لم يأت انتخاب بول رايان رئيسا جديدا لمجلس النواب الأميركي مفاجأة داخل الأوساط السياسية في الولايات المتحدة. فعلى امتداد 17 سنة أمضاها رايان نائبا في المجلس عن مقاطعة جاينزفيل بولاية ويسكونسن، نجح في جذب الأضواء إليه بعد جهوده في ملفات اقتصادية مهمة وشائكة داخل الكونغرس.
فقد برز اسم رايان بعد وضعه مقترحات لتعديل برنامج الرعاية الصحية ورسم خطة محكمة لإعادة هيكلة قانون الضرائب، ومقترحات لتقليل النفقات وتوفير الضمان الصحي للمسنين. كذلك شغل رايان منصب رئيس لجنتين من أهم وأقوى لجان مجلس النواب الأميركي، هما لجنة الميزانية ولجنة المواصلات.
في عام 2012 اختاره ميت رومني مرشح الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية ليكون نائبه من منطلق إعجابه بأفكاره القيادية، إلا أن رومني - كما هو معروف - خسر الانتخابات أمام الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن.
في الواقع، لم يسع النائب عن ولاية ويسكونسن إلى منصب رئيس مجلس النواب، بل سعى المنصب إليه بضغوط من قادة الحزب الجمهوري، الذين اعتبروا أن رايان يملك المؤهلات المطلوبة للمنصب، وأنه السياسي الأقدر على توحيد صفوف الجمهوريين المنقسمين على أنفسهم. وبالفعل، تردّد رايان في تولي المنصب، لكنه استجاب في النهاية لضغوط قادة الحزب بعد انسحاب النائب كيفن ماكارثي الذي كان الأقرب إلى المنصب. ثم إنه، قبل أن يقبل ترشيحه رسميا، طالب بأن يتّحد خلفه ساسة الحزب الجمهوري بكل أجنحته وتياراته، وأن يحصل على دعم تيار اليمين المتشدد والمحافظين داخل الحزب جنبا إلى جنب مع أصوات المعتدلين.
وحقا، نجح رايان (45 سنة)، الذي يصف نفسه بأنه من «صقور» الحزب - أي متشدديه - في قضايا الميزانية بحصد أصوات 236 صوتا من مجلس النواب بكامل هيئته (إجمالي 435 عضوا) خلال عملية الاقتراع التي أجريت أخيرا، وبذا غدا الرئيس الرابع والخمسين في تاريخ مجلس النواب الأميركي، بل، والرئيس الأصغر سنا بين كل من تقلدوا هذا المنصب الرفيع منذ الحرب الأهلية الأميركية، أي منذ 140 سنة. وللعلم، وفقا للدستور الأميركي، يُعد رئيس مجلس النواب الرجل الثالث في هرم السلطة في الولايات المتحدة بعد الرئيس ونائبه.
في كلمته الأولى أمام الكونغرس بعد انتخابه، ركّز رايان على أهمية عمل كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي معا، والاستماع إلى وجهات النظر المتعارضة، والتأكيد على أن النقاش والخلافات جزء ضروري من العملية التشريعية، داعيا إلى «قدر أكبر من الاحترام والعمل لجعل الشعب الأميركي أكثر وحدة وأكثر حرية».
وحقا، فإن فكرة توحيد الحزب والاتفاق على أرضية مشتركة هي القضية الأساسية التي تشغل بول رايان اليوم بعدما كادت تمزق الحزب الجمهوري خلافات طاحنة بين تياري المعتدلين والمتشددين، بلغت حد دفع رئيس مجلس النواب السابق جون بوينر إلى تقديمه استقالته في أعقاب الهجوم الضاري الذي شنه أعضاء متشددون في الحزب عليه، واتهامهم إياه بالتراخي والتخاذل والتلكؤ في الوقوف بحزم في وجه سياسات إدارة الرئيس أوباما وحزبه الديمقراطي.
جدير بالذكر أن الحزب الجمهوري عانى طويلا من صراع داخلي في ظل تنامي أصوات الجناح المتشدد من الجمهوريين لا سيما التجمع المحافظ الذي يطلق عليه اسم «حفلة الشاي». ولقد تسبب هذا الصراع الداخلي بكثير من الأزمات داخل الكونغرس، كان أبرزها إغلاق الحكومة الفيدرالية في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 بعد فشل تيارات الحزب في الاتفاق على استراتيجية تجنب الإغلاق الحكومي.
ولذا دعا رايان إلى طي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة. وخلال الأيام القليلة الماضية خرج رايان في أربعة حوارات تلفزيونية يطالب الحزب بتوحيد الصفوف وتبنّي سياسات جيدة والالتفاف حول أفكار كبيرة. وقال رايان في برنامج «واجه الصحافة» على شبكة «إن بي سي» الأحد الماضي: «كان الحزب قويا في التكتيكات، لكنه خجول في الخروج بأفكار وسياسات، وهذا هو ما علينا القيام به». كذلك قال الرئيس الجديد لمجلس النواب: «ما علينا فعله هو الالتفاف حول مجموعة مشتركة من المبادئ وتطبيقها على المشاكل وإعطاء البلاد خيارا جريئا».
في المقابل، يرى محللون أن هدف رايان في توحيد الحزب الجمهوري وتحقيق التوافق في الآراء بين أعضائه سيكون تحديا كبيرا بالنسبة له. وهذا أمر يدركه الرئيس الجديد الذي قال في حواراته التلفزيونية بصراحة: «ليس لديّ سبب للاعتقاد أن الحزب الجمهوري سيظهر فجأة في حالة وحدة وطنية بين عشية وضحاها». بل ذهب بعض المحللين لأبعد من ذلك، قائلين إن رايان دخل بقدميه إلى «عش دبابير»، حيث سيواجه سلسلة من القضايا الخلافية التي يمكن أن تقوّض قبضته على مجلس النواب، وهذا في إشارة إلى أن الحزب الجمهوري يواجه أزمة وجودية مع المشاحنات والخلافات بين فصائله وطبقاته الآيديولوجية. وسيضطر رايان إلى خوض معارك مالية طاحنة داخل الحزب وخارجه، وهي المعركة التي قسمت الجمهوريين منذ حقق الحزب السيطرة على مجلس النواب في انتخابات عام 2010.
بالتحديد، أبرز تحدٍ يواجهه رايان هو تحفيز الحزب الجمهوري للخروج ببرنامج جيد للسياسة الضريبية، وتقديم بديل جيد لبرنامج الرعاية الصحية الذي طرحه الرئيس أوباما، المعروف باسم «أوباما كير». وهو التحدي الذي واجهه سلفه جون بوينر الذي حاول عبثا توحيد الحزب خلف مقترحات بديلة لبرنامج «أوباما كير»، وخرجت عدة مشاريع قوانين لكن الجمهوريين لم يتمكنوا من التوافق حول فكرة أو مقترح أو مشروع قانون.
رغم هذا، نجح بوينر قبل أن يترك منصبه في تمرير موافقة على ميزانية لمدة سنتين، وتمديد سقف الدين حتى عام 2017، مما مهد لرايان القدرة على بدء التفاوض بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ حول سياسات التمويل للميزانية. وسيكون الآن أمام رئيس النواب الجديد العمل للتوصل إلى اتفاق بشأن مشروع قانون الاتفاق الشامل كي يصبح قانونا قبل انتهاء التمويل الحالي بحلول 11 ديسمبر (كانون الأول) والتصدي للقضايا الشائكة مثل قانون الرعاية الصحية بأسعار مناسبة، وتنظيم الأسرة، وإعادة العلاقات مع كوبا، وغيرها. وهنا لا بد من القول بأن رايان نفسه كان قد حاول توحيد الحزب للحصول على موافقته لاستخدام عوائد الضرائب على الشركات لتمويل قانون للطرق السريعة، لكنه لم يستطع تحقيق ذلك.
رايان وأوباما وماكونيل
من جهة أخرى، يترقب المحللون كيف ستكون العلاقة بين رئيس مجلس النواب الجديد، والرئيس أوباما، وشكل الديناميكية التي ستكون بينهما، ومساحات التعاون والاختلاف، ومدى التعاون بين موظفي الرئيس في البيت الأبيض وموظفي رئيس المجلس.
وفي هذا المجال، استبق رايان أي لقاءات مرتقبة مع أوباما معلنا في حواره مع شبكة «سي إن إن» أنه يرفض التعاون مع أوباما في ملف الهجرة، رافضا أي تعديل محتمل قبل عام 2017، وأردف: «لماذا نقر قانونا حول موضوع يثير انقساما مع رئيس لا يمكن الوثوق به؟».
لكن هناك ثنائيا آخر ستكشف الأيام مدى التقارب والتباعد بينهما، هما رايان وزعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل (73 سنة). والسؤال المطروح هو ما إذا كان بمقدور الرجلين دفع جدول أعمال الحزب والمضي قدما في قضايا السياسة مع اقتراب انتخابات الرئاسة العام المقبل، بحيث يتجنب الحزب حالة الفوضى قبل التوجه للانتخابات. وفي هذا الصدد يقول روجر ويليامز، النائب عن ولاية تكساس: «أعتقد أنه ستكون هناك خطوط اتصال بين رايان وماكونيل خاصة أنهما يرتبطان بعلاقة مهنية ودية بكل المقاييس». مع هذا، يقول المقربون من رايان إنه يريد مواصلة الدفع بمبادراته، مثل إعادة هيكلة قانون الضرائب لتمويل مشاريع الطرق السريعة، في حين يعارض ماكونيل سرا وعلانية مناقشة تعديل قانون الضرائب لتمويل مشاريع الطرق، وهو يريد ضمه إلى مشروع قانون إصلاح ضرائب موسع، معتبرا أنه ليس هناك الوقت الكافي للتوصل إلى اتفاق على هذا التشريع الضريبي المعقد خلال الشهور المتبقية من حكم أوباما. لكن، إذا تمكن مجلسا الشيوخ والنواب من التوافق حول مشروع موحّد فإن هذا سيكون بمثابة فوز كبير لكل من رايان وماكونيل.
وحول التحديات الأخرى التي يواجهها رئيس مجلس النواب الجديد يقول البروفسور ماثيو غرين، أستاذ الدراسات البرلمانية بالجامعة الكاثوليكية في واشنطن: «أمام رئيس مجلس النواب بول رايان مهمتان رئيستان: فهو يحتاج إلى تهدئة الخلافات داخل حزبه وتهدئة مخاوف وقلق الناخبين حول الحزب، حتى يغدو بإمكان الحزب الجمهوري مساعدة مرشحه في السباق الرئاسي إلى البيت الأبيض».
ومن جانبه، يرى آرثر بروكس، رئيس معهد «أميركان إنتربرايز»، أنه «لا يوجد داخل الحزب الجمهوري من هو أفضل من رايان للقيام بمهمة توحيد الحزب، وهو الذي قدم خلال السنوات الماضية مقترحات حول تعديل الميزانية والضرائب، ومقترحات لعلاج مشاكل الفقر، وتقليص البرامج الحكومية، وتوسيع فرص الأفراد، وتحويل الرعاية الصحية إلى نظام القسائم. لذا فهو الشخص المثالي لقيادة مجلس النواب». ويضيف: «إن أفضل طريقة للنجاح هي توسيع القيادة، أي إعطاء المزيد من الفرص لوجهات النظر المعارضة، وعرض المزيد من الأفكار والرؤى. وهذا ما يحاول رايان القيام به، وأحد الأسباب التي دفعت أعضاء مجلس النواب للتصويت لصالحه. لقد وعد رايان بإدارة مجلس النواب من أسفل إلى أعلى، وليس من أعلى إلى أسفل (أي من قاعدة النواب إلى رئيس المجلس وليس العكس)». ويشير إلى أن رايان - الذي يتمتع بملامح رياضية تضيف مظهرا شبابيا للحزب الذي يعجّ بكبار السن كما يتمتع بقدرات بلاغية ومهارة في التعبير عن أفكاره وقناعات الفكرية بسهولة - يحظى بقبول المحافظين المتشددين، وفي الوقت نفسه يشيد الجمهوريون المعتدلون بطموحه وقدراته السياسية وأفكاره الاقتصادية.
سيرة شخصية
ولد بول ديفيز رايان في 29 يناير (كانون الثاني) 1970 في مدينة جاينزفيل بولاية ويسكونسن، بشمال الولايات المتحدة، لأب من أصول آيرلندية اسمه بول موراي رايان كان يعمل محاميا، وأم من أصل ألماني إنجليزي. وهو الولد الأصغر بين إخوته الأربعة. تربى رايان في بيئة منزلية ومدرسية كاثوليكية، إذ درس في مدرسة كاثوليكية في جاينزفيل، وكان نشطا في رياضات التزلج وكرة السلة وكرة القدم. غير أنه صدم في سن السادسة عشرة بمأساة وفاة والده إثر نوبة قلبية، وهو ما دفعه لممارسة الرياضة بكثافة.
حصل رايان على درجة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة ميامي بمدينة أكسفورد في ولاية أوهايو، وعلى شهادة البكالوريوس في الآداب عام 1992. وخلال سنوات الدراسة عمل نادلا ومدربا للياقة البدنية، وانخرط في وظائف أخرى لتغطية مصاريفه الجامعية. وبعد التخرج شق رايان طريقه السياسي موظفا متدربا في الكونغرس بمكتب السيناتور بوب كاستن، العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ عن ولاية ويسكونسن، ثم أصبح مساعدا له. وفي عام 1997 عاد رايان إلى ويسكونسن حيث عمل لمدة سنة مستشار تسويق لشركة البناء رايان إنكوربوريتد التي يمتلكها أقاربه.
انتخب رايان لأول مرة عضوا في مجلس النواب عام 1998، وأعيد انتخابه ثماني مرات ملحقا هزائم مريرة بمنافسيه من الديمقراطيين. وفي عام 2007 أصبح رايان عضوا بارزا في لجنة الميزانية بمجلس النواب، ثم انتخب رئيسا لها في عام 2011 بعد سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب. وخلال عمله في مجلس النواب رعى أكثر من 70 مشروع قانون وتعديلا، وكان من المؤيدين لتخفيضات الرئيس جورج بوش «الابن» الضريبية وخطط إنقاذ صناعة السيارات. وفي عام 2008 قدّم رايان «خريطة طريق» لمستقبل أميركا عرفت باسم «ميزانية رايان»، واقترح تخفيضات للضرائب عن طريق خفض معدلات ضريبة الدخل والقضاء على ضرائب الدخل على الأرباح الرأسمالية وأرباح الأسهم والفائدة وإلغاء الضريبة العقارية.
وأثناء عمله التشريعي صوت رايان ضد قانون الرعاية الصحية الذي طرحه الرئيس أوباما «أوباما كير» عام 2010، وشارك مع غيره من الجمهوريين اليمينيين المحافظين في وضع تدابير لتقييد الإجهاض وفرض عقوبات على الأطباء الذين يجرون عمليات الإجهاض، كما عارض كغيره من اليمينيين المحافظين زواج المثليين. ومنذ 2013 قاد جهودا لتعديل برامج لمكافحة الفقر داخل الولايات الأميركية. أما على صعيد السياسة الخارجية فكان رايان من الجمهوريين الذين صوتوا لصالح استخدام القوة العسكرية في العراق، كما أيد زيادة الإنفاق على الحرب في أفغانستان وفي الإنفاق على منظومات الأسلحة المختلفة.
رايان متزوج من المحامية جانا ليتل، ولديهما ثلاثة أطفال هم ليزا وتشارلز وسام. وهو يعد من الأتباع النشطين في كنيسة القديس جون (مار يوحنا) الكاثوليكية. كما يعرف عنه شغفه بموسيقى الهارد روك.
رئيس مجلس النواب الأميركي الجديد يصفه محبوه بأنه رجل الأفكار الجديدة، ويشيدون بمهارته في اختيار التوقيت المناسب لعرض أفكاره، ولقد وصفه الرئيس السابق جورج بوش بأنه «رجل الرؤى والأفكار».