مثل مهرجانات برلين وكان وصندانس وبضع محطات سينمائية أخرى، يشغل مهرجان دبي بال العاملين في الحقل السينمائي كموقع للتواصل خصوصًا للذين يسعون للحصول على دعم أو بيع منتجات جاهزة أو مشاريع مستقبلية.
تجد صانعي الأفلام الذين حضروا متأبطين مشاريعهم الجاهزة للتصوير أو المكتوبة كسيناريوهات وهم ينتقلون بهمّـة ونشاط، خصوصًا في الأيام الأولى من المهرجان وأيامه الأخيرة. البحث مضنٍ عن جهات دعم ومحطات تلفزيونية قد تشارك والنجاح محدود في النهاية. حسب أحد المنتجين الإماراتيين فإن «الجهات الموكلة بالدعم لا تمنح ما يكفي. عليك أن تنتقل من واحدة إلى أخرى لأن ميزانيّـتك لن تقل عن مليون درهم (نحو 360 ألف دولار) واستئجار المعدات مكلف. لذلك لا يمكن للمنتج أو للمخرج التأكد من موعد البدء بمشروعه أو تقديم فيلم جديد له».
في عداد الآتين إلى المهرجان الإماراتي في دورته الثانية عشرة التي ستختتم أعمالها ليل السادس عشر من هذا الشهر، المخرج العراقي عتيبة الجنابي الذي كان قدّم قبل خمس سنوات فيلمه الجيد «الرحيل من بغداد» ومن يومها وهو يحضر لفيلمه التالي «شتاء داود». يقول:
«يمضي المخرج العربي معظم وقته وهو ينتقل من مهرجان لآخر سعيًا لإتمام صفقات التمويل. ليست هناك من جهة واحدة داعمة بالكامل. النتيجة هي أن كلما حصلت على دعم معيّـن سددت بعض الثغرة في الميزانية. وهذا ليس وضعي أنا وحدي. كلنا هكذا».
* المهمّـة الصعبة
حال البعض أفضل من حال البعض الآخر. صانعو الأفلام في مصر والمغرب على طريقين: واحد متيسر إذا ما كانوا راضين بالمشاريع الجماهيرية المحضة والترفيهية التي تؤمن رضى الجمهور الكبير، أو في المعاناة ذاتها إذا ما كانوا من النوع الذي يريد ترك بصمة مهمّـة في مسيرتهم. هذا النطاق الثاني لا يعرف سنًا أو جيلاً، بل يعرف اختلاف الوجهات وينتظر من المخرجين المستقلين والمختلفين عن السائد تقديم تنازلات. هذا ما حدا بالكثير من المخرجين البارزين في مصر، مثلاً، للانحسار باكرًا وبينهم الراحلان رأفت الميهي وسعيد مرزوق. ويتناول الاضطرار للنزوح بعيدًا عن العين والعمل بشير الديك وخيري بشارة وعلي بدرخان وبعض نجوم الإخراج في حقبة سابقة. ويؤكد محمد خان أنه لو لم يرض التخلي عن نصف أجره والدخول بنصفه الآخر كشريك في الإنتاج لما تم تحقيق فيلمه الجديد «قبل زحمة الصيف».
رد الفعل على «قبل زحمة الصيف» يختلف باختلاف من تسأله. هو جيد لدى البعض بسبب السلاسة التي حقق بها المخرج خان هذا الفيلم ونسبة للتغيير الذي عرّض المخرج نفسه له فالفيلم بعيد عن شوارع القاهرة والمدينة ومواضيعها المستفيدة من أزماتها، ومنتقل إلى حيث الساحل الرحب والمواضيع الإنسانية البسيطة المتعاملة مباشرة مع العاطفة.
بالنسبة للإنتاج الإماراتي المحلي (هناك نسبة كبيرة من الإنتاجات المشتركة يقوم بها صندوق «سند» في أبوظبي وصندوق «إنجاز» في دبي) فإن النسبة الكبيرة من الأفلام الروائية المعروضة (ستّـة أفلام في ثلاث تظاهرات والكثير من الأفلام القصيرة) ستحاول بعد المهرجان أن تدلف إلى أنابيب التوزيع.
«هذه هي المهمّـة الأصعب بالنسبة للأفلام الإماراتية»، يقول سامر المرزوقي الذي يرأس «سوق دبي السينمائية» في حديث لـ«الشرق الأوسط» مضيفًا: «نواجه دوما معضلة اسمها: أين تذهب الأفلام الإماراتية بعد عرضها في مهرجان دبي. من ناحيتنا نحاول مد يد المساعدة إليها والقيام بترويجها بين الشركات الأجنبية والعالمية التي تحضر المهرجان علمًا بأن الأسواق العالمية تنتخب الأفلام العربية بأسرها تبعًا لاعتبارات تجارية».
لكن مشاكل التوزيع ليست خارجية فقط. في العام الماضي بيع «دلافين» لوليد الشحي، الذي خرج بجائزة أفضل فيلم إماراتي طويل لشركة توزيع. خطط لكي يعرض تجاريًا، لكن حسب علمنا لم يعرض. بالأمس تحدّث أحد المنتجين الإماراتيين لنا قائلاً بأن سبب عدم عرضه يعود لخلاف بين المنتجين وشركة التوزيع.
سابقًا عرضت أفلام إماراتية بنجاح ملحوظ في دولة الإمارات منها «دار الحي» لعلي مصطفى و«الدائرة» لنواف الجناحي. لكن هذا يبدو الآن كما لو حدث منذ سنوات وسنوات وليس قبل فترة زمنية ليست بعيدة.
* تسهيلات نموذجية
لكن كل ما سبق من صعوبات لم يمنع من توسع إنتاجي تحسد الإمارات عليه دول الجوار. وميزة المهرجان أنه في نهاية المطاف قادر على الجمع بين المحلي والعالمي في عروض متوازية تتيح للجميع من قاطني المدينة ودولة الإمارات التوقف عند آخر وبعض أفضل الأفلام التي تم إنتاجها.
ميزته أيضًا هو أن المتابع يقف عن تلك الإنتاجات العربية الجديدة التي بات المهرجان هو الاختيار الوحيد لها بهذه الكثافة. نعم، بعض الأفلام تعرض في القاهرة وبعض الأفلام تعرض في مراكش أو قرطاج، لكن دبي هو السقف الأكبر الذي تلتقي تحته.
هذه نهضة غير مسبوقة في أي مكان من العالم العربي، خصوصا أن مهرجان دبي لا يقف وحيدًا في إنجازاته. بسهولة يمكن النظر إلى ما يتم إنجازه وببراعة شديدة في مختلف ميادين السينما الأخرى. هناك استوديو دبي السينمائي الذي تم افتتاحه قبل أربعة أعوام وأخذ يستقبل على نحو، تحت إدارة رئيسه جمال الشريف، متزايد مشاريع عدّة تلفزيونية وسينمائية قادمة من هوليوود وبوليوود في الغالب وبعض مناطق الإنتاج الأخرى. وهو يقول لنا:
«ما نعد به هو خدمات متكاملة وسهولة في التعامل. من يحتاج إلى فيزا نصدرها له في 48 ساعة، ومن يحتاج لرخصة عمل لا يتطلب الحصول عليها لأكثر من ثلاثة أيام».
هذا نموذج من التعامل ليس سائدًا في معظم بلاد العرب خصوصًا في تلك التي تحتاجه أكثر من سواها كمصر التي يشكو الكثير من الأجانب الذين غامروا سابقًا بالتوجه إليها للتصوير من العراقيل البيروقراطية وتعدد المصادر التي قد تمنح أو لا تمنح أذونات التصوير.
هذه التسهيلات دفعت استوديوهات هوليوود للقدوم إلى دولة الإمارات مستفيدة أولاً من الأمان التام وثانيًا من وجود الأرضية المناسبة لتقديم الخدمات المختلفة فتم تصوير مشاهد عدة لثلاثة أفلام كبيرة هنا هي «سريع وغاضب 7» و«ستار ترك» و«ستار وورز: القوة تستيقظ» الذي سينطلق لعروض بحجم التسونامي في القريب العاجل.
أحد منتجي «ستار ترك»، وهو جفري شرنوف، سبق له أن جاء إلى دبي وصوّر فيها. ففي العام 2010 نقل نشاطه لنحو أسبوعين متعاقبين إلى دبي لتصوير ذلك الفصل الشهير من أحداث فيلم «المهمّـة: مستحيلة: بروتوكول شبح» بما فيها المشهد الذي يتدلّـى فيه توم كروز من أعالي برج خليفة. في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عاد إلى دبي وأمضى نحو أسبوعين آخرين لتصوير مشاهد من الفيلم الخيالي - العلمي «ستار ترك».
قبله بشهر واحد وصل المخرج ستانلي تونغ وقام بتصوير مشاهد عدّة من فيلمه «كونغ فو يوغا» بطولة تشارلي تشان. أمر يحسبه جمال الشريف بعناية ملاحظًا: «بدأنا بأحلام كبيرة حميناها بالسعي المخلص لكي نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم والطريق ما زال مفتوحا أمامنا للمزيد. لكن ما حققناه بسعينا لتصبح دولة الإمارات محطة مفضلة للأفلام التي تبحث عن أماكن تصوير خارجية رائع حتى الآن وقابل للزيادة».
* صحراء لوي أفضل من سواها
في العداد نفسه، وصل فريق تصوير الفيلم المقبل للممثل براد بت «آلة حرب» (يقوم بإنتاجه عبر شركته «بلان ب» (Plan B) الذي تقع أحداثه في أفغانستان. هناك بالقرب من مدينة أبوظبي، هناك صحراء اسمها «لوي» توجه فريق التصوير بقيادة المخرج ديفيد ميشو (صاحب «القرصان» في العام الماضي مع غاي بيرس) إليها للتصوير الذي لا يزال دائرًا للآن (معظم أحداث الفيلم خارجية).
هذا لم يكن من دون حوافز مهمّـة. المدير التنفيذي لمؤسسة «توفور تونتي فور» بول بايكر الذي كان سعى لقيام منتجي «ستار وورز» لاستخدام الصحراء نفسها قبل حين، اتصل، حسب ما ورد في مجلة «فاراياتي» مؤخرًا، بمنتجي «آلة حرب» وعرض عليهم الانتقال إلى إمارة أبوظبي لتصوير الفيلم لقاء الحوافز المالية التي تعرضها المؤسسة الحكومية الكبيرة في المقابل. ومع أن خطة الفيلم كانت التوجه إلى صحراء أخرى لتصوير هذه المشاهد، إلا أن الحوافز من جهة والتجربة السابقة لتصوير فيلم «ستار وورز» من ناحية أخرى دفعت بالمنتجين لاختيار أبوظبي دون سواها.
كل هذا نابع من حرص شديد على حسن التخطيط والتنفيذ ووضع الأشخاص الأكفاء في المناصب المهمّـة ووسط تنظيم إداري شامل لحكومات الإمارات التي لا تألو جهدًا في تنفيذ خطة إنمائية على جميع المرافق. وهذا ما يعيدنا إلى مهرجان دبي السينمائي الذي هو خطّـة ثابتة ضمن هذه الخطط.
مهرجان دبي ليس فقط استعراضا للأفلام، فهذا أضعف الإيمان بالفعل، بل جهد مثابر ودؤوب يستند إلى ذات المهام والخطط الثقافية والإدارية التي توليها الحكومة اهتمامها. والجميع داخل المهرجان تراهم يعملون في منظومة متكاملة.
بعد ذلك هو عرض لأهم وأفضل ما تم إنتاجه من أفلام عربية على كل صعيد. يستقطب الأفلام التي تتحدّث عن شخصيات أو عن تاريخ أو عن واقع حاصل وتمنحها الفرصة لعروض مكتظة ومتاحة (بعضها يتم على شاطئ المدينة مجانًا) وتمنح المشاهدين ما يبحثون عنه من مشاهدات ثرية.
مهرجان دبي حاضن العاملين في الحقل السينمائي
المخرجون العرب يتنقلون بين المهرجانات لإتمام صفقات التمويل لأفلامهم الجديدة
مهرجان دبي حاضن العاملين في الحقل السينمائي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة