يعاني «داعش» المتطرف من حصار وانكماش فكري رغم تمدده التنظيمي، وذلك لشدة ما يتعرض له من انتقادات من التيارات المتطرفة حركيًا وقتاليًا مثل «القاعدة» و«أحرار الشام» من جهة، ومن التيارات الدينية المتشددة فكريًا وفقهيًا التي تعرف أدبياته من جهة أخرى! وهو في الحقيقة، لا ينشغل بغير الأول متجاهلاً سواه ومهملاً انتقادات تأتي من المؤسسات والشخصيات الدينية الرسمية وغير الرسمية. ويظل جزء كبير من قوة «داعش» في غموضه النظري ونقص المعرفة العميقة بأدبياته التنظيرية التي تدعي الحسم والتأصيل رغم المعرفة المتزايدة والحرب المتكاثرة على مختلف جوانبه التنظيمية، العسكرية والميدانية والتمويلية والنفطية! وعلى الرغم من حرب التحالف الدولي عليه واستشعار الجميع لخطرها، فإن الاهتمام الفكري ما زال دون المستوى في هذا السياق. وسنعرض فيما يرى لأكثر التهم إرباكًا لـ«داعش» وأكثرها رواجًا بين التنظيمات الناشطة على الأرض السورية ضده، وهي وصمها إياه بـ«الخوارج» أو «الخوارج البغدادية»، كما تواتر وصفهم عند كثير من ممثلي التيار المتشدد الحركي، وسنعرض لكيفية الدفع والرد الداعشي على هذه التهمة وهو ما تصدى له كبار منظريه وشرعييه، ثم نحقق مسألتها.
كان أول مَن وصف «الدواعش» واتهمهم بأنهم «خوارج» المنظر المتشدد السوري أبو بصير الطرطوسي في عدد من رسائله، فكتب رسالة في 4 يوليو (تموز) 2014 بعنوان: «شرعية إمارة المتغلب»، قال في خاتمتها وكأنه يلوح بهذا الاتهام: «والخوارج الغلاة رغم تمكنهم في تاريخهم من تأسيس بعض الإمارات الخاصة بهم.. إلا أنه لا يُعرَف عن أحد من السلف الصالح أنه قد دخل في موالاتهم وطاعتهم، أو أنه بايع أميرًا من أمرائهم.. أو دعي إلى مبايعته وطاعته.. وإنما كان الوقف منهم في اتجاه واحد لا غير؛ وهو قتالهم، ورد عدوانهم، وخطرهم عن الأنفس والحرمات..!». ولكنه صرّح بهذه الصفة بعد أسابيع منها في رسالة بعنوان «الخوارج الدواعش» بعد تفجير مساجد وقبور المسلمين في نينوى العراقية، في 27 يوليو سنة 2014، ثم أتبعه في مثل هذا الوصف أمثال أيمن الظواهري وأبي قتادة وآدم غدن وطارق عبد الحليم وغيرهم.
لكن أبا محمد المقدسي بعد رسالة مناصحته لهم لم يصفهم بالخوارج، بل اكتفى بوصف الغلو والغلاة لهم، واتهمهم جميعا بالكذب. وأفتت اللجنة الشرعية - على لسان عضوها أبو العز النجدي في منبر التوحيد والجهاد للمقدسي - بكراهة الانتماء إليهم، بالقول: «إذا كنت متبصرا بمخالفات القوم وتضمن ألا تتورط معهم في دم مسلم، وألا تذوب فيهم وتحمل غلوهم أو تعتاد مسارعتهم في دماء وأموال المعصومين، فلا أرى مانعًا من العمل معهم في التعاون على البر والتقوى لا التعاون على الإثم والعدوان، وكذلك في قتال الصليبيين والروافض والكفّار من أنظمة الردة لا في قتال المسلمين ومَن يسميهم الغلاة بالصحوات من مخالفيهم من المجاهدين أو غيرهم وليسوا بالفعل من الصحوات أو العملاء، لكن هذا التعاون الذي نجيزه هو في حال لم يمكنك أن تتعاون مع غيرهم، فإن أمكنك فالأولى غيرهم ممن هم أنظف وأبعد عن الغلو وسفك دماء المسلمين لأننا بلغنا انضمام بعض أفراد من جماعات أخرى إليهم، فما لبثوا أن ذابوا فيهم وصاروا من الغلاة، واستعمل آخرون في الإغارة على إخوانهم من الجماعة المسلمة التي كانوا معها سابقًا اختبارًا وبزعم أنهم أدرى بمخابئهم ومخارجهم ومداخلهم، فالأمر جد خطير».
ولكن كان توجيه هذه التهمة الأشد من أبي قتادة الفلسطيني الذي وصفهم بـ«كلاب أهل النار». وقال إن «أوصافهم أوصاف الخوارج وإن خالفوهم في الأصول»، واتسعت شقة الخلاف بين الطرفين، كما وضحته رسالة بعض قيادات (جبهة) النصرة والفصائل الإسلامية المسلحة إلى الظواهري وحملوا فيها (داعش) المسؤولية عن تراجع حال الثورة بسببها، بسبب أهل الغلو وفكره»، في إشارة لـ«داعش». وجاء فيها: «بقي الأمر على ما ذكرنا حتى ظهرت على الساحة بوادر الخلاف والفرقة والاقتتال بين الجهاديين بسب ظهور الأفكار المنحرفة كفكر أهل الغلو، كما بين ذلك شيوخهم المقدسي وأبي قتادة وغيرهم»، ثم اتسعت التهمة واستخدمها كذلك «أحرار الشام» وسائر الفصائل المقاتلة وسائر النداءات الحركية القريبة أو المحاذية لـ«داعش» في بؤر الصراع.
ولشدة التهمة على «الدواعش»، فقد تصدى لها كل منظريه، وردّ تركي البنعلي على أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، في اتهامه «داعش» بالغلو والخروج، وقتل رسوله أبي خالد السوري نافيا ذلك. كما كتب رسالتين في الرد على هذه التهمة:
أولاهما: بعنوان «تبصير المحاجج»، وثانيهما «الإفادة في الرد على أبي قتادة»، ذكر فيها البنعلي أن «حديث أهل النار ليس متواترًا ومن قبل أحاديث الآحاد»، وأنهم «يختلفون مع الخوارج في أصولهم، حيث يؤمنون بشرط الأئمة من قريش، وهو ما ترفضه الخوارج، وخليفتهم البغدادي يحمل هذا النسب القرشي حسب زعمهم». كما قال إنه ليس للخوارج كتب وتأليفات وحال «داعش» غير كذلك! وهذا خطأ علمي إذ للخوارج كتبهم ومؤلفاتهم التي دافعوا فيها عن أصولهم قديمًا وحديثًا. ومما يرد به كذلك البنعلي أن كثيرًا من الحركات الإسلامية على مدار التاريخ اتهمت بأنها «خوارج» مع أنها ليست كذلك، كما قال إن أبا قتادة قد يكون مُكرها على ما كتب ضدهم أو أنه ضلّ أو غير ذلك.
أيضًا كتب في دفع هذه التهمة اليمني أبو الحسن الأزدي برسالة في صحة موقف «داعش» من «القاعدة» و«جبهة النصرة»، وهي رسالته «موجبات الانضمام للدولة الإسلامية في العراق والشام» ينتصر فيها لموقف البغدادي ضد موقف الجولاني.
كذلك وضع الأزدي ردودًا على عبد العزيز الطريفي، وفي الرد على إياد قنيبي ينتصر فيه للبغدادي على الجولاني، وحدد فيها 11 وجهًا لصحة موقف الأول على الثاني، منها أن أمر تمدد «داعش» كان أمرًا شرعيًا ولم يكن معصية حتى يخالفه فيه، ولكن الأزدي لم يُجِب في مقالته عن خلع البغدادي بيعة الظواهري، التي أقر بها وأعلنها.
كذلك أهدى أبو عبيدة الشنقيطي كتيبه «رفع الحسام نصرة لدولة الإسلام في العراق والشام»، وهو رد ونقد على محفوظ ولد الوالد أو أبو حفص الموريتاني، الرجل الثالث في تنظيم القاعدة سابقًا، قائلاً: «أهدي هذا الكتاب إلى قرة العين فضيلة الشيخ المجاهد أمير المؤمنين أبي بكر البغدادي الحسيني القرشي، وإلى المتحدث الرسمي والمفوّه المفضال الشيخ المجاهد أبي محمد العدناني الشامي، وإلى القائد الميداني عمر الشيشاني، وإلى كل جندي من جنود الدولة الصادقين وفرسانها المغاوير، وإلى كل المشايخ الناصحين المناصرين للدولة الإسلامية بأقلامهم وفتاواهم» وهو في كل هذا يحاول دفع هذه التهمة عن تنظيمه وإمارته وخليفته المزعوم.
وفي كتابنا الجديد «سرداب الدم: نصوص داعش دارسة نقدية وتحليلية»*، وهو أول كتاب يصدر عن آيديولوجيا «داعش» وخطابه وأدبياته، وتنظيره قبل تنظيمه، قدمنا تعريفًا بالنظر والنظرية «الداعشية» وفق ممثليها وليس ما كتب عنها فقط. وسنحاول فيما يلي عرض أهم التهم والانتقادات التي ووجه بها «داعش» بعد «خلافته» المُدّعاة والمعتقدة، وردهم عليها، ثم تبرير الدواعش لممارساتهم.
إننا نرى في الدفع الداعشي لتهمة الخارجية مغالطات وأخطاء كثيرة، كما نرى في الحسم بها وهم منكروها كما أنكرها الخوارج من قبل، أمرًا غير منطقي. فالمقصود في الحالين صفات الخوارج وعقلية الخوارج، وهذا هو ما حذر منه النبي (صلى الله عليه وسلم) دون أن يسميهم ويحدد أوصافهم. أما النزاع عن الأصول، على الرغم من مغالطات البنعلي فهو أمر غير صحيح، وهو موضح في كتاب «سرداب الدم». أما الآن فسنورد ملاحظاتنا على من قالوا بالتهمة مَن «القاعدة» ومَن دفعوها من «الدواعش».
1 - إن وصف الخوارج أغلب وأسبق من أصولهم
إن الغالب عند علماء السلف هو أن وصف الخوارج لم يرتبط بأصول الفرقة التي عُرفت به بل أسبق منها، كما جاء في الأحاديث، وكما جاء في وصف الكثير من الصحابة والتابعين لمن خرجوا على الخليفة عثمان بن عفان وليس على الخليفة على (رضي الله عنهما) أنهم «أول الخوارج». لذا، نلاحظ خطأ الناقد والمنقود في أمرين: أن الأصل في الخوارج الصفات وليس الأصول، وأنه أطلق على الخارجين على عثمان (رضي الله عنه) أنهم «أول الخوارج».
2 - لم يقبل الخوارج كما «داعش» وصف خصومهم لها!
كما يرفض «داعش» وصف الخوارج، فقد رفضه الخوارج أنفسهم. وذلك لأنه اسم أطلقه على هذه الفرقة (أو الفرق) خصومها، أما هم فقد سموا أنفسهم بأسماء أخرى منها «الشراة». ودليل على ذلك، أن الفرقة المقصودة لم تسمِ نفسها خوارج بل أسمت نفسها «الشراة» و«جماعة المسلمين» و«أهل الحق والاستقامة»، وغير ذلك من أوصاف يمكن مراجعتها في مواضعها [1].
3 - أن أصول الخوارج ليست واحدة وليست على الدرجة نفسها من الغلو
أن الأصول التاريخية في تبرّيهم من الصحابة أنها ليست واحدة، فلم يأتِ بها الحديث والأوصاف النبوية. وموضوع التحليق وإعفاء اللحى والشعور الذي استند له البنعلي لا يصح سندًا، لأنه ليس أمرًا تنظيميًا، كما أن أوصاف ذي الثدية لم تتكرّر، فالأصل هو في الشدة على المسلمين والمؤمنين المُخالفين.
4 - للخوارج مؤلفاتهم الباكرة وإن لم تشتهر
كانت للخوارج مؤلفات. بل عرف التأليف عن أئمتهم الأوائل كنافع بن الأزرق وعمران بن حطّان السدوسي ومرداس بن أديّة. كذلك عُرف عن جابر بن زيد (توفي 93 هجرية) الكتابة والجوابات، وكان من تلامذة ابن عباس الذي نقل كما ابن الأزرق عن ابن عباس. ونقل الربيع بن حبيب عن شيخه أبو عبيدة مسلم بن كريمة (ثاني أئمة الإباضية) «المسند» المعروف الذي يعتبره الإباضية من أصح كتبهم، ويطلقون عليه «الجامع الصحيح». ولقد توفي الربيع بن حبيب سنة 170 هجرية. ومنها كتب الجزائري أبو يعقوب يوسف الورجلاني (المتوفي سنة 570 هجرية) عن أصولهم، فأعاد ترتيب «الجامع الصحيح» وكتب «الدليل والبرهان في أصول الفقه الإباضي»، وتفسيرًا للقرآن الكريم في سبعين جزءًا، ومنه ما كتبه عبد الله بن إباض و«مسند الربيع» قبل القرن الثالث الهجري.
5 - عقلية الخوارج أوسع من فرق الخوارج
استن الدواعش، كما الخوارج الأوائل، بدعًا سيئة لم يسبقوا إليها، كالذبح والحرق والتمثيل العنيف بالأعداء، والميل الشديد لتفسيق وردة مخالفيهم، واستحلال دمائهم. ولأن الدواعش ينكرون، نورد هنا ما قاله متحدثهم العدناني في رسالة إعلان «خلافة خليفتهم» حين هدد في إعلانه البيعة لأمير التنظيم أبي بكر البغدادي في 29 يونيو (حزيران) سنة 2014 بأن هذه البيعة صارت واجبة على جميع المسلمين ولأي أحد، وجميع الفصائل، وأن من شقّ الصف فستشق رأسه وأن «ألقوا رأسه بالرصاص»! حيث قال «صار واجبًا على جميع المسلمين مبايعة الخليفة وتبطل جميع الإمارات والولايات والتنظيمات التي يتمدّد إليها سلطانه ويصلها جنده». ونزع عن كل رفقائه السابقين من الجماعات شرعيتها، قائلاً: «بطلت شرعية جميع الجماعات والتنظيمات الإسلامية الأخرى، ولا يحلّ لأحد منها أن يبيت ولا يدين بالولاء للخليفة البغدادي»..الخ.
إن الخوارج الغلاة - وليس مَن اعتدل منهم - كانوا يقاتلون على تصوّرهم للحكم وللحق، ويقتلون بالمخالفة وهكذا يفعل الدواعش، ولا يعني ذلك تكفيرًا ولكن يعني ضلالاً، كما ذكر البنعلي في «تبصير المحاجج» كأنه إقرار كامن في الإنكار يعرفه!
* كتاب «سرداب الدم: نصوص داعش دراسة نقدية وتحليلية» (القاهرة: دار صفصافة للنشر) من تأليف الدكتور هاني نسيرة.