من النادر أن يتحدث أو يلقي التحية على من يمر بهم وهو في طريقه إلى قاعة البرلمان. يبتسم عادة. يشير بكفه من بعيد كأنه يسلم على الجميع دون تمييز. إنه فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي والحكومة التوافقية. جرى اقتراح اسمه بعد نحو 18 شهرا من المفاوضات المكوكية لحل الأزمة برعاية الأمم المتحدة، وإنقاذ الدولة من الفشل. هذه محاولة ليست سهلة، خاصة في بلد غير متمرس على الاختلاف السياسي ويعج بالسلاح. سيكون على السراج اجتياز الأسلاك الشائكة للجيش الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر، قبل أن يتمكن من الوصول إلى مقر البرلمان في طبرق للحصول على ثقة نوابه المتشككين، وهي خطوة ما زالت محفوفة بالمخاطر، وربما لن يحصل على الأغلبية النيابية المطلوبة، أي الثلثين زائد واحد. لكن هناك اتصالات من تحت الطاولة تشارك فيها أطراف إقليمية ودولية مع قيادات في الداخل الليبي، لحل هذه الإشكالية. أي يمكن حشد مزيد من الأصوات اللازمة.
إذا تمكن فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي والحكومة التوافقية، من المرور بفريقه الرئاسي والحكومي، من أنفاق جنرالات الجيش ومن أروقة التربيطات السياسية في شرق البلاد، والحصول على تصديق البرلمان، فسيتحتم عليه أن يبدأ في اجتياز المرحلة الثانية في الغرب الليبي. وهذه مهمة تتطلب منه العبور من بوابات قادة الميليشيات و«أمراء الحرب» في طرابلس المنقسمة على نفسها عسكريا وسياسيا. ففي العاصمة ولد السراج عام 1960. وفي العاصمة عليه، اليوم، أن يبدأ العمل لمرحلة جديدة في تاريخ الليبيين.
ينتمي السراج لعائلة طرابلسية عريقة ومحافظة أثَّرت على نشأته الهادئة ومسيرته السلسة، لدرجة تجعل من السهل على خصومه من الليبراليين والمتطرفين أن يلمحوا إلى ميله إلى نهج جماعة الإخوان المسلمين، خاصة فيما يتعلق بـ«التكتم» و«المناورة». ويوجد شبه إجماع من عدد من زملائه في البرلمان، الذي يشغل عضويته منذ انتخابه في صيف العام الماضي، على أن والده، مصطفى فوزي السراج، كان يهوى العمل في الإذاعة، وأن الفترات المجهولة التي جلس فيها خلف الميكروفون كانت من خلال إذاعات رصينة وجادة مثل إذاعة صوت الوطن الليبية وصوت العرب المصرية.
الوالد انخرط في شبابه في الزخم القومي الذي كانت تعيش فيه المنطقة، خاصة بعد صعود جمال عبد الناصر على رأس السلطة في القاهرة، وانشغال الليبيين بتأسيس دولة الاستقلال ووضع الدستور الجديد للبلاد في بداية الخمسينات. وشغل الأب عضوية مجلس النواب ومواقع وزارية خلال العهد الملكي. ويُعدّ، باختصار، من المؤسسين لدولة ما بعد الاحتلال الأجنبي. لكن الابن، فايز السراج، بدأ يعي منعطفات الحياة مع بداية تولي القذافي الحكم عام 1969. أي حين كان عمره تسع سنوات.
وعلى عكس الكثير من الشخصيات السياسية «التقدمية» و«الإخوانية» و«الجهادية» ذات التاريخ المشاغب مع القذافي طيلة العقود الأربعة الماضية، وهي الشخصيات التي تملأ المشهد الليبي اليوم، لم يكن لفايز السراج «مشاغبات» تذكر. ربما الأمر يرجع إلى قدرته على الصمت لأطول وقت ممكن. على أي حال تمكن الرجل من اجتياز فترة الدراسة الجامعية في كلية الهندسة (قسم العمارة) في طرابلس عام 1982. بينما كانت أجهزة القذافي الأمنية تفتش في ذلك الوقت عن المعارضين، وراء كل جدار. ثم استكمل دراسة الماجستير (في إدارة الأعمال) عام 1999 في وقت كان فيه النظام يخضع لعقوبات دولية وقد ازداد تطيرا من أي انتقاد داخلي.
حتى قيام «ثورة» 17 فبراير 2011. لم يكن اسم السراج ظاهرا على قوائم رجال السياسة والنقد. كان يبدو كمن يضع مسافة بينه وبين الآخرين سواء في السلطة أو في جبهة المعارضة. عمله في صندوق الضمان الاجتماعي في طرابلس، كان يحتم عليه التواجد في أماكن لا تتماس بشكل مباشر مع عالم السياسة أو مع أهل الحكم، ناهيك عن المعارضة. ولذلك من السهل أن تسمع من منتقدي تكليفه بالحكومة، سؤالا يقول: ومن هو السراج؟ ما تاريخه؟ إنه صفحة بيضاء.
بينما يجيب مؤيدو الرجل أن هذه ميزة في حد ذاتها، في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها ليبيا. فالقول بعدم انتمائه لأي فصيل هو أمر مطلوب، أضف إلى ذلك أنه قادم من أسرة سياسية معروفة، ونسيب لعائلة تاريخية معتبرة من مدينة مصراتة.. عائلة لها قادة يمكن أن يكون لهم كلمة على جماعة الإخوان التي تهيمن على قسم من العاصمة.
حسنا.. لكن هل هذا يكفي. ومن سيفرش البساط للسراج ويستقبله في طبرق ثم في طرابلس دون مناوشات عسكرية وميليشياوية؟ فزعماء الكتل السياسية والقبلية والدينية والجهوية، يبدو أن كلا منهم يريد، حتى الآن، أن يثبت أنه هو الأحق باعتلاء رأس السلطة بعد سنين طويلة من المنافي والسجون والعذاب.
يتساءل أحد قيادات البرلمان: كيف لم نتنبه إلى السراج وهو يسعى بيننا في هدوء وفي صمت؟ أعتقد أن المبعوث الأممي السابق، برناردينو ليون، هو من اختاره في المرة الأولى (أي حين جرى الإعلان عن اسمه في الصخيرات قبل 50 يوما، كرئيس للحكومة) ثم جاء المبعوث الجديد، مارتن كوبلر، وأعلن الاسم نفسه. كانت توجد مفاوضات مع الرجل لا نعلم عنها شيئا.
الأسماء التي جرى تقديمها للبعثة الأممية لاختيار رئيس لحكومة توافق، لم يكن من بينها اسم السراج. لا كمقترح من البرلمان ولا من المؤتمر الوطني. ويعلق أحد زملاء السراج في البرلمان: حين بدأنا في تدوين الأسماء لتقديمها للسيد ليون، عرضنا على السراج أن نضع اسمه في القائمة، لكنه رفض. كنا نرى أنه اسم مناسب لأنه، كنائب في البرلمان، ليس له خصوم، ويحتفظ بعلاقات حسنة مع الجميع. هو قليل الكلام. لكن باختصار اختياره جرى من وراء ظهر البرلمان، وهذا أمر مستفز.
تركيا وقطر والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإيطاليا ومصر وغيرها من بلدان، رحبت بـ«اتفاق الصخيرات» وبرئاسة السراج للحكومة المقترحة وللمجلس الرئاسي. لكن البعض في ليبيا يرى الصورة من منظور مختلف. يشير إلى حضور ممثلي دول بعينها لمراسم الاتفاق في الصخيرات (بالمغرب)، وكيف أنهم كانوا متحمسين وهم يلقون بالكلمات في ختام المفاوضات كأنه انتصار لتلك الدول. لا يخفى على أحد أن السلطات الشرعية في ليبيا ممثلة في البرلمان والجيش، تتهم بعض البلدان بدعم كتلة «جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة» في مصراتة وطرابلس وبنغازي.
إلا أن ما تحقق في الاتفاق وما جاء من أسماء مقترحة فيه، جعل «الجماعة الليبية المقاتلة» تشعر بالغضب، على عكس جماعة الإخوان التي سيّرت مظاهرات في بعض البلدات، خاصة في مصراتة، للترحيب بحكومة السراج. إحدى الأوراق الرابحة في يد رئيس الوزراء المقترح هو قريبه ابن مصراتة المقتدر، عبد الرحمن السويحلي. هذا الرجل لديه كلمة على عدد من قادة الإخوان. ولهذا تتجه الأنظار إلى ما يمكن أن يقوم به للاشتراك في تمهيد الطريق للمرحلة الجديدة.
هذا قد يسهم في ترطيب أفكار «أمراء الحرب» المتشددين في العاصمة، لكنه قد يؤدي أيضا لإشعال حروب شوارع بين كتائب وميليشيات طرابلس. لديك صنفان يرتدي كل منهما ملابس القتال في العاصمة. كانا شركاء حتى شهور قليلة مضت. والجديد أنه منذ «اتفاق الصخيرات» يحشو كل منهما الرصاص على عجل استعدادا لمواجهة الآخر. إنهما الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة.
تنقسم التيارات الفاعلة على الأرض والموجودة في ليبيا اليوم إلى ثلاثة، كان أغلب قادتها يعملون من المنفى خلال حقبة القذافي. كان لها بطبيعة الحال خلايا في الداخل تقوم بضربات خاطفة ضد السلطة بين حين وآخر طيلة عقود. هذه التيارات هي الإخوان، والجماعة الليبية المقاتلة، والمجموعات الليبرالية المدنية. كانت تتعاون بطرق مختلفة في الداخل والخارج. ولم يكن السراج من بينها وفقا لإفادات من زملاء له في البرلمان. لذلك يعتقد أن الخلاف لن يكون حول السراج ولكن حول من يمكن أن يعتمد عليه السراج في ممارسة عمله التنفيذي.
من الشخصيات المشهورة في التيارات التي كانت مناوئة للقذافي وعادت بعد «الثورة»، محمد المقريف الذي انشق منذ وقت مبكر عن النظام، أي حين كان سفيرا لبلاده في الهند عام 1980، وحفتر الذي انضم للمعارضة في الخارج عقب خروجه من الأسر في حرب تشاد، في أواخر الثمانينات. ثم هناك الورثة السياسيون لمنصور الكيخيا الذي يعتقد أن القذافي اختطفه أثناء مشاركته في أحد الاجتماعات في القاهرة في أواخر التسعينات. الكيخيا اختفى للأبد.. توفي، وترك خلفه حزبا سياسيا له نواب يمثلونه اليوم في البرلمان، بالإضافة إلى أسماء أخرى من تلك التي كانت «تجاهد» في جبال آسيا. مثل هذه الأطراف المتمرسة على المناورات يقف أغلبها حتى الآن ضد نتيجة الصخيرات.
الزيارات التي يقوم بها السراج في عدة عواصم خاصة لدول جوار ليبيا، كتونس ومصر، تهدف إلى إيجاد صيغة للتفاهم مع رجالات البرلمان والحكومة الحالية المنبثقة عنه، برئاسة عبد الله الثني، ومع المؤتمر الوطني العام (البرلمان المنتهية ولايته) وحكومته التي يرأسها خليفة الغويل، ومع الجيش والميليشيات. كل ذلك لتجنب فشل الصيغة التي خرج بها مؤتمر الصخيرات يوم 17 الشهر الماضي. هذه التكتلات أعلنت رفض الاقتراح الأممي لاسم السراج وفريقه، باستثناء مجموعات مسلحة محسوبة على الإخوان خاصة في مصراتة، وباستثناء عدة نواب يفتقرون لقوة فاعلة على الأرض.
رغم كل شيء تمكن السراج من تحقيق تفاهمات جيدة يمكن البناء عليها بعد مرور نحو عشرة أيام من الاتفاق. هذا مع الوضع في الاعتبار عدم وضوح موقف حكومته المقترحة من قائد الجيش حفتر. وهذا يأتي بينما يقوم الخصمان السياسيان اللدودان، رئيس البرلمان عقيلة صالح، ورئيس المؤتمر الوطني نوري أبو سهمين، بالتعاون سويا لأول مرة ضد الصخيرات. قام كل منهما بالاستنجاد بروسيا ودول أخرى للوقوف ضد «الضغط الغربي الذي يفرض حكومة السراج ومجلسها الرئاسي على الليبيين».
دع الجيش وقائده جانبا، وانظر إلى المشكلة الكبيرة التي ستواجه السراج، إنها، مرة أخرى: «الجماعة الليبية المقاتلة» التي كونها قادة من «المجاهدين» السابقين في آسيا في أواخر الثمانينات، ويترأس زعماء هذه الجماعة كتائب وميليشيات مسلحة، أصبحت تتحكم في طرابلس منذ سقوط القذافي. ويسعى المسؤول الأمني في البعثة الأممية الخاصة بليبيا، وهو الجنرال الإيطالي باولو سيرا، للتواصل مع قادة المسلحين في طرابلس عبر وسطاء من العسكريين الليبيين، من بينهم جنرال سابق في جيش القذافي، في سبيل تمكين السراج من دخول طرابلس.
مطلوب من السراج أن يعمل على خريطة مزقتها أربع سنوات من الخلافات. ففي هذه المدة القصيرة مر على ليبيا أشكال متعددة من طرق الحكم والإدارة، بدأت بالمجلس الانتقالي، ثم المؤتمر الوطني، وأخيرا مجلس النواب (البرلمان). كما ترأس موقع رئيس الحكومة، منذ 2011، محمود جبريل ثم عبد الرحيم الكيب، وعلي زيدان. وحين وقع الانقسام بين الفرقاء أصبح يتنازع على السلطة حكومة الثني في الشرق وحكومة عمر الحاسي ثم الغويل، في الغرب. وكل طرف من معظم هذه الأطراف ما زال لديه ولدى أنصاره طموح للبقاء في المشهد إلى النهاية.
كما قال كوبلر والمتكلمين في اجتماعات مجلس الأمن الأخيرة حول ليبيا، فإن هذا البلد الغارق في الفوضى يحتاج، على رأس أولوياته، البدء بالملف الأمني. هناك «داعش» الآخذ في الانتشار في مناطق مهمة في البلاد، وهناك متطرفون آخرون وقطاع طرق ولصوص مدججون بالأسلحة. حتى السراج ذكر ذلك في كلماته القليلة التي وجهها للشعب الليبي في اليومين الماضيين. والمشكلة أن السراج لم يعرف عنه أنه تمرّس في التعاطي مع ألاعيب الجماعات المسلحة. فقد أمضى جل حياته في العمل المدني وهندسة المرافق وتخطيط المشاريع، سواء كانت حكومية أو خاصة، ولا يحبذ الاقتتال.
يقول السراج في كلمته لليبيين: لن تكون بعد اليوم حرب. انتهى زمن الحروب والاستقطاب بين الإخوة. لن أسعى لاستخدام القوة أو التلويح بها. شعاري تعالوا نعمل فسيرى الله عملنا والمؤمنون. لن أهدد ولن أقصي. أمامي لاجئون في الداخل والخارج. أمامي اقتصاد منهار، وارتفاع في الأسعار. أمامي أمن وأمان مفقود. أمامي شعب سيحاسبني الله عليه يوم القيامة إذا أغفلت عن خدمتهم يومًا ما. أمامي مصالحة وحوار وحروب وفتن يجب أن تخمد فورًا. أمامي إرهاب وخطر التطرف ولن أقف صامتًا عنه.
فايز السراج.. محاولة جديدة لإنقاذ ليبيا
مهندس مهمته ترويض «أمراء الحرب»
فايز السراج.. محاولة جديدة لإنقاذ ليبيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة