باريس عاصمة التنوير العربي

رواد النهضة تخرجوا في جامعاتها ونقلوا آراء مفكريه للبلدان العربية

طه حسين و رفاعة الطهطاوي و محمد أركون و محمد عزيز الحبابي
طه حسين و رفاعة الطهطاوي و محمد أركون و محمد عزيز الحبابي
TT

باريس عاصمة التنوير العربي

طه حسين و رفاعة الطهطاوي و محمد أركون و محمد عزيز الحبابي
طه حسين و رفاعة الطهطاوي و محمد أركون و محمد عزيز الحبابي

أولا باريس هي عاصمة التنوير العالمي، فمنها انطلقت تلك الحركة الفكرية الشهيرة في القرن الثامن عشر على يد فولتير وروسو والموسوعيين، ثم استمرت في القرن التاسع عشر على يد إرنست رينان وفيكتور هوغو وميشليه وعشرات غيرهم، ثم ترسخت أكثر فأكثر في القرن العشرين على يد كوكبة من المفكرين ليس أقلهم دوركهايم وغاستون باشلار وهنري بيرغسون وبقية العباقرة. وعلى هذا النحو تم القضاء على الأصولية الكاثوليكية ومحاكم التفتيش والفكر المذهبي والطائفي القديم. على هذا النحو تم تدشين الأزمنة الحديثة: أي عصر حقوق الإنسان والمواطن والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات واحترام كرامتهم الإنسانية أيا تكن أصولهم العرقية أو الدينية أو المذهبية. فالدين لله والوطن للجميع. وكل إنسان يستحق أن يُحترم في إنسانيته أيا يكن بشرط أن يكون مستقيما، صالحا، أخلاقيا، في تعامله. الدين المعاملة. نقطة على السطر. ما معنى شخص غشاش من جماعتنا؟ هل ينبغي أن نفضله على الآخر لمجرد أنه ينتمي إلى ديننا ومذهبنا؟ هنا يكمن الفرق بين العصور الوسطى / والأزمنة الحديثة. ولهذا السبب تقدموا وتأخرنا. فهم يضعون الإنسان المناسب في المكان المناسب ويحترمون الكفاءات والميزات الشخصية للفرد. ولا يقيمونه على أساس طائفي أو عشائري كما تفعل مجتمعات ما قبل الحداثة. وبالتالي فممنوع منذ الآن فصاعدا إثارة النعرات الطائفية بين المواطنين وتخريب الوحدة الوطنية للبلاد. وهذا ما يبرع به الأصوليون المتعصبون من كل الأديان والمذاهب. لقد ضربت حركة التنوير الفرنسي على أيديهم وأوقفتهم عند حدهم. ولذلك يكره الأصوليون فرنسا وأنوارها كرها شديدا. فبما أن التنوير الفرنسي نجح وترسخ، بل وانتقل بإشعاعه إلى دول أوروبا الأخرى ثم إلى كثير من دول العالم خارج أوروبا، فقد شعر الفكر الأصولي الطائفي المتعصب بأن نيران الحداثة قد تنتقل إليه لاحقا وتقضي عليه أو تهمشه على الأقل. ينبغي العلم بأن المستبد المستنير فريدريك الكبير ملك بروسيا، أي ألمانيا لاحقا، كان يتحدث في بلاطه باللغة الفرنسية. لماذا؟ لأنها كانت تعتبر لغة العلم والثقافة والفكر في كل أنحاء أوروبا آنذاك. بعدئذ حلت محلها اللغة الإنجليزية في عصرنا الراهن. وكان يستقبل في بلاطه كل فلاسفة فرنسا المطرودين من قبل الملك الأصولي الظلامي لويس الخامس عشر. وكان يعتبر فولتير صديقه وأستاذه. نعم، هناك ملوك يهتمون بالثقافة، بالفلسفة والفلاسفة! وأما كاترين الثانية إمبراطورة روسيا فكانت تعتبر التنوير الفرنسي أيضًا شعلة الفكر والحضارة. ولذلك دعت كبار فلاسفة الأنوار لزيارتها ومساعدتها على انتشال روسيا من الجهل وظلاميات القرون الوسطى. ولكن فولتير اعتذر نظرا لكبر سنه وشيخوخته. أما ديدرو فقد قبل الدعوة وذهب إلى هناك وخطط لمشروع التنوير الروسي وكيفية النهوض ببرامج التعليم هناك. ومعلوم أن الإمبراطورة أغدقت عليه بالعطاء مقابل خدماته الفكرية الجليلة وإضاءة الطريق لروسيا.
لكن باريس ليست فقط عاصمة التنوير الفرنسي والأوروبي وإنما هي أيضًا عاصمة التنوير العربي! ينبغي ألا ننسى ذلك. فرفاعة رافع الطهطاوي مدشن النهضة المصرية الحديثة تخرج من هناك. وكتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» كان إنجيل النهضة والنهضويين. ومعلوم أنه أقنع محمد علي بفتح «مدرسة الألسن» لنقل الفكر الفرنسي والأنوار الفرنسية إلى اللغة العربية. وهذا ما فعله لاحقا طه حسين الذي تخرج من باريس أيضا. فقد ساهم بأسلوبه الممتع الذي لا يضاهى في التعريف بتيارات الفكر الفرنسي. وكان كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» إنجيل الحداثة المصرية والعربية لفترة طويلة. وفي عصرنا الحالي يمكن اعتبار محمد أركون بمثابة المنارة الثالثة للتنوير العربي. نقول ذلك وبخاصة أنه ذهب بعيدا أكثر في نقد الجمود الديني المهيمن على العالم الإسلامي. من هذه الناحية لا يمكن مقارنة الشيخ رفاعة به ولا حتى طه حسين. فالأسئلة التي طرحها على التراث الإسلامي كانت أكثر راديكالية بما لا يقاس. والمناهج الحديثة التي طبقها على تراثنا الديني العريق أدت إلى إضاءته بشكل غير مسبوق. لقد فتح محمد أركون ثغرة في جدار التاريخ المسدود للعرب والمسلمين ككل. ولولا أنه بقي في باريس بعد تخرجه وأصبح أستاذا في السوربون لما تجرأ على الانخراط في أبحاثه الرائدة التي توجت بنقد العقل الإسلامي التقليدي وتفكيك السياجات الدوغمائية المغلقة والسجون الطائفية لعقلية القرون الوسطى. وهو يعترف شخصيا بأنه نتاج المدرسة الفرنسية وبالأخص «مدرسة الحوليات» التاريخية الشهيرة وكل التجديد الذي حصل في الساحة الباريسية إبان الستينات والسبعينات من القرن المنصرم. كانت باريس وقتها مركز العالم من حيث ازدهار النظريات الحديثة في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية. يكفي أن نذكر اسم بروديل أو جورج دوبي أو جاك لوغوف لكي نتأكد من ذلك. وهم من كبار مؤرخي فرنسا، بل وراح مفكروها يهيمنون على الجامعات الأميركية ذاتها. وليس محمد أركون هو المثقف الوحيد الذي تأثر بالأنوار الفرنسية وإنما عشرات المثقفين من مشرق العالم العربي ومغربه. تقريبا لا يوجد مثقف واحد أو أديب واحد عندنا إلا وهو متأثر بشكل أو بآخر بالأفكار الفرنسية سواء على الطريقة الديكارتية أو الظاهراتية أو السريالية أو الوجودية أو البنيوية أو ما بعد البنيوية. هذا لا يعني أنه لا يوجد تأثير أنغلو - ساكسوني قادم من لندن أو نيويورك وواشنطن وهارفارد وبوسطن... إلخ. لا أريد المبالغة. هناك مصدران خارجيان لفكرنا الحديث، لا مصدر واحد. ولكن يظل لباريس وهجها أو سحرها الخاص، بل وحتى في ما يخص الفكر الديني فإن المفكر المغربي محمد العزيز الحبابي أسس الفلسفة الشخصانية الإسلامية على غرار الشخصانية المسيحية لإيمانويل مونييه وجماعته. وهي مدرسة هدفت إلى مصالحة المسيحية في نسختها الكاثوليكية مع الحداثة، فقد رفضت الإلحاد على الطريقة السارترية وفضلت عدم الخروج كليا على دين فرنسا وتراثها العريق. إنها طريق وسط بين الأصولية والإلحاد. وهو طريق محترم ويستحق الاهتمام. فليس من الضروري أن تكون ملحدا لكي تكون فيلسوفا حداثيا عظيما! وعلى أي حال فمن منا لم يسمع بأسماء ميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل ديلوز وبيير بورديو؟ هذا ناهيك بجان بول سارتر وكلود ليفي سترس وسيمون دوبوفوار، هذا ناهيك بالفيلسوف المتدين الرائع بول ريكور، ولا ننسى الفيلسوف غير المتدين ولكن الرائع أيضا لوك فيري، وناهيك أيضا بالأدباء الكبار من أمثال أندريه بريتون ورينيه شار وأراغون وألبير كامو وجان جنيه... إلخ، إلخ. وعموما هناك جو معين منبث في باريس ما إن تدخلها، جو لا تعرف ما هو بالضبط، جو محبب خفيف ظريف يمكن تلخيصه بكلمة واحدة: الحرية. وأعتقد أن أدونيس كتب ديوانه الشهير «أغاني مهيار الدمشقي» في باريس مطلع الستينات. وهو الديوان المؤسس للحداثة الشعرية العربية ولا يقل خطورة أو انفجارا وتفجيرا عن «فصل في الجحيم» لرامبو. ولا ننسى أنه من بين كل عواصم أوروبا لا يوجد شيء اسمه «معهد العالم العربي» إلا في باريس. وقد أصبح صرحا من صروحها الشامخة على نهر السين تماما ككاتدرائية نوتردام أو مركز جورج بومبيدو الأشبه به. وقد أسهم معهد العالم العربي كثيرا في التعريف بلغتنا وآدابنا وثقافتنا إضافة إلى الفن التشكيلي العربي والسينما العربية والموسيقى العربية وفن العمارة العربية... إلخ. كل هذا من خصوصيات باريس، من نكهة باريس التي لا تضاهى.
والآن يجيء هؤلاء الوحوش لكي يصوبوا نيران الكلاشنيكوف على الناس بشكل عشوائي في الشوارع والمقاهي والمسارح فيقتلوا ويجرحوا المئات في ظرف دقائق معدودات. وهم يعتقدون بذلك أنهم قضوا على باريس وأنوارها، بل وخدموا قضية الإسلام والعرب!! ولكنهم واهمون، ضالون مضللون، بل ومستلبون عقليا. وعلى أي حال فأنوار الحضارة ستظل مشعة وستكون باريس مقبرة للظلامية والظلاميين.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.