في محاضرة للفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال فوكو (1926 - 1984)، قال إن الفلسفة دخلت منذ بداية القرن العشرين، ما يسمى «عصر الاشتباه»، حيث أصبح كل شيء مجالا للشبهة والشك والريبة. فمع فريدريك نيتشه (1844 - 1900)، أصبحت قيمة القيم مثار شبهة، من حيث إن كل القيم النبيلة تقوم على أساس وضيع هو المنفعة البحتة، بالإضافة إلى هدم مركزية العقل وتفتيت سيطرته، غير المشروعة، على أشكال السلوك والفكر الإنساني كافة. ومع كارل ماركس (1818 – 1883)، أصبحت الآيديولوجيا مجالا للتلاعب بالعقول وتزييف الوعي، لتكريس وضع طبقي يحمي مصالح أصحاب رؤوس الأموال، في مقابل وضع طبقي يبقي الفقراء على حالهم. ومع سيغموند فرويد (1856 – 1939) أصبح كل فعل إنساني بمثابة رد فعل لما يدور في العقل الباطن، باعتباره مخزنا للغرائز المكبوتة كافة. من هنا، نجد أن أغلب إسهامات الفلاسفة المعاصرين، تدور في الفلك نفسه. فقد انطلقت الفنومنولوجيا من التشكك في جدوى الفلسفة وأهمية دورها في مقابل التطور العلمي الكاسح. وانطلقت الوجودية من التشكك في فهم معنى وقيمة الوجود الإنساني في شكليه العام والخاص، وكذلك البنيوية، التي شكك أبرز روادها، ليفي شتراوس، في أفكار من قبيل التفوق العلمي، والتحضر للإنسان الحديث في مقابل الإنسان البدائي بوصفه أقل ذكاء وأدنى منزلة. بالإضافة إلى تيارات النقد الأدبي، وعلى رأسها التفكيكية التي شككت في براءة النص، باعتباره مجالا لممارسة السلطة من جانب المؤلف على القارئ، وغيرها.
ولعل هذا هو ما وضع فكرة «الحقيقة» أيضا في مرمى نيران الشك، حيث أصبحت متغيرة من عصر إلى عصر، وقابلة للتعديل والتجاوز. فقد تجاوز الفلاسفة فكرة الحقيقة المطلقة التي لا يطالها الشك من قريب أو من بعيد. بل سيطرت فكرة النسبية على مناحي العلوم الإنسانية كافة. وفي ميدان العلم أيضا، لم يعد هناك مكان لفكرة الحتمية. بل إن دور العالم هو وضع الفروض واختبار صحتها لمحاولة إثبات صحة أكثر الفروض احتمالية، مع الوضع في الاعتبار، أن هذا الفرض يظل فرضا احتماليا قابلا للتغيير، بل قابلا للنفي أيضا، مع التطور العلمي يوما بعد الأخر.
غير أن الاشتباه في شيء هو، بـ«تعبير ديكارتي»، شك في يقينية هذا الشيء. والشك دلالة على النقص. وحيثما كان هناك نقص يكون هناك سعي نحو الكمال. فاعتقادي أن معرفتي ناقصة يدفعني نحو تحصيل المزيد، والأمر بالمثل بالنسبة للحقيقة. أما الاعتقاد بالوصول إلى حقيقة يقينية مطلقة، فيقود إلى التوقف عن إعادة فحصها. بل الأخطر من هذا، هو الدفاع عن هذه الحقيقة حد الموت.
ربما هذا ما يفسر ظاهرة خطيرة تهدد المجتمع العالمي منذ سنوات، وهي ظاهرة الإرهاب. فمن يقوم بتفجير نفسه هو شخص لديه إيمان راسخ بمجموعة من الأفكار التي تشكل لديه حقائق يقينية غير قابلة للنقاش، وغير قابلة للمراجعة، آمن بها حد الموت. ليس هذا وحسب، ولكنه يسعى لإخضاع الجميع لهذه الحقائق بالقوة المسلحة، أما البديل فهو القتل. وثمة نظرة فاحصة لهذا المشهد، تكشف لنا عن أمرين غاية في الأهمية والخطورة معا:
أولهما، هو نشأة الإرهاب وتشكُل خلاياه في بلدان العالم العربي، حيث خرج هذا الفكر من عباءة الجماعات المتطرفة التي لا تقبل الجدال في حقيقة أفكارها ومعتقداتها.
وثانيهما، هو التراجع الملحوظ لدور الفلسفة وغياب الفلاسفة داخل العالم العربي، فلدينا مشتغلون بالفلسفة وأساتذة لها، ولكن ليس لدينا فلاسفة، بل أكثر من هذا فقد حُمِّلَ مفهوم الفلسفة بالكثير من المضامين الساخرة، وأصبح ينظر إلى المهتمين بالفلسفة كمرضى نفسيين، وأناس يعانون من الفراغ، ويتشدقون بمصطلحات عصية على الفهم، وحديثهم لا طائل من ورائه.
اقتران هذين العنصرين ليس من قبيل الصدفة، ولكن تراجع الفلسفة وانحسار دورها داخل مجتمعاتنا، كان سببا رئيسيا في جمود الفكر وانغلاقه وتشدده أيضا. فلا شك في أن للفلسفة دورا مهما في التأثير على المجتمعات، يتمثل هذا الدور بشكل أساسي، في خلخلة المسلمات والبديهيات، واختبار كل ما اعتبره الإنسان يقينا، ومراجعة كل ما اعتبره حقيقيا. فالإنتاج الفكري هو، في الأساس، إنتاج قابل للتعاطي معه والأخذ والرد، إنتاج منوط به إحداث تغيير وإلا أصبح بلا جدوى.
لا شك في أن ثمة عناصر أخرى قد تتداخل في هذا المشهد، لتكون سببا أساسيا لانتشار التطرف والإرهاب، كأن تمول بعض الدول الغربية الجماعات الإرهابية، هذا في الوقت الذي تحاول فيه هذه الدول إقناع المجتمع العالمي أنها تحارب الإرهاب. ورغم قناعة هذه الدول بأن تمويل الجماعات المتطرفة هو عملية شراء لولاء هذه الجماعات، وترحيل للعمليات الإرهابية خارج حدودها، إلا أن هذه الدول لم تنشئ هذه الجماعات، ولم ترسم لها أفكارها، ولم تصبغ عقولها بالتطرف. هذا ليس دفاعا عن هذه الدول. فتمويل الإرهاب جريمة لا تقل خطورة عن الإرهاب ذاته. لكن حقيقة الأمر، هي أن الجماعات المتطرفة دائما ما تقترن بالعالم العربي. فلا حل لمشكلة بالتعالي عليها أو الهروب منها، ولكن أولى خطوات الحل تكمن في الاعتراف بوجودها، ثم تشخيص حل لها. والحقيقة التي ينبغي علينا الاعتراف بها، هي أننا نعاني من التطرف الفكري، لا نقبل الآخر ولا نقبل النقد. لا نقوى على مجابهة الآخر بالحجة والبرهان والدليل.
وربما يرى البعض أن الحديث عن تراجع الفلسفة في مقابل تنامي التطرف هو محاولة لإعطاء الفلسفة أكثر مما تستحق، ومبالغة ليست في محلها. قد يرجع البعض أسباب تأخر مجتمعاتنا وبزوغ التطرف، إلى تراجع الاهتمام بالثقافة والتعليم، وإلى تراجع تصنيف الجامعات العربية مئات المراحل، ولا اعتراض على هذا. لكن الفلسفة وحدها كفيلة بأن تفتت غرور امتلاك الحقيقة المطلقة. فلا تطمع الفلسفة في أكثر من الدهشة التي ترتسم على وجهك عندما تقرأ فيلسوفا يحطم بمطرقة كل ما اعتبرته يوما أوثانا مقدسة. لا تبغي الفلسفة أكثر من الحيرة التي تقع في براثنها عندما تضبط نفسك قد بدأت تتجاوب مع فكرة كنت ترفضها. لا تنشد الفلسفة أكثر من استفزاز طاقاتك الذهنية حتى تفكر، حتى تقاوم بالفكر، حتى تختار بنفسك قناعاتك عن فهم وعن خبرة. فقد نشأت الفلسفة من الحيرة والدهشة التي تبعث على التساؤل عن كل ما هو تقليدي ومألوف ومعتاد في حياتنا.
كيف نخرج من هذه الأزمة إذن؟
الإجابة عن مثل هذا السؤال، تكمن في وجود إرادة حقيقية لعبور الأزمة. فلا يصح أن نشجب وندين الإرهاب، في الوقت الذي نمارس فيه إرهابا فكريا لا يقل خطورة عما تمارسه الجماعات المتطرفة من أعمال عنف. وإذا كانت هناك نية وإرادة حقيقية لعبور الأزمة، فمواجهة الفكر لا بد أن يكون بالفكر والحجج والإقناع.
لقد اجتاز الغرب كل ما نمر به من مراحل، بل ما هو أشد ضراوة منها. ففي العصور الوسطى، حين كانت الكنيسة تسيطر على مقاليد الحكم، كانت هناك محاكم التفتيش التي كان على رأسها مجموعة من الباباوات، وعانى منها الكتاب والمفكرون والعلماء، أمثال غاليليو غاليلي، عندما قال بدوران الأرض، وجيوردانو برونو الذي تم حرقه وحرق كتبه، وكوبرنيكوس وغيرهم.
وحتى نتجاوز هذه المراحل بأقل الخسائر الممكنة، علينا أن نفسح مكانا للاحتمال والخطأ والتغير. وأن نتواضع قليلا. وأن نضع أفكارنا ومعتقداتنا على محك الاختبار والمراجعة الدائمة. وذلك بأن نطلق عنان الفكر. يجب أن ترعى مجتمعاتنا العربية المبدعين والموهوبين والمفكرين، فهذا هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة ومواجهة التطرف. علينا أن ندخل عصر الاشتباه.
* مدرس الفلسفة المعاصرة بكلية الآداب بجامعة حلوان