الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية.. «مفاوضات الظل»

الكنيست يدرس ضمها.. ورام الله اعترفت بحق عمان.. ولكن ماذا بعد قيام الدولة الفلسطينية

الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية.. «مفاوضات الظل»
TT

الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية.. «مفاوضات الظل»

الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية.. «مفاوضات الظل»

«الحرم القدسي الشريف بأيدينا»، هذا ما أعلنه، موتيه غور، قائد اللواء 55، مباشرة بعد اقتحام الجيش الإسرائيلي للمسجد الأقصى في يونيو (حزيران) عام 1967. لكن عمليا، بعد 47 عاما، تشرف المملكة الأردنية الهاشمية، على كل كبيرة وصغيرة ضمن 144 دونما، تضم الجامع القبلي ومسجد قبة الصخرة، وجميع مساجده ومبانيه وجدرانه وساحاته وتوابعه فوق الأرض وتحتها والأوقاف الموقوفة عليه أو على زواره.
ومنذ مبايعة مسؤولين فلسطينيين وعرب، للشريف الحسين بن علي الهاشمي، عام 1924، بالوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، رفضت المملكة الأردنية كل طلب أو محاولة أو سعي للتخلي عن هذا الدور، بل ظلت رعاية المملكة للمقدسات مطلبا ثابتا على الدوام؛ في ظل الحرب مع إسرائيل، وأثناء معاهدة السلام معها، وقبل وبعد فك الارتباط مع الفلسطينيين، وحتى بعد الاعتراف بالدولة الفلسطينية من الأمم المتحدة.
هذا الأسبوع فقط، أطلق نواب في الكنيست الإسرائيلي (البرلمان)، تصريحات تهدد هذا الوضع، لأول مرة بشكل مباشر ومستفز، في خطوة قد تؤدي إلى تدهور كبير في العلاقات الأردنية الإسرائيلية التي ظلت على المستوى الرسمي فاترة وعلى المستوى الشعبي باردة.
صحيح أن الكنيست لم تصوت على قرار قدمه النائب اليميني المتطرف موشيه فيغلين، لنقل السيادة على المسجد الأقصى من الحكومة الأردنية إلى الحكومة الإسرائيلية، لكنه على الأقل أخضع الأمر للنقاش، ووعد رئيس الكنيست يولي أدلشتين بالتصويت على الأمر مرة ثانية في وقت غير محدد، لحين التوصل إلى صيغة متفق عليها.
وأعطى النقاش في الكنيست مؤشرا لما يفكر فيه كثير من المسؤولين الإسرائيليين، «حين نهرب عن جبل الهيكل (الأقصى) فإننا نفقد شرعية وجودنا في تل أبيب، لا معنى لوجودنا هنا من دون هذا المكان»، قال فيغلين الذي طالب بفرض سيطرة إسرائيلية كاملة على الأقصى بدل السيادة الأردنية عليه، والسماح لليهود بالوصول إلى المكان والصلاة فيه في أي وقت ودون رادع. أيد أعضاء كنيست مقترح فيغلين، ورد عليه آخرون باتهامه أنه يخرب العلاقات بين إسرائيل والعرب.
وقالت النائبة في الكنيست، والناطقة السابقة بلسان الجيش الإسرائيلي، ميري ريغيف، «مصير الأقصى يجب أن يكون مثل مصير الحرم الإبراهيمي في الخليل، يجب تقسيم المكان بين المسلمين واليهود».
وتساءلت «لماذا يستطيع المسلمون الصعود إلى هناك والمناداة باسم الله ولا نستطيع نحن اليهود». وأردفت «سنجد أنفسنا من دون بيت إذا استمر ذلك».
هذا ما يريده الإسرائيليون في هذه المرحلة، الصلاة في المسجد الأقصى، وعلى المدى البعيد لا يخفون أن مكان المسجد يجب أن يعيدوا بناء «الهيكل»، لكن للأردن حسابات أخرى، فالمسألة ليست صلاة وحسب، وإنما دينية وتاريخية وسيادية وسياسية ومالية كذلك.
لكن لماذا الأردن تحديدا؟
قد يكون من البديهي أن تصبح الدولة التي تحتل القدس (إسرائيل) هي المسؤولة المباشرة عن المقدسات التي تقع تحت سيطرتها، وربما يعتقد البعض أن ذلك الدور منوط الآن بالسلطة الفلسطينية التي تشرف على باقي المساجد والمؤسسات في المدينة المقدسة والضفة الغربية، لكن واقع الأمر مختلف تماما، فالذراع الطولى للمملكة (الأوقاف الإسلامية) هي التي تقرر في كل كبيرة وصغيرة داخل أسوار المسجد الأقصى.
بدأت السيادة الأردنية على الأقصى منذ بيعة الشريف، عام 1924، وتنقلت في سنوات لاحقة لقيادات محلية فلسطينية، لكن بعد حرب عام 1948، وعندما أصبحت الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية تابعة للحكم الأردني، عادت الوصاية أردنية بلا منازع، وأعلن الحاكم العسكري الأردني استمرار سريان القوانين والتشريعات الأخرى المطبقة في فلسطين دون أن تتعارض مع قانون الدفاع عن شرق الأردن لعام 1935.
وبعد عام واحد، في 1949، أعادت الإدارة المدنية الأردنية نظام الحكم المدني إلى الضفة الغربية بموجب قانون الإدارة العامة على فلسطين، وفي عام 1950، تم توحيد الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن رسميا، كما تم التأكيد على استمرار سريان القوانين السارية المفعول في الضفة الغربية في نهاية فترة الانتداب البريطاني إلى حين استبدالها بقوانين أردنية.
وظل ذلك ساريا حتى 1967، عندما احتلت إسرائيل القدس (الشرقية). غير أن هذا الاحتلال لم يمنح إسرائيل أي حقوق ملكية، لأن القاعدة المؤسسة جيدا في القانون الدولي تنص على أن الاحتلال لا يستطيع منح حقوق للملكية، ولمبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة ووجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب يونيو (حزيران) 1967 كما ورد في قرار مجلس الأمن رقم 242، وبناء عليه، وبعد مرور مدة قصيرة من سيطرة إسرائيل على الحرم القدسي الشريف، تم نقل السيطرة إلى الأردن مجددا.
ولم يتخل الأردن أصلا عن دوره التاريخي، ولم يسلم بالاحتلال على المدينة، ولا بحقه في السيادة على المقدسات، بل أكد على دوره في رعاية هذه المقدسات، في معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية التي وقعت في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1994، لكن الصراع الخفي على المقدسات والقدس، والضفة الغربية كلها، كان قد اشتعل قبل ذلك بكثير، بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي ناضلت لعشرات السنين من أجل فك الارتباط مع الأردن باعتبارها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، الضفة، القدس، قطاع غزة، والشتات.
قاوم الأردن ذلك بكل قوة، حتى اتخذ الملك الراحل حسين بن طلال قرارا كان مؤلما له شخصيا، بفك الارتباط عام 1988 مع الضفة الغربية إداريا وقانونيا، وتم ذلك بطلب من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي أعلن في نفس الوقت قيام دولة فلسطين، لكن العاهل الأردني صعب المراس، لم يفك الارتباط أبدا مع المقدسات.
أعطى عرفات للملك حسين حق الوصاية على المقدسات بشكل شفوي، قبل أن يعطي الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، العاهل الأردني عبد الله الثاني هذا الحق باتفاقية مكتوبة في نهاية مارس (آذار) من العام الماضي.
وقالت مصادر فلسطينية واسعة الاطلاع لـ«الشرق الأوسط» إن «اتفاقية الدفاع عن المقدسات كانت بطلب مباشر من العاهل الأردني الملك عبد الله شخصيا للرئيس الفلسطيني». وأضافت «طلب العاهل الأردني توقيع صك مكتوب بعد قليل من حصول فلسطين على اعتراف أممي بالدولة الفلسطينية». وربما أراد الملك الأردني قطع الشك باليقين وتأكيد أن لا تغيير قانونيا حصل أو سيحصل على وضع المقدسات.
كيف وقع أبو مازن
في 31 مارس (آذار) عام 2013، حطت طائرة أردنية خاصة بشكل فجائي في مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله، وكان الهدف نقل الرئيس الفلسطيني إلى عمان ليوقع اتفاقا مهما، ثم إعادته إلى رام الله بعد ساعات قليلة.
حصل ذلك من قبل مرة واحدة عندما هدد أبو مازن بحل السلطة، فوصلت طائرة عسكرية أردنية على عجل من أجل مباحثات مصيرية.
ذهب عباس وعاد في نفس اليوم بعد توقيع اتفاق يفوض الأردن في رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية بالقدس الشرقية المحتلة، التي تنادي بها السلطة عاصمة للدولة الفلسطينية.
في ذلك الوقت أثارت هذه العجالة في التوقيع، تساؤلات شتى حول أهمية هذا الاتفاق وتوقيته وتبعاته القانونية والسياسية، خصوصا بعد حصول فلسطين على دولة غير عضو في الأمم المتحدة، ولأنها تحول اتفاقا شفويا سابقا إلى اتفاق مكتوب للمرة الأولى.
يقول وزير الأوقاف الفلسطيني، محمود الهباش، إن الاتفاق كان دينيا صرفا ولا يحمل أي أبعاد سياسية مطلقا. وأضاف، لـ«الشرق الأوسط» أن «الاتفاق أكد شيئا كان قائما منذ سنوات. منذ عام 1967 منذ احتلت إسرائيل القدس، احتفظ الأردن بمسؤوليته عن الأوقاف الإسلامية والمقدسات، وعندما قرر الملك الراحل الحسين بن طلال فك الارتباط (في عام 1988)، ظل (هذا الأمر) قائما، وبموافقة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها ممثل الشعب الفلسطيني، والاتفاق الأخير يؤكد ذات المضامين وذات الإبعاد. لم تغير شيئا ولم تضف شيئا جديدا».
أما لماذا مكتوب، فقال الهباش «إن الاتفاق كتب من أجل تشكيل غطاء قانوني للطرفين وحتى يتمكن الطرفان من التحرك معا، وبشكل مشترك، لحماية القدس عبر المؤسسات الدولية».
وردا على سؤال لماذا بعدما تحولت فلسطين إلى دولة قادرة على التحرك، أوضح الهباش: «للأردن وضع مختلف، نحن لا نتحرك في ظروف طبيعية مواتية، صحيح الدولة اعترف بها العالم، لكنها لم تتجسد على الأرض، ولا نريد أن نعطي ذرائع للاحتلال بالتنكر للحق الفلسطيني مثلما يتنكر للدولة».
ولم يجد الهباش تناقضا بين مبايعة الملك الأردني مجددا على المقدسات، والقول إن السيادة على المكان، فلسطينية، وقال: «الاتفاق ضمنيا يؤكد روح ما اتفق عليه عام 1988 باستمرار الإشراف الأردني على القدس، حتى تحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطين لترد هذه الأمانة إلى الدولة الفلسطينية».
لم يسلم الأمر من انتقادات فلسطينية داخلية، واتهامات لأبو مازن بالتخلي عن دوره في المكان الأهم على الإطلاق «العاصمة»، لكنه عقب لاحقا بشكل مختصر، «منذ عام 1988، اتفقنا على أن مسؤولية الأوقاف الإسلامية تتبع الأردن، وهي في الأصل كذلك، وإن الأردن سيستمر في تحمل مسؤولياته وهو مستمر في ذلك إلى الآن، والسيادة لنا على كامل الأرض الفلسطينية، وهذا لا نقاش فيه».
لم تعقب إسرائيل التي كانت على علم بالاتفاق وكأن الأمر لا يعنيها آنذاك. لكن مسؤولين أعادوا التركيز مؤخرا على ما وصفوه بـ«سياسة الصمت والتستّر في جميع أروقة الجهات الرسمية تجاه الوضع القائم في المسجد الأقصى».
وترجم ذلك بنقاش الكنيست الأخير والمتواصل الذي رد عليه البرلمان الأردني بالتوصية بالإجماع على طرد السفير الإسرائيلي من عمان في الوقت الذي هدد فيه رئيس الوزراء الأردني عبد الله النسور بإلغاء معاهدة السلام بين البلدين.
صحيح أن ثمة أطماعا ورغبات مختلفة تجاه الأقصى، ولكن على الأرض، يضع الأردن اليوم قوانينه الخاصة التي لا يخرقها سوى القوة الإسرائيلية عبر اقتحامات متكررة للمكان. يكلف المسجد الأقصى، وزارة الأوقاف الأردنية، كل عام نحو سبعة ملايين دينار أردني، إضافة إلى تكلفة مشاريع المبادرات الملكية التي يتم تنفيذها لإعمار وترميم المسجد الأقصى المبارك ومرافقه المختلفة والتي تزيد على 3.5 مليون دولار بتبرع شخصي من الملك عبد الله الثاني، ومن بين الأماكن التي تشرف عليها الأوقاف الأردنية، عشرات المدارس التابعة للمسجد.
«لا أحد يمكن له أن يغير الأمر الواقع في هذه المرحلة» قال مسؤول فلسطيني لـ«الشرق الأوسط». وأضاف «وحده قيام دولة فلسطينية بشكل واقعي يمكن أن يغير هذه الأمر». لكن شكل الاتفاق بين الأردن والسلطة في حال قيام الدولة حول المسجد يبقى غامضا. وقال المسؤول إن ثمة سيناريوهات مختلفة للتعاون، أهمها قيام كونفيدرالية بين فلسطين والأردن.
وفي مرات سابقة، ناقش الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع العاهل الأردني مسألة الكونفيدرالية هذه، ورد الملك «في حالة قيام الدولة الفلسطينية لكل حادث حديث».
لمحات تاريخية:
حول تاريخ هذه الوصاية، يقول الأمين العام للجنة الملكية لشؤون القدس، عبد الله كنعان، إنها انطلقت عام 1924، حينما أرسل رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين الحاج أمين الحسيني رسالة إلى الأمير عبد الله بن حسين طالبا منه أن يكون وصيا ومشرفا على عمارة المقدسات الإسلامية في القدس، وصيانته من الأخطار المتراكمة من جراء طول الزمن وغياب الأسس الهندسية الصحيحة في الإعمارات السابقة حيث تبرع بـ38 ألف ليرة ذهبية من ماله الخاص إضافة إلى تبرعات قدمت من العراق والهند وعدد من الدول الإسلامية.
ويشير كنعان لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه كان يجري التنسيق في أعمال الإعمار بين الحاج أمين الحسيني والأمير عبد الله بن الحسين الذي كان أميرا على إمارة شرق الأردن من خلال رسائل متبادلة بين الطرفين، ويوجد بعض هذه الرسائل في أرشيف لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة.. ثم انتقل هذا الدور من الشريف الحسين بن علي إلى ابنه الملك عبد الله ثم إلى الملك الراحل الحسين بن طلال واستمر إلى عهد الملك عبد الله الثاني بن الحسين.
فالدور الأردني الهاشمي في الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك وحماية مقدساته وإعمارها وصيانتها قد مرّ بمراحل طويلة زادت على الثمانية عقود، وهو مستمر رغم الظروف السياسية الصعبة والمعقدة. أما بالنسبة إلى المقدسات المسيحية فقد منح الهاشميون خلال فترة حكمهم للضفة الغربية من 1967 - 1952 الحرية المطلقة للطوائف المسيحية المختلفة لصيانة وإعمار كنائسهم وأديرتهم. وتم إعمار كنيسة القيامة خلال العهد الهاشمي وقبل الاحتلال الإسرائيلي في عام 1967 إعمارا شاملا شمل القبة والجدران.
ويقول مراقبون إن الأردن لا ينظر للقضية الفلسطينية والقدس على أنها قضية قومية أو قضية تخص طرفا دون آخر، فهي قضية وطنية أردنية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأمن الوطني الأردني. ولم يكن قرار الأردن بفك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية باستثناء القدس والأماكن والمقدسات الإسلامية في الضفة الغربية إلا لسحب البساط من تحت أقدام جميع الراغبين في اللعب على التناقض الفلسطيني - الأردني، بشأن السيادة على الضفة الغربية والقدس وصد الأبواب أمام كل الساعين إلى توريط الأردن في تسويات بدلا من الفلسطينيين، ويعزز الثقة بين القيادتين الأردنية والفلسطينية ويؤسس لعلاقات أردنية - فلسطينية متكافئة وأخوية لها صفة الديمومة والسعي نحو علاقة مؤسسية مستقبلية بين شعبي البلدين وبملء إرادتهما الحرة، ويلغي إلى الأبد فكرة الوطن البديل. وقد استثنيت القدس من قرار فك الارتباط القانوني والإداري حفاظا على أماكنها المقدسة الإسلامية والمسيحية وتجاوبا مع واجب الهاشميين التاريخي في الوصاية على هذه المقدسات ورعايتها وهو ما كرسته اتفاقية الوصاية التي وقعها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس في مارس العام الماضي لتكريس شرعية وقانونية هذه الوصاية الممتدة عبر التاريخ.
وقد حظيت القدس والمسجد الأقصى المبارك برعاية خاصة من الهاشميين من خلال أربعة إعمارات متميزة وعظيمة للمسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة في إطار عنايتهم الشاملة للمدينة المقدسة. ويعزز الإعمار الهاشمي في المدينة الهوية العربية الإسلامية لها في شقيها العمراني بإعادة بناء واستدامة المقدسات فيها وتقديم الدعم المالي والمعنوي بما يسهم في الإبقاء على أهلها صامدين.
فكانت الصناديق الهاشمية ولجان الإعمار الموجهة لهذه الغاية دلائل على نهوض القيادة الهاشمية بدورها الديني والتاريخي في استكمال مسيرة العهد والولاء لمدينة المساجد.
ويرى كنعان أن الدوافع الداخلية الأردنية والفلسطينية التي أملت هذه الاتفاقية من خلال تبديد الشكوك المتبادلة لدى الطرف الفلسطيني والأردني من خلال ضم كل منهما عضوا من الطرف الآخر في مفاوضاته مع إسرائيل التي كانت تعمل على الدوام على زرع الشكوك واستنبات عدم ثقة كل طرف بالآخر.
- رفض الأردن أن يكون بديلا للفلسطينيين في مفاوضات السلام ومقاومته بنجاح لكل محاولات استدراجه إلى الفخ الإسرائيلي بإغرائه باستعدادها لإعادة أجزاء من الضفة الغربية إليه ليكون الدرع الأمني لها في مواجهة الفلسطينيين.
- رفض الطرف الفلسطيني شعبا ومنظمة وفصائل كل محاولات إسرائيل لاستدراجه إلى الفخ الإسرائيلي من خلال مغريات الوطن البديل.
- امتناع الأردن على اللعب على الخلافات الفلسطينية الفلسطينية وانتهاجه سياسة تصالحية على صعيد الداخل الفلسطيني والعمل على إقناع الوسيط الأميركي والإدارات الأميركية المتعاقبة بأن مصالحها الحيوية الإقليمية والدولية تقتضي منها الضغط على إسرائيل لتمرير حل الدولتين بدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة كاملة وقابلة للحياة على حدود الرابع من يونيو عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير. إذ إن الإدارات الأميركية على قناعة تامة بتشخيص الملك عبد الله الثاني لأم المشكلات وهي القضية الفلسطينية والطريق الموصل إلى حلها لا يمكن له أن يتعدى إقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشرقية. كل هذه العوامل ساهمت في تبديد شكوك كل طرف بالآخر وعززت الثقة المتبادلة بين الطرفين وفتحت الطريق أمام تنسيق كامل لسياسة البلدين تجاه القضية الفلسطينية ودولتها المنتظرة، الأمر الذي بلغ قمته في توقيع هذه الاتفاقية.
ويضيف كنعان أن الأردن أثبت من خلال استثنائه للمقدسات الإسلامية وفي مقدمته المسجد الأقصى بمساحته الكاملة (144) دونما بأنه قادر على الحيلولة دون تمكن إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، من وضع يدها على الأقصى والمقدسات الإسلامية وإلحاقها بوزارة الأديان الإسرائيلية. وهو قادر على الاستمرار في أداء واجبه الوطني والقومي والإسلامي نحوها لا سيما إذا تلقى الدعم اللازم من الأشقاء العرب والمسلمين ومن محبي السلام على الصعيد الدولي.
ويرى كنعان أن تراجع الكنيست عن مناقشة سحب الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، جنب إسرائيل ليس غضب المسلمين والمسيحيين فقط بل غضب المجتمع الدولي والدول الكبرى بالذات التي تحاول جاهدة عقد اتفاقية سلام دائم بين العرب وبينها من خلال قيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وأعرب كنعان عن أسفه بسبب التقصير العربي والإسلامي تجاه القدس وفلسطين.. متسائلا: أين تنفيذ قرارات القمم العربية والإسلامية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وبالقدس والمقدسات بالذات، مشيرا إلى أن الملايين التي تم تخصيصها من أجل القدس في قمة سرت والبالغة 500 مليون دولار لم يصل منها إلا نحو 40 مليون دولار أما المليار دولار التي خصصتها قمة الدوحة الأخيرة «فلا ندري كم وصل منها».

* نص اتفاقية الدفاع عن القدس
* نص اتفاقية الدفاع عن القدس والمقدسات بين رئيس دولة فلسطين محمود عباس، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في 31 مارس (آذار) 2013:
يعمل جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين بصفته صاحب الوصاية وخادم الأماكن المقدسة في القدس على بذل الجهود الممكنة لرعاية والحفاظ على الأماكن المقدسة في القدس وبشكل خاص الحرم القدسي الشريف وتمثيل مصالحها في سبيل:
(‌أ) تأكيد احترام الأماكن المقدسة في القدس.
(‌ب) تأكيد حرية جميع المسلمين في الانتقال إلى الأماكن المقدسة الإسلامية ومنها وأداء العبادة فيها بما يتفق وحرية العبادة.
(‌ج) إدارة الأماكن المقدسة الإسلامية وصيانتها بهدف:
(1) احترام مكانتها وأهميتها الدينية والمحافظة عليهما.
(2) تأكيد الهوية الإسلامية الصحيحة والمحافظة على الطابع المقدس للأماكن المقدسة.
(3) احترام أهميتها التاريخية والثقافية والمعمارية وكيانها المادي والمحافظة على ذلك كله.
(‌د) متابعة مصالح الأماكن المقدسة وقضاياها في المحافل الدولية ولدى المنظمات الدولية المختصة بالوسائل القانونية المتاحة.
(‌هـ) الإشراف على مؤسسة الوقف في القدس وممتلكاتها وإدارتها وفقا لقوانين المملكة الأردنية الهاشمية.
2 - 2 يستمر ملك المملكة الأردنية الهاشمية، بصفته صاحب الوصاية وخادم الأماكن المقدسة في القدس ببذل المساعي للتوصل إلى تنفيذ المهام المشار إليها في المادة 2 - 1 من هذه الاتفاقية.
2 - 3 تعترف منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية بدور ملك المملكة الأردنية الهاشمية المبين في الفقرتين (1) و(2) من هذه المادة الثانية وتلتزمان باحترامه.
المادة الثالثة:
3 - 1 لحكومة دولة فلسطين، باعتبارها المجسدة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ممارسة السيادة على جميع أجزاء إقليمها بما في ذلك القدس.
3 - 2 يسعى ملك المملكة الأردنية الهاشمية، والرئيس الفلسطيني للتنسيق والتشاور حول موضوع الأماكن المقدسة كلما دعت الضرورة.
تم تحرير هذه الاتفاقية باللغة العربية وتوقيعها في العاصمة الأردنية عمان هذا اليوم الواقع في 19 جمادى الأول 1434 للهجرة الموافق لـ31 آذار 2013 ميلادية



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.