كان موريس دروون عضو الأكاديمية الفرنسية، بل وعميدها الأبدي لفترة طويلة. وهو إحدى الشخصيات الديغولية الكبرى على المستوى الأدبي والثقافي، كما أنه أحد حكماء فرنسا المعدودين. وأحيانا كان يحلو له أن ينزل من عليائه الأكاديمية لكي يتناول قضايا الساعة من سياسية، وثقافية، وتاريخية.
ومنذ البداية يتحدث عن صديقه ميشال جوبير الذي مات عام 2003 ويقول: لم يكن فقط سياسيًا وإنما كان كاتبا وأديبا أيضًا. وهذا كثيرا ما ننساه أو نجهله. فقد خلف وراءه ما لا يقل عن عشرين كتابًا على هيئة روايات أو مذكرات أو مقالات سياسية، أو غير ذلك. ونذكر من بينها كتابين مؤثرين جدًا عن البلد الذي ولد فيه وأحبه إلى أقصى الحدود: أي المغرب الخالد. فقد ولد ميشال جوبير في مدينة مكناس وتعرف على الحقول الخضراء الخصبة المحيطة بها وأحبها. من لا يحبها عندما يتعرف عليها؟ إنها أجمل من سويسرا!
لكن ما هو رأي موريس دروون بالفيلسوف المسيحي الشهير جان غيتون؟ يقول ما معناه: لقد كان أول رجل علماني يشارك في المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني والذي أحدث ثورة تجديدية ولاهوتية في المسيحية الغربية. ومعلوم أنه انعقد بين عامي 1962 - 1965 وصالح المسيحية في نسختها الكاثوليكية مع الحداثة بعد صراع طويل ومرير. ولكن من يعلم أنه أي جان غيتون - كاد أن يتعرض للعقاب من قبل الفاتيكان نفسه لأنه ألف كتابًا لا امتثاليًا عن مريم العذراء؟ ولم ينقذه من الإدانة اللاهوتية التكفيرية إلا الكاردينال الإيطالي مونتيني الذي أصبح فيما بعد البابا بولس السادس. ولذلك نشأت بينهما صداقة كبيرة، أسطورية. والواقع أن جان غيتون كان أشهر مفكر كاثوليكي في عصرنا. وقد عاش حتى سن المائة تقريبًا (1901 - 1999). وبالتالي فقد شهد معظم أحداث القرن العشرين إن لم يكن كلها. وكانت له صداقات كبيرة في مختلف الأوساط من سياسية وأدبية وأكاديمية. وكان محترمًا مهابًا. ثم يقول لنا عميد الأكاديمية الفرنسية ما يلي: كنت دائما أعتقد أن المسيحيين ينقسمون إلى قسمين: قسم مؤمن عن طريق الحب، وقسم آخر عن طريق الخوف. وأقصد بذلك الخوف من الحساب والعقاب في الدار الآخرة. وكبار الأدباء المؤمنين بدوا لي مؤمنين بسبب الخوف. وأذكر من بينهم: فرنسوا مورياك، جوليان غرين، غراهام غرين، ويمكن أن أضيف إليهم جان غيتون.
ولكن يا له من خوف مثمر ومخصب! فقد دفع بجان غيتون إلى تأليف عشرات الكتب والمقالات المهمة. ومن بين كتبه الخمسين يمكن أن أذكر كتابه الذي يحمل العنوان التالي: «حوارات مع بولس السادس». وهي حوارات متواصلة بين الرجلين على مدار سبعة وعشرين عامًا. ومعلوم أن البابا بولس السادس كان مثقفًا وذا معرفة واسعة جدًا وكان يلجأ إلى اللغة الفرنسية عندما يريد التعبير عن الأشياء المهمة.
والآن ننتقل إلى موضوع آخر: ما رأي عميد الأكاديمية الفرنسية بالاحتفال بكبار الكتّاب والأدباء من أمثال شاتوبريان وبلزاك وفيكتور هيغو وسواهم بعد موتهم؟ فنحن نعتقد أنهم كانوا معززين مكرمين في بلادهم وشعبهم إبان حياتهم. ولكن الحقيقة غير ذلك في الواقع. فقد تعرضوا في حياتهم للهجوم الشديد، بل والشتم، والاتهام، والاحتقار، ولم يحظوا بالمجد فعلاً إلا في أواخر حياتهم أو بعد مماتهم. فالروائي الشهير ستندال هاجم شاتوبريان بعنف قائلاً: إنه أكبر منافق في تاريخ فرنسا. وأما الشاعر الكبير دوفيني فقال عنه: إنه تجسيد للنفاق السياسي والديني والأدبي. إنه يبدو ظاهريًا كعبقري ولكنه في الحقيقة لم يبدع شيئًا. وأما ميريميه فيقول عنه بأنه الأناني الأكبر في القرن كله. فهو مغرور بنفسه ولا يفكر إلا بمصالحه. وأما مترينخ فقال عن شاتوبريان: كان طموحه يصل إلى حد الجنون.. إنه شخص لا يفكر إلا بامتيازاته ومصالحه الشخصية. ولكنه مع ذلك أصبح أحد الأمجاد الفرنسية لاحقا ولا يزال.
وأما عن الشتائم التي تساقطت على فيكتور هيغو في حياته فحدث ولا حرج، فالشاعر لوكونت دوليل استهزأ به قائلاً: ليس لغبائه حدود. إنه أكبر من جبال الهمالايا!
وأما المفكر والوزير غيزو فقد تحدث عن كتاباته الغزيرة، قائلاً: له خصوبة الإجهاض! وأما إميل زولا فقال عنه: إنه الفيلسوف الأكثر غموضًا وتناقضًا في العالم.. إن قراءة كتبه مملة إلى درجة مخيفة.. أكاد أموت من النعاس والضجر عندما أقرأه. إني لا أستطيع تحمل غلاظته.
وأما ستندال فقال عنه بأنه ينّوم القراء أو يخدرهم، هذا في حين أن غوته وصف أحد كتبه المشهورة بأنه: أتفه كتاب في العالم! وحتى كتابه الأشهر «البؤساء» فقد شنوا عليه حملة كبيرة. ومع ذلك فإن فيكتور هيغو هو الآن مجد أمجاد فرنسا. وبالتالي فيا أيها الكتاب العرب إذا ما شتمكم أحد أو احتقركم فلا تيأسوا ولا تحزنوا فهذه هي طبيعة الحياة. فالكتاب غيورون من بعضهم البعض بشكل مخيف. أين منها غيرة بنات حواء! هل تعرفون امرأة تعترف بجمال امرأة أخرى؟
وبالتالي فحتى الكتّاب الكبار لم ينجوا من الملاحقة والاحتقار في حياتهم. في الواقع أن شهرة فيكتور هيغو في حياته كانت أسطورية. وبالتالي فمن الطبيعي أن تثير الغيرة الشديدة لدى الكتاب الآخرين. هل نعلم بأن ستندال كان شبه مجهول في حياته، ولم يحظ بالشهرة إلا بعد مماته بزمن طويل؟ وهذا ظلم ما بعده ظلم، فهو كاتب ضخم.
والآن ماذا عن موضوع الفرانكوفونية ومدى انتشارها في العالم؟ يقول موريس دروون ما معناه: إن فكرة تشكيل منظمة الدول الناطقة بالفرنسية تعود إلى رئيس دولة السنغال ليوبولد سيدار سنغور. ومعلوم أنه كان شاعرًا كبيرًا باللغة الفرنسية، على الرغم من أنه كان مناضلاً ضد الاستعمار الفرنسي في السنغال. وقد أطلق الفكرة عام 1976 ودعا سبعة وأربعين وزيرًا للخارجية للاجتماع في داكار من أجل تأسيس «كومنولث على الطريقة الفرنسية».
لحسن الحظ فإن الرئيس فرنسوا ميتران التقط فكرة سنغور وطورها. ثم دعا رؤساء الدول أو الحكومات الناطقة بالفرنسية إلى الاجتماع في قصر فرساي بتاريخ 17 فبراير (شباط) 1986. وقد حضر الاجتماع المهيب وفد من الأكاديمية الفرنسية يضم سنغور وإدغار فور وموريس دروون نفسه. ثم حصلت قمة الفرانكوفونية في كيبيك بكندا بعد عامين، وقرروا أثناءها تحويل هذه المنظمة إلى مؤسسة رسمية وتعيين سكرتير عام لها. وفي مؤتمر هانوي أصبح بطرس غالي وزير خارجية مصر الأسبق سكرتيرًا عامًا للفرانكوفونية. وهو يتقن الفرنسية تمامًا، ومتشبع بالثقافة الأوروبية والأدب الفرنسي. وأما مؤتمر بيروت الذي انعقد عام 2002 فقد كان من أنجح المؤتمرات، نقول ذلك خصوصا أن عدد الدول الأعضاء ارتفع إلى خمس وخمسين دولة. ولأول مرة انضمت الجزائر إلى المؤتمر ممثلة برئيسها عبد العزيز بوتفليقة الذي صرح قائلاً: «إننا نشارك في هذه القمة من دون أي تحفظ أو حرج، فاللغة الفرنسية تتيح لشبابنا أن يوسعوا آفاقهم وعقولهم عن طريق الاطلاع على المعرفة الحديثة من خلالها. فاللغة الفرنسية حاضرة ومنتشرة في جميع القارات وتحتوي على العلوم كافة، إنها لغة علم وأدب وفكر وفلسفة وفنون». فمن كان يتوقع أن تنضم الجزائر إلى فرنسا بعد كل ما حصل؟ سبحان مغير الأحوال. أنا أقول لكم كلمة واحدة: افصلوا الثقافة عن السياسة كما فعل الرئيس بوتفليقة. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. أضيف بأن أدلجة الثقافة العربية أو تسييسها بشكل زائد عن اللزوم قضى على الفكر العربي أو أفقره بشكل مدقع، ولذلك أطرح الشعار التالي: ضرورة الانتقال من المرحلة الآيديولوجية إلى المرحلة الإبستمولوجية.
وأخيرا يتحدث موريس دروون عن عظمة الجنرال ديغول وقدرته على التنبؤ بما سيحصل في المستقبل. فعشية حرب خمسة يونيو (حزيران) 1967 وصل إلى فرنسا أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل لكي يخبره بأن الدولة العبرية سوف تعلن الحرب على جيرانها. وعندما وصل إلى الإليزيه واستقبله ديغول واستمع منه إلى نيات دولته في هذه الظروف قال له: إني أعرف أن كل ما سأقوله لك لن يغير قرار الحكومة الإسرائيلية.
ولكن اعلموا أنكم إذا ما شننتم الحرب على العرب فسوف يحصل ما يلي: أولاً ستربحونها وبسرعة شديدة، ربما خلال أسبوع فقط، وثانيًا لن تستطيعوا أن تستفيدوا دبلوماسيًا أو سياسيًا من انتصاركم. وثالثًا فإن عملكم هذا سيؤدي إلى ولادة الأمة الفلسطينية: أي سيؤدي إلى عكس النتيجة المتوخاة منه. ثم يختتم المؤلف كلامه قائلاً: والآن ماذا حصل؟ ألم تتحقق نبوءة ديغول بعد أربعين سنة من ذلك التاريخ؟
اعترافات عميد الأكاديمية الفرنسية
كان إحدى الشخصيات الديغولية الكبرى وأحد حكماء فرنسا المعدودين
اعترافات عميد الأكاديمية الفرنسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة