في التاسعة والنصف من صباح أمس كانت الأرصفة الطويلة المحاذية لمتجر «غاليري لافاييت» في حي الأبرا، مشغولة بالناس الذين جاءوا مع أطفالهم لرؤية الواجهات المزينة وهم يرفعون رؤوسهم لتأمل السقف الواقي من المطر الذي غطته زينة بديعة من الأغصان والأضواء ذات الألوان الذهبية والحمراء. وفي داخل المتجر المؤلف من عدة طوابق ومبان الذي يعتبر أبرز معالم التسوق في باريس، كان سياح من مختلف الجنسيات يشهقون من الإعجاب وهم يشاهدون شجرة الميلاد بكراتها الذهبية التي انتصبت وسط المكان، تحت قبة هذا القصر التاريخي الذي يحيل إلى أزمنة العز والازدهار.
«الشرق الأوسط» التي تجولت في عدد من أحياء باريس خلال اليومين الماضيين لاحظت أن هناك حراسًا يتولون تفتيش حقائب النساء عند مداخل المتاجر الكبيرة. أما «غاليري لافاييت» فقد استخدم الحراس فيه جهازًا يكشف عن المواد المتفجرة وكأنهم في المطار على أبواب الدخول إلى الطائرات. وكان الحراس يطلبون من الزبائن كشف معاطفهم وستراتهم للتأكد من أن أحدًا لا يحمل سلاحًا أو حزامًا مشبوهًا. وبدا الارتياح على وجوه مرتادي الأسواق لتلك الإجراءات الأمنية غير المعتادة ومع هذا فقد كان هناك من يستسلم للتفتيش وهو يبتسم ساخرًا ولسان حاله يقول: «ما فائدة هذه الشكليات؟». ثم يتوجه المتسوقون نحو الأدراج الكهربائية المتحركة ويقصدون طوابق بيع ثياب السهرة أو ألعاب الأطفال ويقفون في الصف لكي يسددوا أثمان مشترياتهم والهدايا التي اختاروها لأبنائهم ويخرجون والأيدي محملة بالأكياس وكأن العيد لا يعرف مفردة الإرهاب.
يتصور المرء أنه سينعم بساعة من التسوق الهادي ويستغل خفة الحركة بسبب خوف الباريسيين وتفضيلهم البقاء في شققهم على النزول إلى أماكن التجمعات والتعرض لهجمات مسلحة محتملة، لكنه يفاجأ بالزحام المعتاد في مثل هذا الموسم من السنة وكأن الإرهاب لم يمر قريبًا من هنا قبل أسبوعين ويخلف عشرات الضحايا. هذا يعني أن قنوات التلفزيون المحلية لا تزور الواقع حين تستوقف المارة وتسألهم عن معنوياتهم فيردون بأن الخطر يمكن أن يكمن في كل الزوايا لكنه لن يثنيهم عن مواصلة الحياة. «لا في كونتينو». أي أن الحياة تستمر. عبارة تسمعها عشرات المرات في اليوم وكأنها شعار الفرنسيين في الأزمات والشدائد.
ظهيرة السبت الماضي، وفي مفرق «لا موت بيكيه» في الدائرة الخامسة عشرة من العاصمة، كان من الصعب العثور على طاولة خالية لتناول الغداء في أكثر من 10 مقاه ومطاعم تتوزع حول المفرق. ورغم موجة البرد القارس التي لفت الشوارع فإن الزبائن، وبالأخص المدخنين، جلسوا في شرفات المقاهي للتمتع بإطلالات شمس بخيلة ما أن تظهر أشعتها حتى يبتلعها الغيم. وطبعًا فإن أصحاب المقاهي استعدوا للشتاء وزودوا الشرفات بمدافئ غازية كما هيأوا بطانيات صغيرة تشبه تلك التي تستعمل على متن طائرات نقل المسافرين، توضع تحت تصرف الزبائن.
الحركة في صالات المسارح والسيرك والاستعراضات الموسيقية ظلت دون المستوى. وتكفي نظرة إلى مواقع حجز الأماكن إلكترونيا لملاحظة التخفيضات الكبيرة على أسعار تذاكر الدخول. فالعرض الموسيقي الذي كان الدخول إليه يكلف 40 يورو في المتوسط، بات بأقل من 20. والمتضرر الأبرز فرق السيرك التي تنشط عادة في موسم عيد الميلاد. والسبب هو أن الكبار قد يتغلبون على القلق ويواصلون الخروج للتنزه والترويح عن النفس في الأمسيات لكنهم لا يجازفون بتعريض أطفالهم للخطر. أما دوريات الشرطة التقليدية فقد انضمت إليها دوريات أفراد الجيش. وصار مألوفًا أن تراهم يحملون الرشاشات المشرعة، يسيرون في الشوارع ويتجولون بين المسافرين على أرصفة محطات القطار وفي أروقة المطارات وأعينهم تراقب كل شاردة وواردة مما يخرج عن المألوف. ومن يعرف باريس، المدينة المدنية التي لا تنزل قطعات الجيش إليها إلا في الاستعراض العسكري السنوي التقليدي للعيد الوطني، يتصور هذه الأيام أن عاصمة النور في حالة حرب.
ومنذ هجمات الجمعة 13 من الشهر الجاري خصصت الحكومة مليونا و300 ألف يورو لمتابعة الاحتياجات الصحية والنفسية للضحايا وعائلاتهم. وهناك وحدات للاستشارات والعلاج النفسي تستقبل الذين يمرون بحالات من الصدمة لفقدانهم أبناءهم أو أزواجهم في لحظة جنون لا دخل لهم فيها وفي آخر مكان يتوقعون أن يتعرضوا فيه للخطر. فالضحايا لم يفقدوا الحياة بسبب حادث مرور أو سكتة قلبية أو جرعة زائدة بل كانوا يستمعون إلى الموسيقى ويرقصون ويتناولون العشاء في المطاعم ليلة العطلة الأسبوعية حين شطبت عليهم كف الإرهاب. ورغم أن المسؤولين هبوا للتضامن مع المنكوبين وتقديم العون اللازم لهم، فإن عموم الباريسيين لم يلتزموا بدعوة الرئيس فرنسوا هولاند لهم بتعليق الأعلام الفرنسية على واجهات بيوتهم وشرفات شققهم، وظلت الاستجابة فردية وضئيلة. وهناك من يعزو السبب إلى عدم توفر الأعلام في بيوت الفرنسيين، خلافًا للمواطنين الأميركيين الذين يرفعون علم بلادهم في كل المناسبات. لكن علاقة الفرنسي مع العلم المثلث الألوان تبقى على شيء من التحفظ. فقد شاع أن من يرفع العلم هم أنصار اليمين المتطرف المتمسكون بالقيم القومية. واليوم تحاول الحكومة الاشتراكية تغيير النظرة لكي يكون العلم رمزًا للوطنية ولعموم المواطنين.
الأمر نفسه يقال عن رمز آخر من الرموز الوطنية، ألا وهو نشيد «المارسييز» الشهير. فقد ظهرت في السنوات الأخيرة أصوات لمثقفين تطالب بحذف مقاطع منه لأنها ذات وقع عنيف لا يناسب العصر وتتحدث عن محاربة الأعداء وذبحهم وإسالة دمائهم. وقد كان أنصار حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف يقفون ليرددوا النشيد الوطني في كل تجمعاتهم وبكثير من الحماسة والصوت العالي، أما بعد هجوم الجمعة فقد أصبح النشيد يتردد في كل التجمعات، من ملاعب الكرة في فرنسا وخارجها حيث تخوض فرقها المباريات الدولية، وعلى حناجر طلاب المدارس والفنانين والسياسيين ونواب البرلمان.
بعد أيام على الهجمات، عقد نحو من 30 مسؤولاً في حركة الشباب والثقافة اجتماعًا لتدارس الإجراءات الواجب اتخاذها لتأمين سلامة الشباب في كافة الملتقيات الثقافية والاجتماعية. وينضوي تحت لواء الحركة التي تأسست قبل أكثر من نصف قرن عشرات الجمعيات الثقافية والنوادي الاجتماعية المنتشرة في عموم المدن والقرى الفرنسية، وخرج ممثلو العاصمة وضواحيها في تلك الشبكة الواسعة بقرار يتمثل في رفض التهديد الإرهابي ونبذ الخوف وضرورة مواصلة العيش البهيج دون السماح لأعداء الحياة بتخريب توق الروح الفرنسية للفن والحرية. أما القرار الثاني فهو اتخاذ إجراءات الحماية لعشرات النشاطات والملتقيات التي تجري في البلاد كل يوم. كما عقد المسؤولون عن نوادي الشباب اجتماعًا مماثلاً، حضره مديرو 10 نواد في الدائرتين العاشرة والحادية عشرة من باريس، حيث سقط ضحايا الجمعة الحزينة. وكان السؤال المطروح على المجتمعين هو: «هل نمضي في هذه الفعالية المقررة من السابق أن نلغيها لدواعي الأمن؟». ورغم أن الآراء مالت نحو إبقاء الفعاليات في مواعيدها فإن أحد الحاضرين عبر عن خشيته من الاندفاع وطالب بضرورة التأني في الحوار وقياس درجات التهديد. وقال: إن هناك قلقًا يكتمه الناس في صدورهم ولا يعبرون عنه ولا يعترفون به في أحاديثهم. وهو يترافق مع خوف، لا من الإرهاب بل من الآخر. أي من الغريب والأجنبي والمختلف. وهو أمر مخيف لأنه قد يتحول إلى عصاب عام يعرقل عودة الحياة إلى شكلها الطبيعي. وطبعًا فإن المقصود بالآخر هو الفرنسي المسلم الذي زادت الهجمات من عنصرية فئات محافظة من الفرنسيين تجاهه.
تحت برج إيفل، كانت دليلة يابانية ترفع راية صفراء على عصاة خشبية ويتبعها حشد من السياح. إن باعة التذكارات الجوالين، وجلهم من الأفارقة الذين يمارسون هذا العمل من دون رخصة قانونية، لم يعودوا بالكثرة التي كانت تجعلهم علامة بارزة من علامات المشهد في فضاء البرج وتحت أدراجه. وطبعًا فإن الحضور المكثف لدوريات الشرطة كفيل بإبعاد الباعة الجوالين عنها. والكل ينتظر أن تعود الحركة السياحية إلى سابق عهدها لكي تتنفس باريس الصعداء وتستقبل الميلاد ورأس السنة بشكل طبيعي.
باريس تتعافى.. وتخرج لشراء هدايا العيد
لم يلتزم الأهالي بدعوة رفع الأعلام فوق البيوت لكنهم قرروا تحدي الخوف
باريس تتعافى.. وتخرج لشراء هدايا العيد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة