هل الثقافة العربية «أمام مستقبل حائر»، كما ذهب مؤتمر «مستقبل الثقافة العربية»، الذي أنهى أعماله في الإسكندرية بحضور 300 مثقف وكاتب وناقد عربي؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما العمل؟ ما الذي يمكن فعله؟ ومن الذي يقوم بمثل هذا الفعل؟
لكن قبل ذلك، لنطرح السؤال القديم - الجديد: ما هي الثقافة؟ للأسف، كثير من الطروحات في المؤتمر توقفت عند المعنى الضيق للثقافة باعتبارها نتاجا أدبيا فقط، وبالتالي توصلت إلى نتائج خاطئة. فالثقافة ليست الشعر والقصة والنقد.. إلخ، وإنما مجموع القيم الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية والتقاليد والعادات وأنماط السلوك الموروثة وغير الموروثة.
وللأسف، فإننا نفتقد في العربية إلى مصطلح يجمع كل هذه الظواهر البشرية كمصطلح «Culture» في الإنجليزية.
وإذا كانت الثقافة هي كل هذا، فهي نتاج نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي، وسيكون من الخطأ الجسيم أن نسمها بسمة معينة، لأننا بذلك نحولها من قيمة محسوسة تتغير مع الزمان والمكان إلى قيمة مجردة تتعالى على الشروط التي أنتجتها، وهي شروط متبدلة، متغيرة، لا تكف عن التفاعل مع بعضها بعضا، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وقد تنتج نقيضها في لحظة زمنية معينة. وإذا لم يتغير هذا النظام فإننا لن نستطيع أن ننتج ثقافة تنويرية، حقيقية، تزيح مع الزمن ما ترسب من قيم عتيقة، وتبني على أنقاضها قيما جديدة، تتحول بالضرورة إلى قوى مادية حين يمتلكها الناس، وفي مقدمتها تحويل الفرد من كائن هلامي بلا ملامح سوى ملامح القهر والخوف حتى من نفسه، إلى قيمة إنسانية كبرى.
وهذا هو الإنجاز الأكبر للثقافة الغربية. لكن سبقت ذلك قرون من النضال التنويري، الذي هدف منذ القرن السابع عشر لتغيير النظام الاجتماعي، وتجرع رواده السم من أجل يحققوا ذلك، لأنهم كانوا يدركون أن الحديث عن التغيير الثقافي أو «التنمية الثقافية» سيبقى حديثا بلا معنى، أو في الأقل أمنيات طيبة إذا لم يسندها واقع مادي، وتغذيها تغييرات اجتماعية وثقافية كبرى. هذا هو بالضبط ما حدث في أوروبا. لم تكن أفكار التنوير لتتحقق من دون حامل اجتماعي ومادي. صحيح، إنها ألهمت الناس، وقادت إلى الثورات الكبرى في تاريخ البشرية، خاصة الثورة الفرنسية. لكن ما كانت لتتحقق على أرض الواقع لولا النظام السياسي الجديد الذي حولها إلى ممارسة.
المثقف الحقيقي هو مناضل حقيقي. وللأسف، مثاله قليل في بلداننا العربية. لا نزال بعيدين جدا عن نموذج المثقف الذي يتجسد فيه «غنى المنظور التاريخي، والعمق الأخلاقي، والذكاء والحساسية»، إذا استعرنا تعبير بيرمان. إن مثل هذا النموذج، الذي تحقق في الغرب بعد تراكم طويل، ومنعطفات تاريخية واجتماعية خطيرة، هو الذي يقف وراء الإنجازات الروحية الهائلة التي تحقق بدرجات مختلفة في هذا البلد أو ذاك، ابتداء من ديكارت وكانت، مرورا بهيغل وماركس، ووصولا إلى سارتر ودريدا. هؤلاء فتحوا كوى جديدة في الوعي الذاتي والجمعي. وما كان يميزهم جميعا ولعهم بـ«التنمية والتطور»، حسب تعبير بيرمان مرة أخرى، حيث تكمن القوة الحيوية التي تغير العالم، وهو ما حاولوا تعليمه للناس أيضًا. لم يكن هؤلاء منفتحين على التغييرات في الشخصية الإنسانية وفي البنى الاجتماعية فحسب، بل كانوا يناضلون من أجل تفتحها، وتوصيلها إلى حدودها القصوى انسجاما مع دورهم الإنساني والأخلاقي. وقبل كل شيء كانوا مستعدين لتجرع السم.
ثقافتنا العربية بحاجة لأكثر من سقراط
ثقافتنا العربية بحاجة لأكثر من سقراط
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة