«إذا ما أنتم أردتم أن تكون الذاكرة موجودة فلا بد من منحها شكل رواية». هذه المقولة لكاتبة الروايات البوليسية الفرنسية دومينيك مانيتي تصلح أن تكون تصديرا جيّدا لرواية الكاتب التونسي حسّونة المصباحي الجديدة الصادرة حديثا عن دار «آفاق» للنشر. وفعلا في هذه الرواية التي حملت عنوان «أشواك وياسمين» يغوص بنا الكاتب في تضاريس التاريخ التونسي لا لكي يكتبه بطريقة المؤرخ، وإنما لكي يرسم في وعي التونسيين المكوّنات الأساسية للذاكرة التونسية. وللقيام بمثل هذه المهمّة، هو يرتدي لباس الراوي أو الشاعر المنشد الذي يركز اهتمامه على شدّ المستمعين (القراء) إلى كلّ كلمة ينطق بها من خلال الكثير من الحكايات التي تتشابك فيها نماذج كثيرة مثل الخرافة الحكميّة، والأسطورة، والخبر، والملحمة، وفن البورتريه، وصورة الكاتب نفسه الذي يحيلنا من حين إلى آخر إلى دفتر يومياته الشخصية. وليس هناك غرابة إذن في هذه الكتابة الهجينة التي لا مطمح لها أساسا سوى تشكيل بانوراما واسعة تخترقها حقيقة مروّعة!
وكما سبق أن ذكرت، يدعونا حسّونة المصباحي إلى أن نغوص معه في تاريخ أفريقيا (الاسم القديم لتونس) منذ الحقبة القديمة إلى يومنا هذا. والهدف من ذلك هو أن يكشف لنا أن ما اصطلح على تسميته بـ«ثورة 14 يناير»، (وهو مصطلح يرفضه الكاتب منذ البداية) ليست حدثا استثنائيّا في التاريخ التونسي. والظروف التي أحاطت بهذا الحدث لا تعدو أن تكون تكرارا كئيبا لأحداث سابقة ومتشابهة سجّلتها الذاكرة التونسية بحسب ترسيمة متعذّر تبسيطها: تعطّش للسلطة، ديكتاتورية شرسة ومحتومة، وفساد شامل، وأطماع بلا حدود لنهب خيرات البلاد، وقمع رهيب ووحشي لكلّ حركة معارضة.
ويعثر حسّونة المصباحي على نماذج من العنف الذي وسَمَ التاريخ التونسي في حقب مختلفة في أمثلة كثيرة فيها يشترك الجلادون والضحايا في ممارسة لعبة مرعبة. وهو يستحضر لإثبات ما يقول شخصيات مرموقة مثل يوغرطة البربري الذي تحدى الرومان حدّ الشجاعة الجنونية التي تنقلب على صاحبها، والدجّال «صاحب الحمار» الذي بثّ الفوضى القاتلة في جميع أنحاء البلاد في منتصف القرن التاسع مشعلا نيران الفتن الدينية من خلال حروب دموية يسن السنة والشيعة، كما يستعرض المصباحي علي بن غذاهم الذي تمكن عام 1864 من أن يجمع من حوله الكثير من الأنصار في ثورته على الباي وحاشيته الفاسدة لينتهي مقتولا تماما مثلما كان حال يوغرطة. وفي فصل طويل، يستعرض الكاتب سيرة الفاسد مصطفى بن إسماعيل الذي كان مشردا في الشوارع قبل أن يصبح محظي الباي المفضل، ثم الوزير الأكبر للمملكة ممهدا لاحتلالها من قبل فرنسا في ربيع عام 1881. وجميع هذه الشخصيات تجسد في جانب ما الاستبداد والطغيان. وفي جانب آخر زعامات حركات تمردية تنتهي دائما بالخسران والفشل الذريع. القرون تتلاحق، والأزمات تتوالى، والقليل من الأحلام التي تبشر بمستقبل أفضل تتلاشى بل تتحول إلى كوابيس مخيفة تقضّ مضاجع التونسيين. وعلى وتيرة هذا التكرار للتاريخ، تباشر الرواية تحليلا نقديا ليس فقط للتلميح إلى حتميّة في مصير التونسيين، وإنما أيضا للتشديد على وصْمَة تفسّخ أخلاقي وعجز ثقافي طالما طبع سير الكثير من الذين حكموا البلاد والعباد. ومبدأ التكرار يكتسب أهمية كبيرة إذ إنه بمثابة النواة التي تتمحور حولها في الآن نفسه الحقب التاريخية والبنية الفنيّة التي اختارها الكاتب لروايته. في هذا الاتجاه، يمكن القول إن حسّونة المصباحي لم يتخذ على عاتقه التكرار التاريخي للأحداث إلاّ لكي يتجاوز ذلك بأفضل طريقة. وبالفعل لو هو اكتفى بالإشارة إلى أن هذه الأحداث تتكرّر لكان قد أخفى علينا حقيقة أساسية تتمثل في أنه في كلّ مرّة تتمّ القطيعة بين الأجيال وبين الماضي لتغرق في النسيان، فإنها تجد نفسها مجبرة على ارتكاب نفس الأخطاء السابقة. لذلك فإن قانون التكرار في مجال التاريخ ينتسب بالأحرى إلى رؤية تراجيدية إذ إن من يحكم عليه بإعادة ارتكاب نفس الخطأ، واقتراف نفس الجرائم، يفقد كلّ قدرة على أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، وعلى أن يتحكم في مصيره ليعيش قصورا دائما. ومعنى هذا أن الكتاب يضع نفسه في قلب المفهوم الهيغلي (نسبة إلى هيغل) للتاريخ والذي اعتمادا عليه نشأت فكرة تطور الإنسانية نحو الأفضل دائما.
لكن كيف يمكن أن نضع حدّا لهذا التكرار الجهنمي للفساد وللاستبداد؟ هذا التكرار الذي يتجدّد دائما وأبدا، بحيث يبدو وكأنه لا مفرّ منه مطلقا. بالنسبة لصاحب «أشواك وياسمين» ليس هناك غير طريقة واحدة ألا وهي استنهاض الذاكرة وتحفيزها والعناية بها لكي تتصدى للنسيان. وتعود دائما إلى تضاريس الماضي البعيد والقريب لكي تعالج التاريخ من خلال رؤية نقدية عمقية وجريئة. لذلك يمكن القول إن رواية حسّونة المصباحي تكشف المخبوء، وترفع الستار الأسود الغليظ عن الأخطاء والجرائم التي ارتكبت من خلال حزمة رفيعة من الحكايات فيها تسير الشخصيات معصوبة العيون، جامدة العقول ولا شيء يتحكم فيها غير الغرائز البدائيّة مثل عبد الله المهدي، ومراد باي الذي كان يتلذذ بأكل لحم ضحاياه مشويا، والمتعطش للسلطة والمال، أعني بذلك محمود بن عياد الذي نهب خزينة المملكة التونسيّة في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر مقابل الحصول على الجنسية الفرنسية!
غير أن هذه الأمثلة الكثيرة لا تعني أن الروائي اتخذ دور المرشد الأخلاقي في روايته، ذلك أننا لا يمكن أن نغيّر تاريخ شعب من الشعوب من خلال الدروس الحكمية والأخلاقيّة. لذلك اختار أن يعالج التاريخ من خلال ترصّد ملامح مهمة في سيرته كاتبا وإنسانا. من هنا نفهم لمَ ذاتُه مبثوثة في أغلب الأمكنة والأزمنة. معنى هذا أنه أراد أن يكشف لنا أن كتابة رواية عن بلد ما لا يمكن أن يتمّ إلاّ بواسطة شكل من أشكال الفن المسرحي والذي هو في الحقيقة مكوّن أساسي لهذه الرواية. لكن كيف فعل ذلك؟ لقد خيرّ الكاتب أن يكون في المشهد من البداية إلى النهاية. فهو يحدثنا عن جذوره، وعن قراءاته، وعن قصص الحب التي عاشها في أطوار حياته، وعن صداقاته، وعن رحلاته، وعن الفترة التي أمضاها في إقامتين للكتاب في كل من «هاينريش بل» قرب مدينة كولونيا الألمانية. وفي «فيلا أوروا» بمدينة لوس أنجلس الأميركية. والأفضل من كلّ هذا أن المصباحي لم يتردد في أن يكثر من الاستشهادات المختطفة من الأدب العربي الكلاسيكي، ومن الشعر الصيني القديم، ومن كتاب فرنسا في القرن الثامن عشر، ومن الكتاب الألمان والأميركيين من دون أن يغفل عن الإشارة إلى الأفلام التي رسخت في ذاكرته مدلّلا بذلك على معرفته الواسعة بالفن السابع. ومن صفحة إلى أخرى يتجلّى لنا التاريخ التونسي متضمنا بعض الملامح من سيرة الكاتب، وبعض أصداء معارفه الأدبية والفلسفية، فكما لو أن الدرس الذي يمكن أن نستخلصه من كل هذا هو أن تاريخ أفريقيا لا يستند إلى الأخلاق بل إلى الثقافة العميقة والواسعة. ولعلي لا أبالغ حين أقول إن الكلمة - المفتاح في هذه الرواية هي الثقافة. الثقافة التي هي الحلقة الجوهرية والثمينة الغائبة عن السلسلة. وهي النواة الأساسية التي عليها ينبني صرح أمة من الأمم، وعليها تتأسس ثروتها الروحية. لهذا لم يتردد حسّونة المصباحي في الإشادة ببعض الفنانين التونسيين محوّلا إياهم إلى أيقونات وطنية. وهذا ما فعله مع الكاتب المسرحي خليفة الإسطنبولي الذي توفي بداء السل في أواخر عام 1948، والفنان المسرحي عبد الوهاب الجملي الذي توفي بالسكتة القلبية في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2011. فالفنانون بحسب المصباحي يجسدون الروح الحقيقية للهوية التونسية. من هنا نفهم التمفصل بين الرهانات الإيجديولية للرواية، وبين شكلها الجمالي ومضومنها. فالكتابة عن الذاكرة الجماعية تعني عند صاحب «أشواك وياسمين» إبراز الدور المغيّب للثقافة في تضاريس التاريخ التونسي في مختلف الحقب الماضية والحاضرة.
*كمال بن ونّاس: رئيس تحرير الموقع الفرنسي: «آداب تونسية». وأستاذ الأدب الفرنسي المعاصر بالجامعة التونسية
استنهاض الذاكرة التونسية
الفساد والاستبداد في «أشواك وياسمين» لحسونة المصباحي
استنهاض الذاكرة التونسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة