية. وهذا يصح بصفة خاصة مع ظهور مفاهيم مثل «القوة الناعمة» و«القوة الاقتصادية».. إلخ.
ثانيًا: أن النظام الدولي لم يعد يعتمد على قوة الدولة وحدها في تسيير شؤونه. هذا واقع آخذ في التغير - وبخطى قوية متسارعة - بعدما أصبحت الدولة وحدها، ككيان محرك للسياسة الداخلية والخارجية، نمطًا قديمًا غير قابل للاستمرار. إن السياسة في الدولة الواحدة لم تعد مقصورة على متّخذي القرار من رجال الدولة وحدهم، وذلك بفضل ظهور عوامل المجتمع المدني والمنظومات عبر الوطنية Transnational Regimes وغيرهما. وهذه الأخيرة لا تستقي وجودها من المفاهيم التقليدية للدولة الموحّدة، بل بدأ النظام الدولي يؤثر فيها، وهي بدورها تؤثر على مسيرة الدولة، التي لم تعد منعزلة عن النظام الدولي. بل إنه يمكن القول بوجود ما يشبه بوادر ثبات ثقافة دولية جديدة، تناولناها بوضوح خلال الأسابيع القليلة الماضية، متمثلة في آليات السوق الحرة والديمقراطية وحقوق والإنسان.
ثالثًا: أن العولمة، كظاهرة جديدة، لم يعرفها العالم بهذه الحدة من قبل. ولقد بدأت تغير في مسيرة السياسة الدولية وتؤثر مباشرة على كيان الدولة ومسيرة مجتمعاتها. إن العولمة بمفهومها الواسع شملت في طياتها الكثير من العوامل التي لا مناص من التعامل معها كأمر واقع جديد غير قابل للانحسار، بل العكس هو الصحيح. فثورة الاتصالات جعلت من العالم قرية حقيقية، وبات الأفراد ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني على اتصال بما يجعل تبادل القيم والأفكار والمعلومات أمرًا مكثفًا.
ومن ثم باتت فكرة عزلة الدولة أو الفرد عن البيئة الدولية أمرًا من ضروب الخيال، وهو ما يجعل ما يحدث في قارة ما يؤثر على قارة أخرى بعيدًا عن البعدين الزمني والنسبي. وهذا يؤكد على النقطة السابقة بأن الدولة لم تعد تملك تحديد مصيرها بمعزل عما يجري في العالم من حولها، فحادثة في دولة كفيلة بأن تغير مستقبل دول أخرى.
رابعًا: واتصالاً بما تقدم، لم يشهد العالم منذ بدء الخليقة إلى اليوم الكثافة الراهنة من وتيرة التفاعل بين الدول والكيانات بداخلها وخارجها، وذلك على مختلف الأصعدة. هذه الكثافة منقطعة النظير تمثل في حقيقة الأمر عاملاً محركًا للسياسة الدولية والداخلية لا يمكن التنبؤ بمسيرته. إن هذا حقًا أخطر عوامل التغيير على المستوى الدولي. وعلى سبيل المثال، فإن التجارة الدولية بلغت مرحلة لا يمكن تخيلها، بل إن وتيرتها ستزيد بمنتهى القوة خلال السنوات القادمة. وكذلك غدت حركة الاستثمار الدولي كفيلة بتغيير مستقبل الدول. وكل هذه العوامل تدفع بارتفاع ما يسمى بحالة «الاعتمادية المتبادلة» Interdependence بين الدول والكيانات المختلفة بداخلها، بل إن هذه الظاهرة قد أصابت الأفراد ذاتهم.
خامسا: اجتماع كل هذه العوامل جعل من الدولة، ككيان أوحد ومستقل لتحريك التاريخ، أمرًا في الماضي. وهو ما جعل النظرية التقليدية للسيادة المطلقة للدولة في حالة تغير ملحوظ من خلال طرح مفاهيم جديدة مثل «مسؤولية الحماية» أو «السيادة المقيّدة» التي أخلت بقبضة الدولة على مجتمعها وإقليمها بشكل لم يكن معروفًا من قبل. إن مصير الدول لم يعد محسومًا بقوة إدارة الدولة وحدها، بل صارت الدولة مرتبطة بسلسلة من المتغيرات القيمية والعملية والفكرية والقوة النسبية التي يستحيل حصرها أو تقييم مدى تأثيرها على مستقبل الدولة وكياناتها.
لقد أثرت كل هذه العوامل مباشرة على حركة التاريخ، وحوّلت كثيرا من الثوابت إلى متغيرات غير قابلة للدراسة المنفصلة عن بعضها البعض بكل ما فيها من تعقيد. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو ما إذا كان التاريخ قد بات وسيلة غير مجدية لفهم الحاضر واستشفاف المستقبل؟
الإجابة في تقديري هي أن التاريخ سيظل مطلوبًا، اليوم، ولعله يكون أكثر من أي وقت مضى لفهم الحاضر. لكننا بحاجة للسعي لفهم العوامل الجديدة المؤثرة عليه وعلى الإنسان لوضع حد لحالة التلعثم الفكري التي أصابت بعض قدرتنا على فهمه على مدار ربع قرن من الزمان بسبب كثرة المتغيرات واهتزاز بعض الثوابت. وبالتالي، فإننا لسنا في حاجة لمحاولة تطليق التاريخ والفكر من حاضرنا لصالح مستقبلنا، بل إننا نحتاج إلى وسائل مستحدثة لفهم هذه الخريطة الجديدة التي نقف مذهولين أمام تعقيدها.
إن الإنسان هو الإنسان منذ بدء الخليقة بكل ما له وما عليه، بكل فكره وغرائزه وتوجّهاته، وهو في نهاية المطاف صانع التاريخ وسيظل صانعًا له.
من التاريخ : فلسفة حصاد ربع قرن من التاريخ
من التاريخ : فلسفة حصاد ربع قرن من التاريخ
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة