متظاهرو كييف يشكلون جهازا أمنيا وطنيا بعد فقدان «ثقتهم» بالشرطة

خطابات مستمرة لقادة الحراك وعمليات تصويت شعبية تزاحم عمل الحكومة الجديدة

أوكرانيون مؤيدون لقادة الاحتجاج يسيرون حاملين علم بلادهم مع أعلام بلدان غربية في ميدان كييف أول من أمس..  ويبدو في الخلف مبنى فيدرالية النقابة الذي طالته الحرائق («الشرق الأوسط»)
أوكرانيون مؤيدون لقادة الاحتجاج يسيرون حاملين علم بلادهم مع أعلام بلدان غربية في ميدان كييف أول من أمس.. ويبدو في الخلف مبنى فيدرالية النقابة الذي طالته الحرائق («الشرق الأوسط»)
TT

متظاهرو كييف يشكلون جهازا أمنيا وطنيا بعد فقدان «ثقتهم» بالشرطة

أوكرانيون مؤيدون لقادة الاحتجاج يسيرون حاملين علم بلادهم مع أعلام بلدان غربية في ميدان كييف أول من أمس..  ويبدو في الخلف مبنى فيدرالية النقابة الذي طالته الحرائق («الشرق الأوسط»)
أوكرانيون مؤيدون لقادة الاحتجاج يسيرون حاملين علم بلادهم مع أعلام بلدان غربية في ميدان كييف أول من أمس.. ويبدو في الخلف مبنى فيدرالية النقابة الذي طالته الحرائق («الشرق الأوسط»)

الوصول إلى «ميدان» كييف هذه الأيام، يصيب الإنسان بدهشة كبيرة، لأنه ينقله في غضون دقائق من شوارع نظيفة وهادئة على النمط الأوروبي إلى منطقة خارجة للتو من حرب حقيقية. بمجرد الاقتراب من المكان، يلحظ المرء أمرين لافتين هما: رائحة قوية ناجمة عن دخان لا يزال متصاعدا حتى الآن جراء اشتعال العجلات المطاطية للسيارات، وأغان حزينة صادرة عن منصة عملاقة وضعها المحتجون في قلب «ساحة الاستقلال» المسماة أيضا «الميدان».
تتراءى أمام زائر الميدان تدريجيا، خيام منصوبة، كثير منها لا يزال مستخدما للمبيت وإعداد الطعام وإسعاف المصابين، وشباب يرتدون ملابس عسكرية تخالهم في البداية قوات شرطة أو جيش، ثم تدرك، بعد الاستفسار، أنهم مجرد مواطنين شاركوا في الاحتجاجات وقرروا لاحقا، اعتبار أنفسهم «قوات دفاع ذاتي» من أجل الحفاظ على الأمن. ترصد أكياسا كثيرة من القمامة مكدسة وكميات هائلة من الطوب جرى اقتلاعه من الأرصفة. يرى الزائر أيضا على جدران المباني المجاورة، صورا لضحايا الحراك الذين قتلوا برصاص الشرطة ووضعت أمامهم باقات ورد تخلد ذكراهم، إضافة إلى رسوم كثيرة، تسخر بمرارة من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين وحليفه المطاح به فيكتور يانوكوفيتش. لا يمكن للزائر أيضا أن يفوت التدقيق في بناية عملاقة طالتها نيران الحرائق باتت الرمز الرئيس للتدخل العنيف والدامي للشرطة. نسأل شابا في العشرينات من العمر، يعد الطعام أمام خيمته ويوزعه على المارة، عن البناية، فيقول إنها المقر الوطني للفيدرالية النقابية، وإن الشرطة استهدفتها بقوة في فبراير (شباط) الماضي بعدما حولها المحتجون إلى «مستشفى ميداني». أشخاص كثيرون، من السكان والسياح، لا يزالون يتدفقون على المكان، وتظهر على محياهم علامات الوجوم والقلق. نسأل شابة أوكرانية عن إحساسها تجاه المشهد والأحداث التي شهدتها البلاد، فتقول: «إنني لا أهتم كثيرا بالسياسة، لكنني حريصة على متابعة ما يجري حتى يعود لنا الأمن والسلام». ثم تشير إلى أن «غالبية من صنعوا هذه الثورة لم يكونوا يريدون سوى ظروف عيش أحسن ووقف الفساد المستشري بين المسؤولين الحكوميين». ولدى سؤالها عن علاقة الاحتجاجات برفض يانوكوفيتش توقيع اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مفضلا عليها مساعدات سخية من موسكو، قالت الشابة بإنجليزية ضعيفة لكنها مفهومة، إن كثيرا من الشباب الأوكرانيين يرغبون بالفعل في تسهيلات تمكنهم من السفر إلى أوروبا للعمل هناك على غرار مواطني باقي دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا وجمهورية التشيك وأخيرا رومانيا وبلغاريا. وزادت قائلة إن الشباب ضاقوا ذرعا بغلاء المعيشة وتدني الرواتب.
سألتها «الشرق الأوسط» عن تحصيلها العلمي واللغات التي تتحدثها، فقالت إنها حاصلة على شهادة جامعية في المالية، وإنها مهتمة باللغات الأجنبية، خصوصا الإنجليزية التي باتت تزاحم الروسية بوصفها لغة ثانية في البلاد، مشيرة إلى أن الشباب يقبلون على تعلم الإنجليزية بكثرة، على عكس جيل والديها، الذي لا يعرف سوى اللغتين الأوكرانية والروسية. فجأة يصدر صوت مدو عبر مكبرات الصوت من منصة «الميدان» القريبة، يقطع حديثنا.. وجدتها فرصة لسؤال الشابة حتى تساعدني في فهم ما بدأ أحد قادة المحتجين ترديده.. كانت ترجمة متقطعة لكنها مفيدة، فنقلت ما مفاده أن المتحدث بدأ بشكر الناس على بقائهم في ساحة الميدان طيلة هذه المدة، وأنه «يؤكد عليهم مواصلة النضال من أجل بقاء أوكرانيا موحدة». وقال أيضا إن أوكرانيا «يجب أن تكون بلدا ذا سيادة، وترفض محاولة قوى خارجية تحاول تنظيم حياتنا هنا». ثم انتقد الحكومة الجديدة التي تشكلت بعد إطاحة نظام يانوكوفيتش لإبقائها الوجوه نفسها في مؤسستي الجيش والشرطة، مشددا على أن الشرطة فقدت مصداقيتها لدى الناس منذ قررت التدخل بقوة، وقتلت أكثر من مائة شخص، على حد قوله. بعدها عرج على التدخل الروسي الأخير في شبه جزيرة القرم، ملاحظا أن الرئيس فلاديمير بوتين يريد استخدام هذه المنطقة المتمتعة بحكم ذاتي كأداة للضغط على أوكرانيا بعد تمكن شعبها من إطاحة حليفه يانوكوفيتش. بعد قليل، أخذ المايكروفون قائد آخر للمحتجين تكلم عن النقاش الدائر حول العلم الأوكراني. سألت الشابة المترجمة عن هذه القضية، فشرحت لي أن العلم الحالي للبلاد يحمل اللون الأزرق في أعلاه والأصفر أسفله، بناء على اختيار اعتمد مع استقلال البلاد إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وغالبية الناس اليوم ترى أن ترتيب اللونين يجب أن ينعكس، وقالت إن لذلك دلالات عبر التاريخ القديم للبلاد.
ننتقل إلى مواقع أخرى ضمن حشود المحتجين الواقفين والسائرين، ونحاول الاقتراب من أشخاص مسنين، لكنني لا أجد واحدا منهم يستطيع فهمي والرد علي بلغة أجنبية، فهؤلاء يتابعون منصة الاحتجاجات، ويستمعون للخطب المتتالية الصادرة منها باهتمام أكثر من الشباب.. الحزن البادي عليهم يقول الكثير: عشنا طويلا تحت الاتحاد السوفياتي، وبلادنا لا تزال تدفع الثمن غاليا من أجل البحث عن وجهة بين الشرق والغرب. عند التدقيق في مشهد «الميدان»، يدرك المرء أن ما حدث على مدى الأشهر الأربعة الماضية، كان كبيرا، وأن الذين صنعوه اهتموا بأدق التفاصيل. يلاحظ في مبنى مقابل للبناية المحترقة، قطعة قماش عملاقة مكتوب عليه «المركز الإعلامي للميدان».. نقترب منه، فنجده مقرا لبنك تحول إلى منبر لمخاطبة العالم برسالة المحتجين. يستقبلنا شاب ملم بكل ما حدث، ويحدثنا عن التفاصيل التي نرغب في سماعها.. يقول أوليسكي نيشيتايلو، إن «من تراهم في الميدان، من متحدثين أمام المنصة ومستمعين، ليسوا سياسيين وإنما أشخاص للدفاع الذاتي». ويوضح أن المحتجين اعتادوا البت في قرارات بشأن حراكهم، بكل ديمقراطية عبر آلية تصويت وسط الميدان، كل يوم أحد. ففي هذا اليوم الذي يمثل عطلة أسبوعية، يطرح قادة الاحتجاجات اقتراحات على الناس بخصوص الخطوات اللازم اتخاذها مستقبلا، ويحصل تصويت تلقائي، بالقبول أول الرفض. ويشير نيشيتايلو إلى أن المحتجين رفضوا عدة مرات مقترحات من السياسيين المعارضين (السابقين)، أبرزها مقترح بمنح مهلة إضافية للحوار مع نظام يانوكوفيتش. ويقول نيشيتايلو، 33 عاما، إنه يعمل في مجال المعلوماتية وتطوع ضمن الحراك الاحتجاجي بعد شعوره أن الرئيس بوتين «يريد ابتلاع أوكرانيا» وإعادتها لنفوذ موسكو على غرار العهد السوفياتي.
وبالفعل مثلما قال نيشيتايلو، طرح قادة الاحتجاجات أول من أمس أمرين وجدا قبولا لدى الناس؛ الأول هو الإعلان عن تشكيل قوة أمنية جديدة تسمى «الحرس الوطني لأوكرانيا»، وتضم كل فصائل الدفاع الذاتي القادمة من كل مناطق البلاد بما فيها القرم، والثاني تكريم الأديب الأوكراني تاراس شيفشينكو، عبر تدشين نصب خشبي له وسط الميدان، بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاده.
نترك منصة الميدان لساعات ثم نعود إليها فنجد خطابات قادة الحراك مستمرة، بل نلحظ لاحقا من الفندق القريب أنها استمرت حتى وقت متأخر من الليل. نرى مدخل نفق أحاطت به أكياس القمامة المتراكمة من كل جانب، فنحاول دخوله زيادة في إشباع فضولنا المعلوماتي، فنندهش لأنه يقود مجددا إلى عالم آخر مختلف عما هو فوق الأرض. مساحة تسوق كبيرة (مول) من ثلاثة طوابق بها كل المتاجر العالمية، ومتسوقون تبدو عليهم الرغبة في عودة الحياة إلى مجراها الطبيعي بسرعة. نلحظ مطعما راقيا مكتوبا عليه بالعربية اسم: «المطعم التتري القرمي» إضافة إلى توصيفه باللغة الأوكرانية.. يقدم وجبات تمزج بين المطبخ التركي ومطبخ منطقة آسيا الوسطى المسلمة.. نطلب شواء مدرجا ضمن قائمة «المنيو» فتعتذر المضيفة صاحبة الطربوش النسائي واللباس المطرز الخاص بمنطقة آسيا الوسطى، بأن أدوات الشواء معطلة بسبب الاحتجاجات الأخيرة. وتشير إلى أن المطعم توقف عن العمل منذ بدء المواجهات وبالكاد استأنف تقديم وجباته منذ أيام إثر تنحي يانوكوفيتش. في الطريق بين الميدان والفندق، قابلت شابا يدعى رادي، 22 سنة، وصل للتو من منطقة القرم الواقعة جنوب البلاد، التي تشهد توترا على خلفية التدخل الروسي فيها. سألته عن حياته وعما يدور هناك، فقال إنه طالب دراسات عليا في مجال علم النفس بإحدى جامعات القرم، لكنه بات قلقا على مشروع تخرجه القريب، وسفر مرتقب لاحقا إلى باريس لدراسة إحدى النظريات الفرنسية في تخصصه.
ساعات معدودة وسط «الميدان» كانت كافية لتلخيص ما جرى على مدى أشهر من دمار وسقوط أكثر من مائة قتيل. تبادر إلى ذهني سؤال حول سبب بقاء مشاهد الحرب هذه رغم سقوط يانوكوفيتش، واختيار رئيس جديد مؤقت للبلاد، لكنني عند تدقيقي فيما سمعت، فهمت أن الناس هنا خائفون على «سرقة ثورتهم» من سياسيين لا يؤمن جانبهم، والأهم من ذلك أنهم متألمون كثيرا لما حدث ولا يريدون نسيانه بسهولة.



بايرو للسعي إلى «مصالحة» بين الفرنسيين

الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة المكلف فرنسوا بايرو في صورة تعود لشهر مارس 2022 خلال الحملة الرئاسية الأخيرة (أ.ف.ب)
الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة المكلف فرنسوا بايرو في صورة تعود لشهر مارس 2022 خلال الحملة الرئاسية الأخيرة (أ.ف.ب)
TT

بايرو للسعي إلى «مصالحة» بين الفرنسيين

الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة المكلف فرنسوا بايرو في صورة تعود لشهر مارس 2022 خلال الحملة الرئاسية الأخيرة (أ.ف.ب)
الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة المكلف فرنسوا بايرو في صورة تعود لشهر مارس 2022 خلال الحملة الرئاسية الأخيرة (أ.ف.ب)

بعد أكثر من أسبوع من الترقب، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حليفه فرنسوا بايرو رئيساً للوزراء، على أمل تجاوز الأزمة الكبرى التي تعانيها فرنسا منذ حلّ الجمعية الوطنية في يونيو (حزيران) وإجراء انتخابات لم تسفر عن غالبية واضحة.

ويأتي تعيين بايرو، وهو سياسي مخضرم يبلغ 73 عاماً وحليف تاريخي لماكرون، بعد تسعة أيام من سقوط حكومة ميشال بارنييه إثر تصويت تاريخي على مذكرة لحجب الثقة دعمها نواب اليسار واليمين المتطرف في الرابع من ديسمبر (كانون الأول).

وعبّر رئيس الوزراء الفرنسي الجديد عن أمله في إنجاز «مصالحة» بين الفرنسيين، لكنَّه يواجه تحدياً كبيراً لتجاوز الأزمة القائمة. وقال بايرو في تصريح مقتضب للصحافيين: «هناك طريق يجب أن نجده يوحد الناس بدلاً من أن يفرقهم. أعتقد أن المصالحة ضرورية».

وبذلك يصبح بايرو سادس رئيس للوزراء منذ انتخاب إيمانويل ماكرون لأول مرة عام 2017، وهو الرابع في عام 2024، ما يعكس حالة عدم استقرار في السلطة التنفيذية لم تشهدها فرنسا منذ عقود.

ويتعيّن على رئيس الوزراء الجديد أيضاً التعامل مع الجمعية الوطنية المنقسمة بشدة، التي أفرزتها الانتخابات التشريعية المبكرة. وقد أسفرت الانتخابات عن ثلاث كتل كبيرة، هي تحالف اليسار والمعسكر الرئاسي الوسطي واليمين المتطرف، ولا تحظى أي منها بغالبية مطلقة.

وقالت أوساط الرئيس إن على بايرو «التحاور» مع الأحزاب خارج التجمع الوطني (اليمين المتطرف) وحزب فرنسا الأبية (اليسار الراديكالي) من أجل «إيجاد الظروف اللازمة للاستقرار والعمل».