لعقود طويلة ظلت مفردة الأجيال الأدبية هي السائدة في رصد وتصنيف المشهد الأدبي العراقي، والعربي أيضًا، شعراء وروائيين وكتاب قصة قصيرة. ودرج معظم النقاد ومؤرخو الأدب على التصنيف الجيلي عند دراسة الحقب التاريخية بحساب زمني بكل ما يحمله من ملامح وآثار.. فظهر لدينا أدباء ومثقفون ينتمون إلى جيل الخمسينات وجيل الستينات والسبعينات وهكذا، حتى جيل ما بعد عام 2000 الذي اختفى فيه ذلك التصنيف لأسباب شكلت جدلا هي الأخرى: قصور في النقد الأدبي؟ أم أن الأسماء التي ظهرت في العقدين الآخرين لم تملك ملامح مشتركة بحيث تستحق أن تنضوي تحت تسمية جيل؟
يقول الناقد الدكتور شجاع مسلم العاني: «مصطلح (جيل) قاصر أصلا كونه لا ينطبق بالذات على الأجيال كما يفهم من المصطلح، فمثلا أحدهم من جيل الستينات لكنه يكتب في السبعينات أو هو من جيل التسعينات ومتأثر بأجيال وأدب الستينات أو السبعينات في كتاباته». ويضيف: «التجييل بحسب رأيي غير كاف لتصنيف الأدب والأدباء، ويفترض أن يكون هناك تصنيف فني، أي ليس مرتبطًا بزمن، وهذا التصنيف يعد أكثر انطباقا على الواقع، فهناك أناس، مثلاً قلدوا السياب والبياتي ونازك إلى يومنا هذا، وقلدوا كتابة الستينات في الشعر الحر».
وعن الامتزاج بين الأجيال، يقول: «لعل الظروف السياسية بعد عام 2003 أظهرت الكثير من الأدباء والكتاب الذين كانوا يكتبون بأسماء مستعارة مثلا أو ينشرون في الخارج، فحصل تمازج واختلاط بالأجيال عندما عادت كتاباتهم لتظهر من جديد، وحصل مزج بين كتاب الخارج والداخل وكذلك الكتاب الكبار مع كتاب من الأجيال الجديدة الشابة، كل ذلك ألغى السمة الزمنية وجعلها أقرب للأجيال الفنية».
أما القاص والروائي عبد الستار البيضاني، فقال: «التجييل هو فعالية نقدية، يتصدى لها الناقد ولا يُسأل عنها المبدع، لذلك نشط تداول هذه المصطلحات مع نشاط النقد وتلاشى مع تلاشيه التدريجي. وكان ذروة ذلك النشاط في ستينات القرن الماضي، حيث سعى جيل الستينات الشعري والقصصي إلى تمييز نفسه عن جيل الرواد الشعري الذي حقق حضورا طاغيا عربيا وعالميا من خلال رموزه الكبيرة مثل السياب والملائكة والبياتي والحيدري، وفي القصة عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، ولأن (جيل الستينات) هو أكثر الأجيال الذي ولد ومعه ولد أكبر عدد من النقاد الذين روجوا له وحاولوا تمييزه بإطلاق مصطلح (جيل) عليه، ولأنهم لم يجدوا أي ملمح فني يميزه عن الجيل الذي سبقه لجأوا إلى التجييل الزمني، أي اعتماد الاصطلاح الزمني العقدي، فكان مصطلح جيل الستينات وبعده جيل السبعينات والثمانينات، لكن التجييل الزمني تلاشى في التسعينات، وبهذا المعنى أرى أن التجييل الزمني أكذوبة أطلقها نقاد (الستينات) وصدقوها، وعندما انتهى مفعول هذه الأكذوبة بعد الثمانينيات، انتهى المصطلح ولم يعد له وجود، خصوصا أن الأسماء اللاحقة ولدت ولم تتابعها أو يرافقها نقاد يتابعونها.
وأضاف البيضاني: «ثمة أمر آخر ينبغي عدم إهماله، ألا وهو أننا يمكن أن نعدد الكثير من الأسماء الجديدة، لكن من الصعب علينا أن نتذكر نتاجاتها، أي حضور الاسم أكثر من حضور الإبداع وهذا يؤشر إلى غلبة العامل الاجتماعي على الإبداعي على عكس ما كنا نراه في العقود الماضية».
وختم كلامه بالقول: «ثمة عامل آخر يجب أخذه بنظر الاعتبار، وأعني بذلك هيمنة الميديا على الحياة، وتعدد المنابر والصحف وسهولة النشر والطبع من دون رقابة أو تقييم رصين جعل من الصعوبة متابعة كل ما ينشر وتفحصه، لكن مع ذلك الأمر برمته يشي بضعف النقد العراقي سواء باجتراح المصطلح قبل عقود أو بغيابه في العقدين الأخيرين».
القاصة والروائية ميسلون هادي، استبعدت أن تكون ظاهرة الأجيال مرتبطة اصطلاحيًا بحقبة زمنية معينة (خمسينات ستينات سبعينات)، فهناك مصطلح الجيل الضائع، وهو الجيل الذي ارتبط اسمه بما بعد الحرب العالمية الأولى وما تلاها من ضياع واغتراب..وكان ممن ضمهم هذا الجيل آرنست هيمنغواي وسكوت فيتزغيرالد. وهناك أيضًا هناك جماعة أبولو في مصر والتي ضمت شعراء الوجدان والرومانسية في الوطن العربي، وجماعة كركوك في العراق، والتي شكلت تيارًا ثقافيًا وشعريًا مهمًا منذ بدايتها، وضمت بشكل أساسي: جليل القيسي، وجان دمو، ومؤيد الراوي، وفاضل العزاوي، وسركون بولص، وأنور الغساني، وصلاح فائق، ويوسف الحيدري، والأب يوسف سعيد وآخرين».
وتضيف: «أما ظاهرة الأجيال التي ارتبطت بحقب زمنية معينة، والتي ميزت المشهد الثقافي العراقي للقرن الماضي، فكانت تعبر عن سمات مشتركة لكل جيل من الأجيال الأدبية، وهذا الجيل بدوره كان يعبر عن مدرسة في الكتابة هي خلاصة وانعكاس لمجمل التوجهات السياسية والفكرية التي تميز تلك الحقبة الزمنية، وأشهر تلك الأجيال العراقية الجيل الخمسيني في السرد، والستيني في الشعر والقصة، ثم شعراء القلق السبعيني.. كما كانت توجد عوامل مشتركة ومتوارثة بين جيل وآخر، ولكنها كانت واضحة في القصة والرواية أكثر، أما في الشعر فهناك قطيعة بين بعض الأجيال بسبب ما يمكن أن نسميه التمرد أو التنافس وأحيانًا اختلاف نظرة كل جيل إلى طبيعة الشعر الذي يكتبه الجيل الآخر.. فبرزت أكثر من إشكالية بين شعراء السبعينات وشعراء الستينات وبين الأخير وجيل الرواد، وليؤكد ذلك كله أن تلك الأجيال كانت تشكل ظواهر مهمة ومدارس أدبية راسخة في الأدب العراقي.. الآن وفي الألفية الثالثة اختفت ظاهرة الأجيال، وحلت محلها ظاهرة التواقيع، حيث يكاد يشكل كل كاتب بصمة خاصة تميزه عن باقي أبناء جيله.. وهذا التنوع يعبر عن حالة العصر الذي نعيشه وأهم سماته التشتت والعزلة والاغتراب.
أما الشاعر عارف الساعدي، فيرى أن تسمية الأجيال بقيت تستخدم حتى الجيل التسعيني. وقد بدأها الجيل الستيني ذلك لتمايزه عن جيل الريادة، وقد حدد بعشر سنوات، علما أن هذا التحديد زمني أكثر منه تحديدا فنيًا لأن الذي سيبقى بالتالي هو السمات الفنية التي تربط مجموعة من المبدعين شعراء أو رسامين أو أي شكل آخر. ونلاحظ أن الشعراء هم الأكثر صخبا في قضية الأجيال.
ويضيف: «بقي الشعراء منذ الستينات وحتى التسعينات يحاولون أن يختلفوا عن الجيل الذي يسبقهم والاختلاف الأول هو في التسمية الزمنية: ستينات أو سبعينات ثمانينات وتسعينات. ويبدو ان هذا السجع قد انكسر من حيث التسمية بدخول الألفية الثانية فماذا نسمي الجيل الذي جاء بعد التسعينات؟
ويعتقد الساعدي أن «قضية الأجيال ارتبطت بظواهر فنية وريادية كما أنها جزء من الدائرة الآيديولوجية، فأغلب أبناء تلك الأجيال هم خارجون من الزمن الآيديولوجي الذي يبحث عن المنافسة وقتل الآخر ولو كان قتلا رمزيا».
وعزا أسباب غياب التجييل الآن في الأدب إلى غزو التقنيات الذي لم يترك مجالا للشعراء أو الأدباء في تأسيس مؤسسات أو ملتقيات أو حركات أدبية ناضجة لها أسسها ودوافعها.
أدباء عراقيون: «التجييل» أكذوبة أطلقها نقاد الستينات.. وصدقوها
لاحظوا غياب ظاهرة الأجيال الأدبية في العقدين الأخيرين
أدباء عراقيون: «التجييل» أكذوبة أطلقها نقاد الستينات.. وصدقوها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة