لم يكن هناك سوى الثور غائر النحت وآلهة التنين الأفعى لرؤيتها أثناء نقل المساحَين الألمانيين وحراسهما الأمنيين الذين يرتدون سترات واقية من الرصاص، معدات الليزر بشق الأنفس عبر الموقع الأثري الأكثر شهرة في العراق (أطلال بابل القديمة).
وبدافع القلق من العمل في دولة تمزق نفسها طوال سنوات، كثف ديرك هاوسليغنر، وإروين كريستوفوري، عملهما في المهمة الموكولة إليهما والبالغة مدتها أربعة أيام، وهي المسح الضوئي للجدران الشاهقة لـ«بوابة عشتار» البالغ عمرها ألفين و600 عام، ولمعبد «نابو شخاري» الذي أعيد بناؤه جزئيًا - بشكل ألحق الضرر به - في عهد الرئيس الراحل صدام حسين.
وقال هاوسليغنر، خلال مقابلة أجريت معه مؤخرًا بشأن رحلته إلى ما كانت ذات مرة عاصمة الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني، التي أصبحت الآن ركاما من بقايا الكشف عنها جزئيا، وتبعد 50 ميلاً جنوب بغداد: «بالطبع، كنا قلقين بعض الشيء. لكنك تشعر بالفخر لرؤية ذلك المكان والحفاظ عليه، لأنه من التراث العالمي».
كانت الرحلة في عام 2010، قبل تحقيق تنظيم داعش سمعة سيئة على مستوى العالم مع شنه حملة لا هوادة فيها لتدمير - ونهب - المواقع الأثرية في جميع أنحاء العراق وسوريا.
ونجت مدينة بابل، لأنها تقع في أقصى الجنوب والشرق من المواقع الأثرية المجاورة الأقل حظا، وهي النمرود والحضر وتدمر، الواقعة تحت قبضة «الخلافة الإسلامية» المزعومة.
لكن ما بدت آنذاك أنها مهمة مباشرة للتخطيط للمحافظة على المواقع الأثرية - وإن كانت قد جرت بدقة غير عادية باستخدام التقنية ثلاثية الأبعاد - تبدو الآن أنها جرت بالاستخدام النافذ البصيرة للتقنية الرقمية في منطقة نزاع يتهافت الآخرون حاليا لتبنيها.
وفي مواجهة العجز الواضح للحكومات والوكالات الدولية لوقف متعصبي «داعش» عن تسوية التراث بالأرض، تحاول المنظمات الثقافية الأخرى إنشاء تسجيلات ثلاثية الأبعاد للمواقع الأثرية من أجل الحفاظ عليها - على شكلها الرقمي على الأقل - للأجيال المقبلة.
وذكر جيف ألن، مدير برنامج لدى «الصندوق العالمي للآثار» (هي منظمة خيرية غير ربحية مقرها نيويورك، وهي التي كلفت مهمة المسح الضوئي، وتعمل في بابل مع مجلس الدولة العراقية للآثار والتراث): «كنا في مقدمة هذا العمل».
وأوضح: «لقد مسحنا آثار البوابة. لم نكن نعلم أبدًا أنها قد تتعرض لمشكلة في المستقبل، وبالصدفة الغريبة، تجتاح الأزمة جميع أنحاء العراق. وبالنسبة للمواقع الأثرية مثل النمرود والحضر، لم يكن التوثيق على هذا النحو المبين بالتفصيل، ومن الصعب للغاية إعادة بناء المواقع عندما لا تمتلك القاعدة الجيدة من المعلومات».
ونبهت الأضرار التي لحقت بالآثار في العراق إلى جانب مئات الآلاف من القتلى وملايين المشردين في البلدان، حيث قد لا تعود الهياكل - البشرية والسياسية والثقافية - إلى ما كانت عليه. غير أن الهجمات على الأشخاص وعلى تراثهم الثقافي ترتبط ارتباطا وثيقا بعضها مع بعض، وفقا لأولئك المكلفين بحماية الآثار.
وقالت إيرينا بوكوفا، مدير عام منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو)، في خطاب ألقته في نوفمبر (تشرين الثاني): «التطهير الثقافي هو جريمة من جرائم الحرب التي تستخدم الآن بوصفها تكتيك حرب. إنه ليس خيارا بين حماية الناس أو حماية الثقافة. إنما هو جزء من المسؤولية نفسها، لأن الثقافة تتعلق بالانتماء، والهوية، والقيم، والتاريخ المشترك، وذلك النوع من العالم التي نريد العيش فيه».
وتعمل منظمات ثقافية مع الخبراء العراقيين والسوريين - بالاعتماد على المعارف المحلية وتوفير المعدات والتدريب اللازم - لإنشاء سجلات رقمية للمواقع الأثرية المعرضة للخطر.
ومن بين المنظمات الرائدة في ذلك الأمر منظمة غير ربحية تسمى «ساي أرك»، مقرها في أوكلاند بولاية كاليفورنيا، تكرس نفسها للحفاظ الرقمي ثلاثي الأبعاد للتراث الثقافي. وقد أرسلت فرقا لمسح عشرات المواقع عالية المخاطر - لكن لا تزال هناك إمكانية الوصول إليها - في سوريا والعراق، وتخطط لتوسيع المشروع ليشمل مائتي موقع آخر في البلدان المجاورة.
إن مؤسس «ساي أرك» هو بن كاسيرا، 75 عاما، وهو مهندس عراقي - أميركي، ولد في مدينة الموصل الواقعة شمال العراق والتي تقع الآن تحت سيطرة تنظيم داعش. إنه يتذكر حينما كان والده يأخذه معه إلى المواقع الآشورية القديمة مثل نينوى والنمرود وخورسباد. ويكمن الدافع وراء شغفه بالحفاظ على التراث في ذكرياته للموصل التي عاشت فيها المجتمعات المختلفة معا بسلام وهي محاطة بذكريات حضارات بلاد الرافدين القديمة التي ساعدت في تشكيل العالم الحديث.
وقال كاسيرا: «تدفعنا طبيعتنا البشرية إلى طرح سؤال: من أين جئنا؟ ومن خلال تدمير تلك المواقع الأثرية، إننا فقط لا نفقد المواقع، إنما نفقد القصص التي تخبرنا بتاريخنا. ويريد الأشخاص مثل (داعش) طمس هذه القصص، لأنهم يريدون محو كل الذكريات من أجل جلب قصتهم ومنطقهم الخاص بهم إلى الواجهة. وأنا أمقت ذلك».
وتجمع منظمة أخرى «معهد الآثار الرقمية» قاعدة بيانات مفتوحة المصدر مؤلفة من مليون صورة. ويتمثل هدفها في استخدام الصور الملتقطة قبل تدمير المواقع الأثرية مثل تدمير لتسجيل - وحتى إعادة بناء - بعض المعالم الأثرية.
وأشار مدير التقنية بالمعهد، أليكسي كارينوسكا، وهو فيزيائي بجامعة «أكسفورد»، إلى أن المعهد كان يزود المتطوعين بـ5 آلاف كاميرا ثلاثية الأبعاد خفيفة الوزن - أقل دقة لكنها أكثر سرية وسهل الحفاظ عليها أكثر من الماسحات الضوئية - لتوثيق المواقع الثقافية المعرضة للخطر في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي أبريل (نيسان)، في ساحة الطرف الأغر في لندن، سيتم تثبيت نسخة طبق الأصل واسعة النطاق لقوس معبد «بعل» في تدمر، استنادا إلى نموذجه الرقمي ثلاثي الأبعاد. ويظل الوضع الحالي للقوس الحقيقي غير مؤكد، رغم أن معظم المعبد قد تدمر على ما يبدو.
وأضاف كارينوسكا: «بالطبع، لا يكون الاستنساخ مثل الشيء الأصلي. ويمكن فقط أن يكون ثاني أفضل نسخة منه، لكن بالنظر إلى الوضع الحالي، أعتقد أنه ينبغي علينا تقبل إمكانية وجود ذلك».
وبالطبع، من الضروري أيضًا بذل كثير من العمل غير الرقمي. ويحتاج موقع بابل إلى عمل صيانة شاق ومكلف - سوف يتلقى مساعدة قدرها 530 ألف دولار من سفارة الولايات المتحدة على هيئة منحة أعلنت عنها الأسبوع الماضي - إذا كانت المعالم الأثرية المعرضة للخطر هي التي سيجري الاحتفاظ بها على أرض الواقع، وليس مجرد النسخة الافتراضية.
* خدمة «نيويورك تايمز»
استخدام الماسحات الضوئية للحفاظ على الآثار الواقعة في مرمى «داعش»
أميركي عراقي يقود حملة رقمية ثلاثية الأبعاد لتسجيل أطلال بابل القديمة
استخدام الماسحات الضوئية للحفاظ على الآثار الواقعة في مرمى «داعش»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة