تعيش ميانمار (بورما)، الواقعة جنوب شرقي آسيا، أجواء احتفالية في أعقاب تحقيق زعيمة المعارضة أونغ سان سو تشي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، انتصارًا ساحقًا في أول محاولة تاريخية بالبلاد على الإطلاق للسير باتجاه الديمقراطية خلال السنوات الـ50 الأخيرة على الأقل، أي منذ تولى حكمها الجيش. هذه هي ثاني مرة يفوز فيها حزب سو تشي «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» بالانتخابات العامة. غير أن فوزها الأول عام 1990 ألغيت مفاعيله بواسطة الطغمة العسكرية الحاكمة.
سيستغرق الانتقال الفعلي للسلطة في ميانمار بعض الوقت، فهذا يتوقع أن يحدث مطلع العام المقبل. ولكن الأسابيع القليلة المقبلة ستشكل تحديًا حقيقيًا في ظل حاجة حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» بزعامة أونغ سان سو تشي إلى التفكير في الكيفية التي سيحكم بها ليس فقط أتباعه، وإنما جميع شعب ميانمار. وحقًا، التحديات التي تواجه ميانمار كبيرة وخطيرة.
سو تشي وحزبها، من دون شك تظللهما تساؤلات بشأن قدرتهما على إدارة كل شيء، بدءًا من الاقتصاد، والعلاقات مع الجارتين العملاقتين الهند والصين، إلى التحاور مع الجماعات العرقية المسلحة داخل ميانمار، ووصولاً إلى محنة أقلية الروهينغيا المسلمة. ومعلوم أن معظم كبار أعضاء الحزب – بمن فيهم سو تشي نفسها – محدودو الخبرة في مجال الحكم، بعد أمضوا الجزء الأكبر من العقدين الماضيين سجناء في معتقلات تحت الحكم العسكري.
كذلك، بعدما كانت سو تشي ذات يوم شخصية بارزة مناهضة للعنف ومؤيدة للديمقراطية، فإن سمعتها على هذا الصعيد اهتزت وتعرضت للشك خلال السنوات الأخيرة بسبب موقفها من حقوق وحماية الأقلية المسلمة المضطهدة في البلاد.
* مسلمو الروهينغيا
في مطلق الأحوال، تكمن القضية الأكثر تعقيدًا في ميانمار الآن في أوضاع الروهينغيا، الأقلية العرقية المسلمة، التي تتعرض للاضطهاد الوحشي، بمشاركة نشطة من الرهبان البوذيين وقوات الأمن الحكومية. أضف إلى ذلك أنه لم يكن مسموحًا لأعداد كبيرة من الأقليات العرقية والدينية بالتصويت في الانتخابات التي أجريت أخيرًا، بينهم أكثر من مليون مسلم جرّدوا من جنسيتهم. وللعلم، يعيش نحو 140 ألف روهينغي في مخيمات بائسة، في حين فر آلاف آخرون من البلاد في قوارب، ما أدى إلى أزمة هجرة إقليمية.
ومما يثير تحفظات مريرة بشأن حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» الفائز في الانتخابات، أنه لا يضم مسلمًا واحدًا ضمن مرشحيه الـ1051. كذلك جرى «تعليق» المشاركة الديمقراطية في أكثر من 400 قرية في ولايات تقطنها أقليات عرقية مثل الكارين والكاشين لأسباب تتعلق بالأمن. وبالتالي، لن يضم البرلمان الجديد نائبًا برلمانيًا واحدًا من المسلمين، رغم العدد المعقول نسبيًا للسكان المسلمين (4 في المائة من السكان).
* هل تستطيع سو تشي توحيد البلاد؟
ستضطر أونغ سان سو تشي، شاءت أو أبت، إلى التعامل مع قضية الصراع العنيف بين البوذيين والروهينغيا، وإن كان التنوع العرقي والديني في ميانمار لن يجعل هذه المهمة سهلة. ثم إن الحركة البوذية القومية المتطرفة «ما با ثا» (رابطة حماية العرق والدين) - بقيادة رهبان بوذيين – اكتسبت زخمًا لافتًا خلال السنوات الثلاث الماضية، وهي تدأب على تغذية الشعور المعادي للمسلمين في جميع أنحاء البلاد. وبالفعل أدى تأثير «ما با ثا» السلبي إلى تمرير أربعة قوانين لحماية العرق والدين خلال العام الماضي تمارس – من الناحية العملية – تمييزًا واضحًا ضد المسلمين، علاوة على أنها تسببت في حرمان المرشحين المسلمين من فرص المنافسة الواقعية على المقاعد في الانتخابات.
سو تشي التزمت صمتًا ملحوظًا حيال محنة الروهينغيا، وهذا أمر لا يغتفر لشخصية منحت جائزة نوبل للسلام، لكن هذا الموقف مفهوم جدًا – وإن كان يدعو للأسف البالغ – من شخصية سياسية تتنافس للحصول على الأصوات في بلاد ذات غالبية سكانية بوذية. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أنه في مايو (أيار) من العام الحالي، في ظل اضطرار آلاف الروهينغيا إلى الفرار بحرًا من ميانمار، تضايق الزعيم الروحي البوذي العالمي الدالاي لاما من صمت سو تشي إزاء محنتهم، فناشدها علنًا اتخاذ موقف.
* العلاقات مع السلطة العسكرية
من ناحية أخرى، على الرغم من فوز سو تشي على رأس حزبها بنحو ثلثي مقاعد البرلمان، لن يكون من السهل عليها قيادة ميانمار ونقلها من وضعية «الحكم الجمهوري العسكري» إلى «الديمقراطية الكاملة». فلدى ميانمار أكبر جيش برّي في جنوب شرقي آسيا، وسيظل الجيش أحد الأطراف المؤثرة في النظام السياسي.
كذلك سيحتفظ الجيش بنفوذ هائل داخل الحكومة، خصوصا أنه بموجب الدستور يحتفظ الجيش بنسبة 25 في المائة من مقاعد البرلمان. وهو أيضًا يحتفظ بالسيطرة على ثلاث حقائب وزارية حاسمة هي التي تشرف على الشرطة والجيش وشؤون الحدود والبيروقراطية الواسعة في جميع أنحاء البلاد، ثم إن الجيش يتمتع بسلطات طوارئ خاصة منصوص عليها في الدستور، ما منحه الحق في السيطرة على البلاد لأسباب مبهمة وغير محددة تتعلق بـ«الأمن القومي» و«الوحدة الوطنية».
وبالتالي، سيتوجّب على حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» العثور على طريق أو طريقة للتعاون مع رئيس أركان الجيش، فضلاً عن البرلمانيين العسكريين. وهنا، يرجح بأن يؤدي التزام الحزب بإجراء تغييرات على الدستور إلى الزج به في مواجهة مباشرة من القادة العسكريين.
* من هي سو تشي؟
تتمتع أونغ سان سو تشي، البالغة من العمر 70 سنة، بنسب سياسي قوي، باعتبارها ابنة أونغ سان، بطل الاستقلال والزعيم الثوري السابق الذي يُعتبر الأب المؤسس لميانمار، الذي اغتيل عندما كانت سو تشي طفلة عمرها سنتان. ومن ثم، قضت سو تشي معظم سنواتها الأولى خارج ميانمار، أولاً في الهند، حيث كانت والدتها سفيرة، ولاحقا في بريطانيا حيث درست في جامعة أكسفورد الشهيرة، وفيها التقت بزوجها البريطاني.
بعد ذلك دخلت سو تشي معركة بلادها من أجل الديمقراطية عن طريق المصادفة تقريبًا، عندما عادت في عام 1988 إلى ميانمار للاعتناء بوالدتها المحتضرة. وبعد ذلك بوقت قصير، قُتل ما لا يقل عن 3000 شخص إثر سحق الجيش الاحتجاجات المناهضة لحكمه الاستبدادي.
أثار سفك الدماء حفيظة سو تشي، الخطيبة المفوهة والشخصية الكاريزمية. وفجأة وجدت نفسها تتبوأ دورًا قياديًا في الحركة المؤيدة للديمقراطية، عن طريق إلقاء الخطابات أمام حشود من مئات الآلاف من المواطنين، أثناء زعامتها حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» للفوز في انتخابات عام 1990. بيد أن الجيش، وعلى رأسه طغمته الحاكمة، ما كان مستعدًا للتخلي عن السلطة، فتجاهل النتيجة وأبطل الانتخابات، واحتجزها في منزلها بالعاصمة في رانغون، حيث أمضت 16 سنة من السنوات الـ20 الأخيرة.
خلال هذه المدة عرض المجلس العسكري عليها إنهاء سجنها في أي وقت شريطة مغادرتها البلاد إلى الأبد، لكن سو تشي رفضت ذلك. ونتج عن هذا القرار أنها حرمت من رؤية زوجها قبل موته بداء السرطان في عام 1999، والابتعاد عن طفليها وهما يشبّان.
لقد كانت مسألة أن ميانمار هي إحدى ساحات المعركة المهمة بين الهند والصين من المسائل الجدلية منذ عهد بعيد ولفترة طويلة. وبعد الانقلاب العسكري في ميانمار عام 1962، قطعت الهند علاقاتها مع ميانمار، لتعود العلاقات مرة ثانية في تسعينات القرن الماضي. وحسب كلام المحلل السياسي تريديفيش سينغ مايني، «تتمتع الدولتان بعلاقات أفضل منذ ذلك الحين، والآن تعيد سو تشي علاقات بلادها مع الهند مثلما كانت أيام شبابها، وفعلاً شهدت الدولتان إنجازات مهمة على صعيد الصداقة المتبادلة، منها افتتاح الطريق السريع الذي يربط الهند – ميانمار – تايلاند خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، لربط شمال شرقي الهند مع تايلاند عبر ميانمار، وهو ما يبشر بعهد جديد من الصداقة بين الدولتين».
ولقد هنأ ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي بالفعل سو تشي ودعاها إلى زيارة الهند التي تتشارك مسافة 1640 كيلومترا مع ميانمار. وعلى النقيض من ذلك، قللت الوسائل الإعلامية الرسمية الصينية من أهمية الديمقراطية في ميانمار، قائلة إنه ينبغي على الصين تطوير أسلوبها الخاص للديمقراطية. وحذرت صحيفة «بيجينغ (بكين) تايمز» الصينية - التي تديرها الدولة – من أن ميانمار ما زالت «في مرحلة الديمقراطية الطفلة»، مضيفة أن قادتها الجدد والعديمي الخبرة سيواجهون مشكلات عويصة في جل الأزمات الاقتصادية والعرقية التي تعاني منها البلاد.
ولكن، ربما من خلال رصد القيادة الصينية تزايد شعبية حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» وقبوله العام دعت بكين، بدورها، سو تشي لزيارتها في وقت سابق من هذا العام، واستقبلتها بكين استقبالاً حافلاً وخياليًا. إم كيه بهادراكومار، السفير الهندي السابق، علّق على تلك الزيارة قائلاً: «وصلت أونغ سان سو تشي إلى بكين في أول زيارة لها للصين، استغرقت خمسة أيام. وفي اليوم الثاني استقبلها الرئيس الصيني تشي جين بينغ في قاعة الشعب الكبرى. وهذا استقبال رسمي عادة ما تفعله بكين مع القيادات الوطنية الكبرى، وليس الشخصيات الحزبية المعارضة». هناك الآن نوع من المنافسة لكسب محاباة ميانمار.
* الدستور يحظر توليها الرئاسة
في هذه الأثناء، ينبغي التذكير بأنه حتى مع فوز حزب سو تشي في الانتخابات بأغلبية ساحقة فإنها لا تستطيع تولي منصب الرئاسة لأنه تزوجت بأجنبي. فلقد أقلقت شعبية سو تشي الحكم العسكري السابق - الذي تخلى عن السلطة في عام 2011 – لفترة طويلة، ولذلك ضمن دستور عام 2008 بندًا بهذا المعنى للحد من سلطتها السياسية. وينص البند صراحة على أن أي شخص متزوج بمواطن أجنبي أو يحمل أطفاله جنسية أجنبية لا يمكن أن يصبح رئيسًا. ويبدو واضحًا أن هذا البند صيغ خصيصًا لحرمان الزعيمة المعارضة، التي يحمل زوجها الراحل وولداها الجنسية البريطانية، من تولي الحكم. مع هذا، تقول سو تشكي إنها ستحكم من «فوق الرئاسة»، من خلال استخدام نفوذها المستمد من شعبيتها الهائلة كـ«أم ميانمار».
* تعديل الدستور
الجدير بالإشارة أن تعديل الدستور جرى في ظل النظام العسكري الذي حكم البلاد من عام 1988 حتى عام 2006 من دون مشاركة الأحزاب السياسية. وتم «التصديق» على التعديل في استفتاء مشكوك في نزاهته في عام 2008. ولقد منح هذا الدستور الجيش سلطات هائلة و«منطقة أمان» سياسية مهمة، لضمان ألا يحدث أي اعتراض على مصالحه المؤسساتية وتصرفاته غير اللائقة.
وعلى الرغم من أن النظام العسكري انتهى رسميًا مطلع عام 2011، في أعقاب انتخابات عام 2010، فإنه لم يكن من الممكن سياسيًا - في ظل الحكومة المنتخبة للرئيس ثين سين - إجراء مراجعة كاملة للدستور. ولكن نوقشت بعض البنود الدستورية الصارخة في مخالفتها الديمقراطية داخل البرلمان.
ومع ذلك، تعذّر تعديل أي من البنود التي تمنع زعيمة حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» من أن تصبح رئيسة، والتي تستلزم موافقة 75 في المائة من الأصوات في البرلمان، بواسطة قوات ميانمار المسلحة المعروفة باسم «تاتماداو» (التي تحتفظ بنسبة 25 في المائة من مقاعد البرلمان لنفسها) في يوليو (تموز) 2015.
وحول هذا الجانب يقول الصحافي الهندي البارز راجا موهان: «تعتبر مراجعة الدستور – بشكل لا يثير الدهشة – أولوية قصوى لحزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية»، لكنها ستحتاج إلى مفاوضات مكثفة داخل البرلمان. وبكل المقاييس، لا يمكن لأي شخص أن يعتبر ميانمار «ديمقراطية» إلى أن يتغير الدستور. ويتمثل التحدّي في إنجاز ذلك بطريقة لا تستفز الجيش القوي لتنظيم انقلاب، كما حدث مرارًا وتكرارًا مع «الجارة» تايلاند. ولكن إذا شارك الجيش بشكل كامل في العملية البرلمانية، فينبغي أن يكون ذلك ممكنًا. ويعتبر إنهاء حالة الإفلات من العقاب التي يتمتع بها الجيش بفعالية منذ استقلال البلاد خطوة حيوية نحو الديمقراطية الدائمة».
ولن تحل انتخابات ميانمار 2015 كل المشكلات العميقة والنظامية بالبلاد، ولن يكون من المعقول توقع حدوث ذلك. ومع ذلك قد يفقد شعب ميانمار الثقة في الإصلاحات ما لم تحتل تلك المسائل أولوية قصوى خلال البرلمان المقبل.
إنجاز أونغ سان سو تشي الديمقراطي أمام اختبار الواقع
تحديات مهمة في مسيرة ميانمار السياسية
إنجاز أونغ سان سو تشي الديمقراطي أمام اختبار الواقع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة