مع موسم أعياد الميلاد.. جدار الفصل يجعل حياة الفلسطينيين أكثر بؤسا

62 % من أصل 7000 كيلومتر مقررة لأسباب أمنية وسياسية وحدودية.. وانتقامية

مع موسم أعياد الميلاد.. جدار الفصل يجعل حياة الفلسطينيين أكثر بؤسا
TT

مع موسم أعياد الميلاد.. جدار الفصل يجعل حياة الفلسطينيين أكثر بؤسا

مع موسم أعياد الميلاد.. جدار الفصل يجعل حياة الفلسطينيين أكثر بؤسا

يدخل الفلسطينيون عامهم الجديد مثل أعوام أخرى سابقة وثمة أشياء في حياتهم لا تتغير، الاحتلال وأدواته.
وفيما ينشغل معظم سكان العالم بالاحتفال بالأعياد المختلفة مع نهاية وبداية وكل عام يجد الفلسطينيون صعوبة كبيرة في تذوق حلاوة الأعياد، التي تتحول لديهم إلى ذكريات سيئة.. حزنا على كثيرين منهم مضوا على طريق المواجهة مع إسرائيل، وأيضًا بسبب أدوات الاحتلال الكثيرة التي تعيق التواصل، ومن بينها وأهمها الجدار الإسرائيلي الفاصل الذي يحول الضفة إلى كنتونات كبيرة داخل سجن أكبر. للجدار الفاصل أو العازل، أو جدار الضم والتوسع، أو الفصل العنصري، كما تتعدد أسماؤه، وجهان كذلك؛ واحد بشع ولئيم، والثاني جميل ومزخرف وملون بأزهى الألوان. الأول الذي يمثل أحد جانبي الجدار، يطل على شوارع الفلسطينيين ومدنهم، يخنقهم ويحاصرهم، والثاني الذي يمثل الجانب الآخر، يطل على شوارع الإسرائيليين في الضفة ومستوطناتهم، يبعث لديهم «الطمأنينة» من شعب «مشتبه به» دائمًا.
يترجم الجدار باختصار ما تفعله إسرائيل في الضفة الغربية التي يفترض أن تكون عمق الدولة الفلسطينية، تقسمها إلى مدن وقرى ومخيمات محاصرة للفلسطينيين وهؤلاء لهم شوارعهم الخاصة، ومستوطنات وتجمعات للمستوطنين.
إنه ببساطة عنوان «الأبرتهايد» الجديد.
كان عمر شنانيري في قرية الولجة الصغيرة القريبة من القدس يقاتل مع أهل القرية قبل 5 سنوات عندما زارته «الشرق الأوسط»، حتى يحافظ على منزله داخل القرية التي بدأ الجدار آنذاك يلتف عليها ويخنقها. كانت قصته بمثابة حرب على الأرض وحرب في المحاكم ومظاهرات ضد الجدار الذي كان يفترض أنه سيلتهم بيته كذلك وليس أراضي المواطنين فقط، واليوم عندما زرناه مرة ثانية كان قد كسب المعركة، ولكن مع عزل تام عن باقي محيطه العربي، وكأنك ذاهب لمراجعة مؤسسة أمنية إسرائيلية.
دخلنا القرية عبر شارع مخصص للفلسطينيين يحده جدار فاصل عالٍ وآخر شائك ونقاط مراقبة لحماية المستوطنين في مستوطنة هار جيلو، التي لا تبعد بعض بيوتها عن بيوت الولجة سوى بضعة أمتار. ودلفنا عبر المدخل الوحيد للقرية التي فقد المواطنين فيها آلاف الدونمات من الأراضي لصالح الجدار، وصولا إلى منزل شنانيري قبل أن نتفاجأ بأن الطريق إليه ينتهي إلى نفق صغير حفره الإسرائيليون في بطن الجبل وتحت شارع أمني مخصص لمراقبة الجدار.
كان شنانيري ينتظرنا عند مدخل النفق حتى يعرف مراقبوه من الإسرائيليين أننا «ضيوف»، ولسنا «مخربين» وإلا فإن الدوريات الإسرائيلية ستحاصرنا فورًا بتهمة اختراق «الحدود».
قال شنانيري: «كأنك هنا تريد العبور إلى القدس».
وأضاف: «هذه النتيجة بعد سنوات من الصراع. إنه المدخل الوحيد لبيتي وبطيعة الحال يخضع لكل أنواع المراقبة».
كانت المداخل الأخرى مغلقة بحواجز عسكرية.
وقفنا قليلا أمام منزله الذي بدا مثل فطر ينبت على رأس جبل، ومعزول عن باقي القرية التي يعيش فيها 2000 فلسطيني، على مساحة 4500 دونم من أصل 17793 دونمًا، استولت عليها إسرائيل، وحولتها إلى أراضي دولة ومستوطنات ومحميات أمنية.
كان يمكن مراقبة الكنيست الإسرائيلي ومستشفى المطلع، وأسواق المالحة وملعب تيدي كوليك (رئيس بلدية القدس السابق) في القدس، بوضوح تام من مكان قريب من منزل شنانيري حيث تعمل الجرافات على استكمال الجدار هناك.
وأسفل منزل شنانيري تمر سكة حديد إسرائيلية تربط بين القدس وحيفا ويافا واللد والرملة، لكن ممنوعًا على الفلسطينيين حتى مجرد الاقتراب منها، وتحمي إسرائيل السكة بسياج أمني وبعض الحراسات.
كان الأطفال يراقبون القطار كمن يراقب لعبة «قطار الموت» الشهيرة في مدن الملاهي، فالفلسطينيون المقيمون في الضفة وغزة لم يجربوا القطار الحقيقي ولا قطار الملاهي، على أي حال.
ويملك شنانيري 18 دونمًا في التلة المعزولة المعروفة بخربة رغدان، المليئة بالآثار التي نقبت عنها إسرائيل جيدا في السنوات الماضية. وشاهدنا هناك آثارًا لمعصرة زيتون حجرية وبعض أساسات المنازل داخل الصخور، وقال شنانيري: «هنا ولدت وهنا سأموت ولن نغادر»، مضيفًا بشيء من الأمل المفقود: «سيتغير الحال بإذن الله».
بدا شنانيري منتصرًا ومغلوبًا على أمره كذلك، فقبل أن يقبل بهذا الوضع الصعب، خيره الجنود بين بوابات إلكترونية، أو أن يعبر من نفق تحت الأرض ووضعوا حاجزًا عسكريًا أمام باب منزله، ومنعوه أيامًا وساعات من الدخول إلى المنزل، بينما كانوا يمنعون زوجته من الخروج منه، وكانوا يطلبون منه ترك المكان.
ويخشى شنانيري بعد فترة وجيزة بأن يجبره الإسرائيليون وزواره على الحصول على تصاريح خاصة شأنه شأن آخرين في أماكن أخرى في الضفة المحتلة.
ويمتد الجدار الفاصل على طول 7000 كيلومتر حول الضفة الغربية بحدود رسمتها إسرائيل لنفسها، كي تكون فاصلة بين الشعبين، لكنها حدود مختلفة تمامًا عن تلك التي يطالب بها الفلسطينيون أو رسمتها في أي يوم من الأيام هيئات دولية.
يدخل الجدار «البشع» ويتلوى وسط الأراضي الفلسطينية الخاصة ويشق تجمعات ويعزل أراضي وأحياء، ويحكم قبضته على مدن كاملة، ويحد من التوسع الطبيعي لأكثر من مليونين ونصف المليون فلسطيني يعيشون في الضفة.
وقالت منظمة التحرير الفلسطينية في تقرير رسمي، إن إسرائيل أقامت 62 في المائة من الجدار فيما أن 10 في المائة قيد الإنشاء و28 في المائة من المزمع إقامته لاحقًا.
وأشارت دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية في تقرير جديد إلى أن 85 في المائة من مسار الجدار، هو داخل الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية. وأضافت: «طول الجدار المخطط هو 712 كيلومترا وهو يمثل ضعف خط حدود 1967 (أي 323 كيلومترا)».
وذكر التقرير أن «150 تجمعًا فلسطينيًا يمتلكون أراضي تقع ما بين الجدار والخط الأخضر»، لافتة إلى أن «65 مستوطنة إسرائيلية من أصل 150 مستوطنة ستقع داخل الخط الأخضر من الجدار».
وبحسب التقرير الفلسطيني الرسمي، فإن الجدار يعزل الآن نحو 11 ألف فلسطيني من سكان الضفة الغربية، إذ إنهم يعتبرون معزولين بين الجدار والخط الأخضر، إما إذا ما اكتمل بناء الجدار كما هو مخطط له، فإن 25 ألف فلسطيني آخرين سيقيمون بين الجدار والخط الأخضر.
ويوجد 1400 من سكان الضفة الغربية معزولون الآن على جانب القدس من الجدار ويعيشون في 17 تجمعًا معزولاً ومحرومون من الإقامة وحرية الوصول إلى العمل والخدمات في القدس الشرقية و1000 من سكان القدس الشرقية يقيمون الآن في جانب الضفة الغربية من الجدار.
وأشار التقرير إلى أن «معظم السكان الذين تزيد أعمارهم عن 16 عاما ملزمون بالحصول على تصريح إقامة دائمة للاستمرار بالعيش في بيوتهم».
وهذا بالضبط ما يحاول أهالي مدينة بيت جالا، تجنبه بعدما استأنفت إسرائيل أعمال بناء الجدار في منطقة قريبة من خط سريع للمستوطنين واصل إلى القدس.
ولم تمنع مظاهرات دورية للفلسطينيين في المكان وقف الأعمال مطلقا.
وفي الأسابيع القليلة الماضية، زحف فلسطينيون غاضبون تجاه الأراضي المهددة وهم يغنون «فلسطين الجريحة تنادي وين العرب يشوفوا ولادي»، قبل أن يهددهم جندي بالقول: «هذه المسيرة غير قانونية فلا تتجاوزوا أماكنكم»، ومن ثم يبدأ جنود آخرين بإمطار المتظاهرين بقنابل الصوت والغاز.
لم يستطع كبار السن والنساء وحتى شبان من الصمود طويلا أمام القنابل المسيلة للدموع، التي كان لنا نصيب كبير منها، وقالت امرأة كبيرة وهي تتلقى الإسعاف «إنهم دون أخلاق».
وقال خالد الشتلة وهو يحاول التقاط أنفاسه: «هذا الجدار اللعين سيلتهم 3500 دونم، ونحن لن نتسلم حتى لو أطلقوا الرصاص». وأضاف: «سنقاومهم هذه أرضنا».
وعرض الإسرائيليون على الأهالي إمكانية تزويدهم بهويات إسرائيلية لكي يتمكنوا من الدخول إلى أراضيهم لاحقا، لكن الشتلة مثل غيره رد بالقول: «لا نريد هوياتكم نريد أرضنا».
ولا يريد الشتلة أن يجد أرضه معزولة عن محيطها، مضيفا: «لدي مئات أشجار الزيتون وهذه أغلى من هوياتهم».
وفقد الشتلة 20 دونما مع بداية أعمال الجدار في 2002، وهو مهدد الآن بفقدان 4 دونمات أخرى.
وفيما كان يواصل الجنود إطلاق القنابل الصوتية وقنابل الغاز، ويهتف الفلسطينيون ضد الاحتلال والجدار، كانت الجرافات تواصل أعمالها دون توقف.
تجمع الفلسطينيون حول بطريرك اللاتين السابق ميشال صباح الذي جاء لمساندة الأهالي وكي يتظاهر ضد الجدار. وقال صباح: «هذه أرضنا وستبقى أرضنا، جنودهم وسلاحهم يحكمون بالقوة، ويومًا ما ستزول هذه القوة، وستعود الأرض لأصحابها الفلسطينيين».
لكن منطق صباح الذي لاقى تصفيقا طويلا لم يكن مقنعا للبعض، إذ من وجهة نظرهم لا ينفع الانتظار حتى تزول القوة، ولكن أيضًا لا يوجد بدائل. وهذا يفسر حالة الضعف الفلسطينية في مواجهة هذا الغول الممتد.
وفي إمكان أخرى كثيرة في الضفة كان الإسرائيليون يواصلون شق الجدار بالمنطق نفسه «بقوة السلاح».
ويوجد اليوم شواهد لا يمكن تجاهلها لما صنعه الجدار في حياة الفلسطينيين.
ففي برطعة الشرقية يحصر مسار الجدار الفاصل في داخله 4.575 شخصًا ويفصلهم عن مدينة اللواء جنين وعن بلدات يعبد الواقعة في الشرق وقفين الواقعة في الجنوب. وقد وضعت إسرائيل معبرا مركزيا يسمح بتنقل وحركة الناس والبضائع إلى داخل هذا «الجيب» (برطعة) وخارجه هو معبر «ريحان»، الذي جرت خصخصته في 2007.
ويضطر أهالي القرية للخضوع إلى عملية فحص زمنا طويلا، وقد يصل في ساعات الضغط - في الصباح وبعد الظهر - إلى قرابة الساعة. وكل من يرغب بالدخول إلى منطقة «الجيب» - ومن بينهم المرضى المزمنون والمرضى المتعافون بعد العمليات الجراحية والنساء الحوامل والمعوقون والأطفال - يضطر إلى الخضوع لفحوص أمنية متشدّدة تشتمل على عدة مراحل فحص وتمتد على مسار يصل طوله إلى قرابة 200 متر.
وفي جيّوس لا يمكن للفلسطينيين سوى المرور عبر البوابة الكهربائية عند القرية الواقعة شمال شرقي قلقيلية.
ومنذ فرض نظام التصاريح، أضحى عدد سكان القرية الذين يحظون بالتصاريح لزراعة أراضيهم الواقعة في الجانب «الإسرائيلي» أقل قياسًا بعدد العاملين في الزراعة قبل تشييد الجدار، مقابل ارتفاع الرفض لطلبات استصدار التصاريح.
وفي قلقيلية شمال الضفة، أدّى عزل المدينة، وهي رابع أكبر مدن الضفة الغربية، إلى سدّ أي إمكانية لتطوير المدينة بشكل حقيقيّ. ومنذ منتصف العقد الماضي، جرى استنفاد غالبية المساحة المخصصة للبناء في المدينة: 4.200 دونم فقط. وبلغت مساحة المنطقة التي صدقتها بلدية قلقيلية للبناء الجديد بين 2010 و2011 الأكثر انخفاضًا من بين مدن الضفة: 1.5% من مجمل البناء المصدّق في سائر مدن الضفة. وقد أدّى عزل المدينة في أعقاب القيود الصعبة المفروضة على حرية التنقل إبان الانتفاضة الثانية وفصلها عن سائر مناطق الضفة بواسطة الجدار الفاصل، إلى أن تتأخر نسبة الزيادة السكانية في المدينة عن نسب الزيادة السكانية في سائر مدن الضفة.
وفي بير نبالا في رام الله خلق الجدار الفاصل الذي يبلغ 18.3 كيلومتر سجنا كبيرا للأهالي. وقد فرض الجدار الفاصل على القرية انفصالاً عن القدس الشرقية، وبعد تشييده جرى ربط القرية وبشكل حصري بمدينة رام الله عبر شارع «نسيج حياة» جديد. كما أن الجدار قام وبشكل شبه تامّ بقطع جميع العلاقات التجارية التي كانت قائمة بين سكان القرية وبين سائر مدن الضفة ومع جهات تجارية في إسرائيل، إلى جانب قطع العلاقات المتشعبة بين سكان القدس الشرقية والقرية.
ومن غير المعروف متى ستنتهي إسرائيل من بناء الجدار الذي انطلقت أعماله في 2002، وأصدرت محكمة العدل الدولية، «رأيا استشاريًا» حوله في 2004، وجاء فيه أن الجدار الفاصل مخصص للمساعدة في المشاريع الاستيطانية، وقد يؤدي رحيل الفلسطينيين المعزولين بسببه، إضافة إلى أن السيطرة على الأراضي الخاصة والمرتبطة بإقامة الجدار الفاصل يُشكِّلُ مسًّا بالأملاك الشخصية، مما يُشكّلُ خرقًا للبنود 46 - 52 من لوائح هاج للعام 1907، والبند 53 من وثيقة جنيف الرابعة.
ورأت محكمة العدل الدولية أن الجدار الفاصل يمس مختلف الحقوق المقننة في الاتفاقيات والمواثيق التي وقعت إسرائيل عليها: الحق في حرية الحركة، الحق في عدم التدخل في خصوصية البيت والعائلة، والمقننة في البنود 12 و 17 من الميثاق الدولي بخصوص الحقوق المدنية والسياسية، الحق في العمل، الحق في مستوى حياة لائق، الحق في الصحة والتعليم، وهي مقننة في البنود 6، و11، و12 و 13 من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، الاجتماعية والحضارية.
وجاء في الاستنتاجات الخاصة بالرأي الاستشاري أنه يتوجب على إسرائيل التوقف عن إقامة الجدار الفاصل، وتفكيك أجزاء الجدار الفاصل التي تمت إقامتها في الضفة الغربية، وإلغاء الأوامر التي تم إصدارها بخصوص إقامته وتعويض الفلسطينيين الذين تضرروا جراء ذلك.
لكن إسرائيل رفضت التعاون وعدت الرأي الاستشاري للمحكمة بغير ملزم، وواصلت البناء لاحقًا وحتى اليوم وغدًا.
وخلال السنوات الماضية لجأ السكان الفلسطينيون إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، وقدموا مئات الالتماسات ضد مسار الجدار. وصححت إسرائيل بقرار من المحكمة مسار الجدار الفاصل أكثر من مرة لكنها لم تلغه في أي مكان.
وقالت منظمة «بيتسيلم» الإسرائيلية إن تحديد مسار الجدار تم مع تجاهل تام تقريبا للإساءة الواسعة بحقوق الإنسان للسكان الفلسطينيين. «فقد تم تحديده حسب اعتبارات غريبة لا تمت بصلة لأمن المواطنين الإسرائيليين».
وأضافت: «إن أحد الاعتبارات المركزية في تحديد مسار الجدار الفاصل هو الرغبة في الضم الفعلي لقسم من الضفة الغربية لإسرائيل. ومع الانتهاء من بناء الجدار، فإن نحو 9.5 في المائة من مساحات الضفة، التي توجد فيها 60 مستوطنة، ستقع مستقبلا في الجانب الغربي من الجدار من ناحية إسرائيل فيما يتعاطى السياسيون الإسرائيليون مع مسار الجدار على أنه الحد المستقبلي لإسرائيل».
وبحسب «بيتسيلم»: «تمسّ إقامة الجدار داخل مناطق الضفة وفرض نظام التصاريح الصارم بسلسلة طويلة من حقوق الإنسان الخاصة بالفلسطينيين. ومن ضمن ذلك، انتهاك حقهم في حرية الحركة، ونتيجة لهذا انتهاك حقهم في العمل والتربية والعناية الطبية والحياة الأسرية، وكسب الرزق ومستوى الحياة اللائق. كما يُنتهك حق الفلسطينيين الجماعي بتقرير المصير، كون المسار الذي صدّقته الحكومة يقطّع أوصال الضفة: فإذا بُني الجدار حول (أصبع) المستوطنات في منطقة معاليه أدوميم كما هو مخطط له، فإنّ هذا الأمر سيقطع التواصل الجغرافي القائم بين شمال الضفة وجنوبها وسيعزل القدس عن سائر أرجاء الضفة».
لا يتوقف الجدار أبدا مثل أفعى تتلوى، فيما يقاتل الفلسطينيون في خضم معركة قانونية وعلى الأرض ضد هذا الغول الذي يحاصرهم، ويحاصر في الوقت ذاته إسرائيل التي ذهبت لبناء جدران أخرى مع مصر والأردن منغلقة على نفسها أكثر فأكثر.
تتواصل الانتفاضة على الأرض اليوم ويتواصل بناء الجدار كذلك.

مواصفات الجدار

* يتراوح عرضه من 60 إلى 150 مترًا في بعض المواقع والمقاطع التي سيمر منها وبارتفاع يصل إلى 8 أمتار.
ويضاف إليه أسلاك شائكة، وخندق يصل عمقه إلى أربعة أمتار وعرضه أيضًا الحجم نفسه «وهو يهدف لمنع مرور المركبات والمشاة، وطريق للدوريات، وطريق ترابية مغطى بالرمال لكشف الأثر، وسياج كهربائي، وطريق معبد مزدوج لتسيير دوريات المراقبة، وأبراج مراقبة مزودة بكاميرات وأجهزة استشعار».
وتنصب إسرائيل ما لا يقل عن 81 بوابة محددة كبوابات لعبور الفلسطينيين. ولم يكن من بين هذه البوابات سوى 9 بوابات مفتوحة يوميًا ولساعات محدودة بينما يوجد 9 بوابات أخرى تفتح ليوم أو بعض الأيام خلال الأسبوع و63 لا تفتح، إلا خلال موسم قطاف الزيتون.



السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

TT

السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»
منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

«أمي أصرت على أن ترافقني في زيارتي الأولى لزنزانتي في سجن صيدنايا وزوجتي اتصلت من تركيا لتجعلني أقسم ألا أذهب من دونها... وأنا حقيقة ما زلت غير قادر على مواجهة هذا المكان. لا بمفردي ولا مع شاهد آخر على مأساتي».

هكذا اعتذر لنا منير الفقير، الناجي من الاعتقال في أفرع الأمن وفي سجن صيدنايا والشريك المؤسس في «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا»، عن عدم زيارة زنزانته التي كانت مقررة في صباح ذلك اليوم الدمشقي.

«في البداية تشجعت أن نذهب معاً» قال: «ولكنني فعلياً غير قادر على استعادة هذا الكابوس الآن. هناك فيض من المشاعر التي لا أعرف التعامل معها... استشرت صديقاً نصحني بألا أقوم بهذه الزيارة قبل أن أحصّن نفسي وأكون على أتم الاستعداد».

وبعد برهة صمت استدرك: «لكن كيف يستعد الإنسان للقاء كهذا؟».

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

لم نصر على الزيارة بطبيعة الحال. فالأيام القليلة التي سبقت الوصول إلى دمشق، وما نشر عن ذلك المكان السيئ السمعة من معلومات دقيقة أو مبالغة (بلا مبرر)، كفيل بإيقاظ أي صدمة مهما اندملت أو طوته الذاكرة. فكيف والجرح طري والألم مقيم. كذلك فإن الدفق الهائل من الروايات الفردية والجماعية عن هذه التجربة المروعة، الذي لم يترك تفصيلاً إلا وتناوله في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي كان ليجعل أي إصرار في غير صوابه.

سجن صيدنايا رأس جبل الجليد

إلى ذلك، فإنه يستحيل اختزال التجربة السجنية في سوريا على مدى الخمسين عاماً الماضية في سجن صيدنايا وحده، على فرادة التجربة لا شك، وذلك لكونه رأس جبل جليد دونه أفرع أمنية ومعتقلات وسجون كثيرة لا تقل رعباً وقسوة.

وإذا كان من نموذج لـ«الناجي المطلق» في ذلك الجحيم كله، فهو منير الفقير، المهندس ابن دمشق، الذي تنقل لأكثر من سنتين بين عدة محطات اعتقال بدءاً بالفرع 215، «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري، مروراً بالفرع 215 والمستشفى العسكري 601 المعروف بـ«المسلخ»، حيث التقطت صور «قيصر»، وصولاً إلى المسلخ الكبير... صيدنايا.

مدخل الفرع 215 «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري السوري كما بدا منتصف ديسمبر 2024 (الشرق الأوسط)

وقد يكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو كيف نجا منير، وكيف خرج حياً بعد كل ذلك، فيقول: «المعجزة أنني خرجت حياً من الفرعين الأولين. أما وقد وصلت إلى صيدنايا، وريثما علم أهلي بمكاني فقد كان بزنس الابتزاز انتعش. وحاولت عائلتي كغيرها من عائلات كثيرة إخراجي مقابل المال... وكنت محظوظاً أنه تم لي ذلك». ولعل اللافت أن رئيس المحكمة الميدانية، اللواء محمد كنجو حسن الذي حكم على منير بالترحيل إلى صيدنايا في جلسة محاكمة لم تتجاوز دقيقتين، كان هو نفسه من صادق على خروجه بعد تقاضي رشوة كبيرة عبر شبكة ابتزاز تعمل لصالحه.

هذا علماً أن منير لا يزال حتى الساعة جاهلاً بتهمته. ويقول: «لا أعلم حتى الآن ما هي التهمة الموجهة إليّ ولم أعلم حينها بمدة الحكم أو إذا كنت سأعدم. طوال الفترة التي قضيتها لم أبلّغ بشيء وممنوع أن أسأل. كنت فقط أحاول الاستنتاج من طبيعة الأسئلة الموجهة لي. لكنني لم أعلم شيئاً».

المعتقلون و«بازار» الابتزاز

يوضح منير أن هناك 3 أنواع من حالات الإفراج. الحالة النادرة جداً وهي العفو الرئاسي، وحدث أن منح بشار الأسد عفواً في حالات استثنائية ولأشخاص معينين. والحالة الثانية هي التبادل أي تبادل معتقلين بمعتقلين لدى أطراف أخرى، وهي أيضاً نادرة.

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» يزور سجنه بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

أما الحالة الأبرز والأكثر شيوعاً فهي الابتزاز المالي. ويقول منير: «كان لدى كنجو حسن الذي يملك ثروة طائلة وعقارات، سماسرة يرصدون الصيد الثمين من المعتقلين فيتواصلون مع الأهالي وبشكل رئيسي الأمهات ثم بدرجة ثانية مع الزوجات والأخوات».

وأضاف: «نحن في رابطة صيدنايا رصدنا هذا الموضوع، وقمنا بنشر تقرير توعوي للأهالي حول شبكات الابتزاز وقدرنا المبالغ المالية التي حصلت عليها شبكات الابتزاز الأمنية بنحو مليار دولار للفترة الممتدة بين 2011 حتى 2020». وتابع أن «منظمات حقوقية أخرى قدرت المبالغ بأكثر من ذلك، لكننا رصدنا الحد الأدنى الذي استطعنا توثيقه بناء على عينة إحصائية وليست عينة مسح».

وتعمل تلك الشبكات بإحياء أمل الأمهات باستعادة المفقود وإثارة خوفهن من خسارة ابن آخر «لينطلق البازار»، على ما يقول منير، ويبدأ إرسال المال مقابل معلومات أو إشارات شحيحة عن المفقود ريثما لا يعود لدى «الزبون» ما يقدمه؛ فإما أن يتم الإفراج فعلياً عن المعتقل وإما أن يصبح الرقم خارج التغطية، أو تُبلغ العائلة بأن الوقت قد فات وأن الابن لم يعثر عليه أو أنه ربما مات.

وهنا محظوظة هي العائلة التي تمنح شهادة وفاة أو جثة تدفنها، وغالباً ما يتم ذلك مقابل إجبارها على توقيع شهادة وفاة تقول إن الموت جاء لأسباب طبيعية أو صحية أبرزها توقف القلب أو الاحتشاء أو الفشل الكلوي، علماً أن الشائع هو تسجيل من دون حتى إبلاغ العائلة ولا حتى تسليم جثة.

الموت والتغييب كإجراء إداريّ

«لا شيء متروك للصدفة»، يقول منير ونحن نقف داخل مكتب السجلات في الفرع 215: «كل شيء مسجل ومؤرشف. وهذا جزء من نجاحهم في إطباق القبضة الأمنية. فمهما كان عدد المعتقلين ضخماً ومهما كان الازدحام في الزنزانات شديداً، يمكنهم بلحظة سحب الملف وسحب السجين من أي مهجع أو زنزانة».

وبالفعل، شملت سجلات الجرد التي ملأت الرفوف واطلعنا على بعضها، تفاصيل دقيقة عن الأشخاص ومقتنياتهم وأوراقهم الثبوتية وكل ما تتم مصادرته منهم حين توقيفهم. وكان هناك عدد كبير جداً من جوازات السفر المحفوظة، وعلمنا لاحقاً أنها تستخدم لنصب الأفخاخ. فأصحابها غالباً لا يعلمون أنهم مطلوبون لفرع أمني حين يتقدمون باستخراجها أو بطلبات تجديدها، وحين تنجز ويذهبون لتسلّمها يتم اقتيادهم إلى الفرع.

وثائق وأوراق ثبوتية ومقتنيات معتقلين مبعثرة ومنهوبة بقاعة المحفوظات في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

ومن «الأمانات» التي وقعنا عليها في قاعة المحفوظات تلك، كتاب «الاستخبارات المركزية الأمريكية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» لمحمود سيّد رصاص، وأحذية لأطفال ويافعين، وبطاقة هوية عليها صورة فتى لم يتجاوز سنوات مراهقته الأولى، وكثير من علب المهدئات العصبية ومسكنات الألم بتركيبة الكوديين.

أما من نعتقد أنهم «منسيون» في الأفرع والمعتقلات وبعضهم من جنسيات غير سورية أيضاً، فينطبق عليهم المبدأ نفسه بأن لا شيء متروك للصدفة. فبحسب ما يشرح منير، هناك نوعان من العبارات التي تكتب على إضبارات المعتقلين الذين يتخذ قرار «نسيانهم» أو عملياً قرار إخفائهم قسرياً: العبارة الاولى هي «يحفظ ويذكّر به» وتعني أنه يتعين على السجان تذكير مسؤول الفرع بالمعتقل في فترات متباعدة. والعبارة الثانية هي «يحفظ ولا يذكر به» فيعطى رقماً ويصبح بالإمكان إما الإبقاء عليه أو تصفيته.

قاعة إعدام وكابوس البطانيات

غادرنا قسم العمل البيروقراطي والإداري المتقن وهبطنا إلى الطوابق السفلية. هنا المهاجع والزنزانات المنفردة وقاعة تدريب على الرماية تحولت مكان اعتقال جماعي وتعذيب في فترات الذروة، ثم مسرحاً لإعدامات ميدانية وثقتها الرابطة ومنظمات حقوقية ومنحت الفرع 215 برمته سمعته بأنه «فرع الموت». لا يزال المكان يعبق بما شهده من فظاعات. ولا تزال الجدران السوداء في قاعة الإعدام تلك سقفها يحمل تركات ماض ليس ببعيد. الرائحة تثير الإعياء.

فجأة انتابت منير فورة غضب عارم فراح يضرب باب زنزانته برجليه ويديه حتى كاد يدميها. ثم تماسك، وغالب دموعه وتابع المسير.

مهجع في معتقل الفرع 215 بدمشق

في بعض المهاجع كانت بقايا خبز وعلب لبن فارغة وحبات طماطم تآكلها العفن مرمية على الأرض المتسخة أو فوق بطانيات رثة هي كل ما يشكل أثاث هذه القاعات. لا شيء إلا الجدران والبطانيات وحفرة صحية مكشوفة لقضاء الحاجة. على الجدران كتابات تخطر ببال ولا تخطر، محفورة بالأظافر أو أغطية علب اللبن. مناجاة وأسماء وتواريخ ومعادلات رياضية معقدة يقول منير إنها تهبط على الشخص في لحظات صفاء الذهن المطلق كما يحدث في السجن.

البطانيات التي يحمل بعضها دمغة «مفوضية اللاجئين» التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) وتشكل الأثاث الوحيد في هذه القاعات المغلقة تستخدم لأي شيء وكل شيء حتى أصبحت بؤرة جراثيم وبكتيريا وقمل تتسبب بتقرحات ونقل أمراض وعدوى بين المعتقلين خصوصاً في حالات الجروح المفتوحة. وليس نادراً أن تتفشى الغرغرينا في مهجع ما لأسباب كثيرة، أحدها هذه البطانيات نفسها. ويقول منير: «أحياناً كثيرة يموت سجين فيتركونه هنا لساعات أو أيام، بين رفاقه الأحياء، جثة ملقية على هذه البطانيات التي يعاد استخدامها لأغراض أخرى».

في آخر الرواق ليس بعيداً من القاعات الجماعية التي لا تتجاوز مساحتها 35 متراً مربعاً ويحشر فيها 200 شخص أو أكثر أحياناً بحسب المواسم، تصطف المنفردات فتبدو كأنها قبور منتصبة لا يمكن أن تتسع لحركة آدمي. ولكنها، وعلى الرغم من ذلك تبقى «مرتجى» كثيرين لأنها تبعد عنهم ولو قليلاً رعب البطانيات ذاك.

زنزانة منفردة في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

الرعب المعمّم خارج السجن

لعل أحد أوجه القسوة والترهيب المعمم في سوريا على مدى العقود الماضية، يكمن في اختيار مواقع هذه المعتقلات بين الأحياء السكنية في دمشق وتفرعات الشوارع كأنما لفرض التطبيع مع العنف الدائر داخلها. فإذا كان سجن صيدنايا بعيداً عن العين والمخيلة اليومية للناس العاديين، فإن هذه الأفرع تنتشر وسط العاصمة بمحاذاة حياة «طبيعية»، تجري خارجها.

فللوصول إلى الفرع 215 الواقع ضمن المربع الأمني بين حي كفرسوسة والمزة، الذي شكل المحطة الأولى في رحلة الاعتقال المستعادة مع منير، مررنا عبر «أوتوستراد المزة» الشهير وانعطفنا قليلاً ثم دخلنا من بوابة مفتوحة على الشارع كأننا نتوجه إلى أي دائرة حكومية في فضاء عام. ثم لدى انتهائنا من الزيارة وخروجنا من ظلمة السراديب إلى ضوء النهار، بدت فجأة من الجهة الخلفية مبانٍ إدارية تطل نوافذ مكاتبها على باحات هذا المكان، وكأننا بالموظفين يسترقون النظر إليه خلال استراحات القهوة والسجائر ثم يعودون هم أيضاً إلى عمل بيروقراطي متقن آخر.

وعلى الجانب الآخر، ثمة مبانٍ سكنية لها شرفات مظللة ضاقت بالغسيل المنشور عليها وتطل بدورها على الفرع. حمل مشهد الغسيل ألفة غامرة وخوفاً في آن.

عندها تصدق قصص كثيرة عن عائلات غيرت سكنها وباعت بيوتها لتتخلص من هذه الجيرة الثقيلة، ولعجز أفرادها عن الاستمرار في سماع صوت التعذيب المتسلل إلى غرف المعيشة وحجرات المنام.

كتاب «الاستخبارات المركزية الأميركية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» ضمن أمانات المعتقلين بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

«قسم الرضوض»... وصور قيصر

يفيد تعميم مسرب منتصف 2018، ومؤرخ في 18/12/2012 صادر عن رئاسة فرع المخابرات العسكرية بأنه «يطلب من جميع الأفرع الأمنية الخاضعة لها الإبلاغ عن وفاة أي سجين، في اليوم نفسه وإبلاغ رئيس الفرع شخصياً عبر (التلغرام) مع ذكر سبب الاعتقال ونتائج التحقيق وسبب الوفاة».

هذه وثيقة تستخدمها اليوم مجموعات حقوقية لمقاضاة الجناة دولياً، وتعدّ اعترافاً صريحاً بوقوع الوفيات، لكنها أيضاً إقرار بأن تلك الوفيات بأعدادها الهائلة، تجري بمعرفة وقرار مباشر من أعلى هرم القيادة.

ويعد الفرع 215 السابق الذكر محطة أساسية في «خط الإنتاج» ذاك، يليه «قسم الرضوض» في مستشفى المزة العسكري (يوسف العظمة سابقاً) المعروف بالـ601، «حيث يتم تخريج الوفيات بطريقة طبية أو يتم الإجهاز على المرضى بشكل طبي أيضاً»، بحسب ما يقول منير.

وكان «قسم الرضوض» استحدث بعد الثورة في 2011 ضمن المبنى القديم للمستشفى الذي يعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي لـ«معالجة» المعتقلين بعدما ارتفعت وتيرة التعذيب والقتل بشكل منهجي في الأفرع وأعداد الضحايا، وبرزت حاجة لـ«تصريف» الجثث وتخفيف الاكتظاظ. وذلك بالتزامن مع جعل «قسم الرضوض» مكاناً إضافياً للتعذيب «الطبي» هذه المرة، ثم حفظ الجثث وأرشفتها وترقيمها، وأبرزها تلك التي ظهرت في صور قيصر وتم تصويرها في باحة هذا المكان.

ويشرح منير دور الطاقم الطبي فيقول: «المشرفون على قسم الرضوض هم بشكل أساسي أمنيون وأطباء عسكريون، فالقسم يخضع لإدارتين أمنيتين هما: الأمن العسكري والأمن الجوي لكل منهما عزرائيل كما كنا نسميهما، لأنهما كانا كثيري القتل والتفنن به».

صور مفقودين عُلقت على جدران مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق (الشرق الأوسط)

وبحسب منير، وهو ما تمت مقاطعته من مصادر أخرى أيضاً، كان عدد غير قليل من الأطباء والممرضين وحتى الممرضات متواطئين إلى حد بعيد مع العسكريين فكانوا «يرشدونهم» إلى طريقة ضرب تؤدي إلى نزف داخلي مثلاً أو فشل كلوي أو اختناق من دون أن تظهر بالضرورة على الجسد آثار تعذيب واضحة، ما يسهل تبرير سبب الوفاة في السجلات الرسمية، وتسجيلها وفاة طبيعية لتكتمل دورة العمل الإداري والبيروقراطي الدقيق.

لم يكن ممكناً دخول المستشفى لمعاينة «قسم الرضوض» الذي رقد فيه منير لفترة وقد كان في حالة سيئة جداً وخسر وزناً كثيراً. فقد أغلق المكان وتحول إلى مقر شبه عسكري تابع لـ«الهيئة». عند السور الحجري الكبير، علقت عشرات صور المفقودين وأسماؤهم وأرقام هواتف ذويهم علّ أحداً يتعرف عليهم أو يمكنه الإفادة بمصيرهم.

خلال انتظارنا لنحو ساعتين عند البوابة الرئيسية للمشفى، توافدت سيارات كثيرة بطلبات مختلفة من تسليم سلاح فردي، ومراجعين لأقسام طبية لم تعد موجودة، إلى موظفة سابقة تريد استعادة أغراض شخصية من مكتبها مقابل أن تسلم مفتاحها. كغيرها، عادت أدراجها خائبة، فوحده تسليم السلاح لقي تجاوباً وترحيباً من العناصر المسلحة.

أما منير، وقبل أن يعود إلى احتفالات ساحة الأمويين، توقف طويلاً عند لوحة رفعت على المدخل الرئيسي تقول: «إدارة المشفى تتمنى لمرضاكم الشفاء العاجل».

لافتة الاستقبال عند مدخل مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق حيث جرت عمليات تعذيب وتصفية (الشرق الأوسط)