مايناو.. مغناطيس الحرارة في عز الشتاء بجنوب ألمانيا

جزيرة الزهور الأزلية

مايناو.. مغناطيس الحرارة في عز الشتاء بجنوب ألمانيا
TT

مايناو.. مغناطيس الحرارة في عز الشتاء بجنوب ألمانيا

مايناو.. مغناطيس الحرارة في عز الشتاء بجنوب ألمانيا

في الوقت الذي تتساقط فيه الثلوج وتتراجع درجات الحرارة في ألمانيا يبقى الطقس فوق جزيرة مايناو الواقعة جنوب ألمانيا أكثر دفأ، وهذه الظاهرة غير العادية دفعت بعلماء الطبيعية لفحص مياه بحيرة كونستانز التي تقع الجزيرة في وسطها وكانت المفاجأة. فالسبب في ذلك هو أن الحرارة تخزن طوال أشهر الصيف والأيام المشمسة في الشتاء في منخفض يقع على عمق نحو 400 متر، وهذا المنخفض بدوره يخفف أيضا حركة تغيير المياه ومن التيارات المائية فتبقي على حرارتها. والعامل الآخر وجود تلال ومرتفعات تحيط بالجزيرة تصد الرياح الباردة وتجعل درجة حرارة الهواء معتدلة لمدة أطول من بقية المناطق الألمانية، وهذا يسمح بنمو أشجار ونباتات تحتاج إلى مناخ دافئ، ما يمكّن من زراعة أشجار تنمو في البحر المتوسط وتعطي في مواسمها ثمارا منها أشجار الليمون والحامض والرمان والنخيل وهناك 20 نوعا من النخيل يقطف بلحه كل سنة، إضافة إلى أنواع من الأزهار الاستوائية و300 نوع من الورود. وعند تساقط الثلوج توضع كثير من الأشجار في بيوت زجاجية خاصة يمكن مشاهدتها عبر النوافذ. وللتمتع بمناظر الجزيرة يمكن الجلوس في مقهى جدرانه وقبته التي تعلو 17.40 متر من الزجاج المزدوج يتوفر فيه الدفء بسبب تمديدات التدفئة في أرضيته، ما يسمح أيضا بإقامة الحفلات والمناسبات حتى في أشد أيام الشتاء بردا، ويقصد الجزيرة كثيرون ليس فقط في الصيف بل والشتاء لمشاهدة أجمل وأغرب منظر، وهو شجر النخيل والليمون وسط الثلوج.
* جزيرة الأزهار الأزلية
وتوصف مايناو بجزيرة الأزهار الأبدية، ففي الربيع تُفرش حدائقها البالغة مساحتها 600 ألف متر مربع بأزهار كالزنبق والنرجس والعيسلان والأقحوان وزهرة الثالوث وأزهار أخرى رائعة، وفي الصيف ينتشر في حديقة الورود وسلم المياه الإيطالي أكثر من ثلاثين ألف وردة من 1110 أنواع فيفوح أريجها من كل أنحاء الجزيرة. وبسبب شهرتها بالورود يتم كل عام اختيار ملكة الورود من قبل الزوار، لكنها ليست صبية جميلة بل نوعا من الورود يستنبتها زهّارون. ومن بين الورود الفائزة وردة أطلق عليها اسم «شكرا حبيبتي» ذات لون أحمر وهّاج وأريج خفيف والوردة إنغريد برغمان (ممثلة سويدية اشتهرت في الأربعينات) وأريجها لطيف ولونها شديد الاحمرار، وتنتخب أيضا ما بين شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) ملكة الداليا، حيث يعرض 12 ألف زهرة داليا من 250 نوعا.
ومن يصعد إلى سلم المياه الإيطالي يخال نفسه في مدينة بجنوب إيطاليا، حيث الماء يجري على الدرج لتخفف من شدة حرارة الصيف التي تصل أحيانا إلى 35 درجة مئوية، ومن قمة السلم يمكن للزائر إلقاء نظرة على أشجار النخيل التي تظلل قصر الكونت برنادوت فيبدو وكأنه قصر في إسبانيا.
ولا تختفي الأزهار من الجزيرة في الشتاء خوفا من الصقيع، فحول شجرة الأرز القديمة وزرعت عام 1864 وأصلها من لبنان ويبلع طولها حاليا 30 مترا، تخرج زهرة الثلوج رأسها من بين الثلوج لتعلن عن اقتراب قدوم الربيع، وفي شهر يناير (كانون الثاني) تتفتح براعم الياسمين الشتوي في البيوت الزجاجية مع الأوركيدا وبخور مريم وفي فبراير (شباط) تعبق في هذه البيوت رائحة زهرة البرتقال التي تحوم حولها الفراشات الملونة وفي مارس (آذار) يستيقظ الربيع في كل زاوية من الجزيرة.
وأجمل المناظر في أبريل (نيسان) ومايو (أيار)، مساحات شاسعة مغطاة بسجادة من الأقحوان الهولندي (التوليب) من مختلف الألوان إلى جانب زهرة النرجس، لينافسها في شهر يونيو (حزيران) منظر الورود عندما تزّهر لتغطي الحديقة الإيطالية والدرج المائي إلى جانب أشجار النخيل والبلح التي يتم إخراجها من منازل الزجاج لترى زرقة السماء.
وتشتهر الجزيرة أيضا بشجرتها الآسيوية النادرة من نوع Ginkgo Biloba غينكغو بيلوبا زرعت في القرن الثامن عشر وهي الأقدم في أوروبا وتصبح أوراقها في الخريف ذهبية اللون إضافة إلى شجرة صينية لون خشبها أحمر داكن. ولإلقاء نظرة على عالم الفراشات يمكن الدخول إلى بيت الفراشات المحاط ببرك الماء والشلالات الاصطناعية الصغيرة وتصل الحرارة فيه إلى 26 درجة مئوية مع رطوبة 90 في المائة، ويضم البيت 26 نوعا من الفراشات.
ولا عجب أن يصادف الزائر في بعض زوايا الجزيرة حيوانات أليفة مثل الماعز والبوني (أحصنة قصيرة) يمكن للأطفال مداعبتها، ومن يرى الطاووس فاردا ذيله يكون من المحظوظين، وهناك عدد لا بأس به طليقا في الجزيرة واحضر من دول آسيا.
لكن هذه الجزيرة ليست فقط غير عادية مناخيا، بل تاريخيا لما وقع فيها من أحداث من أجل امتلاكها. فهي تبدو على الخريطة وكأنها سلحفاة وسط بحيرة كونستانز المشهورة يعانق ذيلها مدينة فريدريشسهافن الجنوبية، مساحتها لا تتعدى الـ45 هكتارا وهي الوحيدة في أوروبا الغربية التي لم تمتلكها دولة بل أشخاص، وتعود اليوم إلى عائلة الكونت السويدي ليونارت برنادوت، ويعيش في القصر أفراد عائلته مع عدد من الموظفين والعمال. ويقال بأن الكونت برنادوت كان يصف جزيرته بالصبية المدللة التي تطلب دائما الجديد أي أنواع جديدة من الأزهار والنباتات والأشجار؛ لذا كان يقصد البلدان البعيدة من أجل شرائها وزرعها فوق جزيرته.
* من أقدم الجزر في أوروبا
ومايناو من أقدم الجزر في أوروبا، فأول إنسان وطأت قدمه فوقها كان قبل 3000 سنة قبل الميلاد، ودل على ذلك الأواني النحاسية وبعض الأسلحة التي عثر عليها، وأقام فيها الرومان وزرعوا كثيرا من الأشجار. وبعكس المناطق الأوروبية ظلت عبر السنين لا تخضع لسلطة محددة، بل تنتقل ملكيتها إلى من يحط الرحال فوقها أو يشن حربا على ملكها وينتصر عليه، وأطلق عليها اسم مايناو في أواسط القرن الثاني عشر تيمنا بالكونت برتولد فون ماينوفي التي اشتراها، وبعد وفاته استولت عليها الكنيسة الكاثوليكية وضمنتها إلى منطقة الألزاس الفرنسية حاليا وبورغوندي. وخلال حرب الثلاثين سنة المعروفة في أوروبا ما بين عامي 1618 و1648 نزعها القائد العسكري كارل غوستاف رانغلس من الكنيسة وحولها إلى ثكنة حصنها بأسوار ضخمة.
ورغم وجودها فوق الأراضي الألمانية ظلت تتوالي العائلات السويدية النبيلة على ملكية الجزيرة إلى أن اشتراها عام 1827 الأمير النمساوي المجري نيقولا الثاني بنحو 65 ألف غولدن من الدوق لودفيغ فون بادن، ليشتريها بعدها عام 1858 الكونت لوديف إبرلينغ ويحولها إلى حديقة زرع فيها نباتات وأزهار وأشجار مثمرة أحضرها خصيصا من البلدان التي زارها أو كانت هدايا من مستشرقين كانوا في بلدان البحر المتوسط أو بحارة من الصين، منها شجر البرتقال والحامض والنخيل وغيره، كما تحول قصرها إلى محطة لكل معماري مشهور مهتم بطراز الباروك في هذا العصر. لكن منتصف القرن العشرين عادت إلى ملكية أمراء السويد بعد أن اشتراها الأمير السويدي ليونرت برنادوت وحولها إلى منتج سياحي.
وخلافا للتقاليد والخلاف مع العائلة تزوج الكونت برنادوت عام 1971 بالألمانية من عامة الشعب صونيا هاونس التي كانت تصغره بكثير، ويقال إنه سحر بجمالها وبحكمتها في الإدارة، وأنجبا خمسة أولاد. والإدارة الجيدة جعلت الجزيرة خلال سنوات قليلة محط أنظار السياح وبدأت تدر الأرباح الطائلة.
وبعد وفاة الكونت حاولت الدوقة صونيا تحمل المسؤولية كاملة، لكنها أصيبت بالإحباط عام 2004 عندما تراجع عدد الزوار عام 2004 بسبب الأزمة المالية الأوروبية، فما كان منها إلا أن حولت الجزيرة إلى مركز ثقافي بهدف تخفيف الضرائب التي تدفعها إلى الحكومة الألمانية، واضطرت لبيع بعض المقتنيات الثمينة في المزاد العلني من أجل تسديد الديون وإنقاذ الجزيرة من الإفلاس. ولتوفير رواتب الموظفين وزع الأولاد مع والدتهم المسؤولية وما زال الوضع قائما حتى بعد وفاتها قبل بضعة سنوات. فالابنة الكبرى بنيتا تدير شؤون الجزيرة مع شقيقها بورن وشقيقتها كاترين تشرف على أعمال مبرة ليونارت برنادوت التي أسستها والدتها والأميرة كارينا وهي مهندسة زراعية على الشؤون الزراعية والأمير كريستيان على قسم الإدارة، بينما تدير الأميرة ديانا محلا للقبعات تصممها وتصنعها بنفسها.
وتقام في القاعة البيضاء بقصر عائلة الدوق وهو على الطراز الباروك كثير من المناسبات والاحتفالات منها «حفل النبلاء» ما بين الثلاثين من شهر سبتمبر والثالث من أكتوبر من كل عام، حيث تعرض أغلى الحلي والإكسسوارات وأزياء لأشهر المصممين.
وفي الثاني من سبتمبر من أيام المعرض يعيش الزوار حفلا ملكيا، ففي بيت النخيل وفي ظل أشجار النخيل التي ترتفع أكثر من 15 مترا، تقام حفلات مسائية موسيقية وتقدم أكلات مشهورة تقليدية، ويستقبل أفراد الدوق الزوار بملابسهم الأميرية. وفي الثالث من سبتمبر تقام حفلة يلزم فيها المدعون بالحضور بملابس تعود إلى القرون الوسطى، فيخال المرء نفسه في بلاط ملكي حقيقي، وبالأخص لأن الموسيقي التي تعزف تعود إلى فترة الباروك كما الأزياء.



سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».