بول رايان.. رجل الأفكار الاقتصادية

رئيس مجلس النواب الأميركي الجديد يسعى لتوحيد الجمهوريين المعتدلين والمتشددين قبل الانتخابات

بول رايان.. رجل الأفكار الاقتصادية
TT

بول رايان.. رجل الأفكار الاقتصادية

بول رايان.. رجل الأفكار الاقتصادية

لم يأت انتخاب بول رايان رئيسا جديدا لمجلس النواب الأميركي مفاجأة داخل الأوساط السياسية في الولايات المتحدة. فعلى امتداد 17 سنة أمضاها رايان نائبا في المجلس عن مقاطعة جاينزفيل بولاية ويسكونسن، نجح في جذب الأضواء إليه بعد جهوده في ملفات اقتصادية مهمة وشائكة داخل الكونغرس.
فقد برز اسم رايان بعد وضعه مقترحات لتعديل برنامج الرعاية الصحية ورسم خطة محكمة لإعادة هيكلة قانون الضرائب، ومقترحات لتقليل النفقات وتوفير الضمان الصحي للمسنين. كذلك شغل رايان منصب رئيس لجنتين من أهم وأقوى لجان مجلس النواب الأميركي، هما لجنة الميزانية ولجنة المواصلات.

في عام 2012 اختاره ميت رومني مرشح الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية ليكون نائبه من منطلق إعجابه بأفكاره القيادية، إلا أن رومني - كما هو معروف - خسر الانتخابات أمام الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن.
في الواقع، لم يسع النائب عن ولاية ويسكونسن إلى منصب رئيس مجلس النواب، بل سعى المنصب إليه بضغوط من قادة الحزب الجمهوري، الذين اعتبروا أن رايان يملك المؤهلات المطلوبة للمنصب، وأنه السياسي الأقدر على توحيد صفوف الجمهوريين المنقسمين على أنفسهم. وبالفعل، تردّد رايان في تولي المنصب، لكنه استجاب في النهاية لضغوط قادة الحزب بعد انسحاب النائب كيفن ماكارثي الذي كان الأقرب إلى المنصب. ثم إنه، قبل أن يقبل ترشيحه رسميا، طالب بأن يتّحد خلفه ساسة الحزب الجمهوري بكل أجنحته وتياراته، وأن يحصل على دعم تيار اليمين المتشدد والمحافظين داخل الحزب جنبا إلى جنب مع أصوات المعتدلين.
وحقا، نجح رايان (45 سنة)، الذي يصف نفسه بأنه من «صقور» الحزب - أي متشدديه - في قضايا الميزانية بحصد أصوات 236 صوتا من مجلس النواب بكامل هيئته (إجمالي 435 عضوا) خلال عملية الاقتراع التي أجريت أخيرا، وبذا غدا الرئيس الرابع والخمسين في تاريخ مجلس النواب الأميركي، بل، والرئيس الأصغر سنا بين كل من تقلدوا هذا المنصب الرفيع منذ الحرب الأهلية الأميركية، أي منذ 140 سنة. وللعلم، وفقا للدستور الأميركي، يُعد رئيس مجلس النواب الرجل الثالث في هرم السلطة في الولايات المتحدة بعد الرئيس ونائبه.
في كلمته الأولى أمام الكونغرس بعد انتخابه، ركّز رايان على أهمية عمل كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي معا، والاستماع إلى وجهات النظر المتعارضة، والتأكيد على أن النقاش والخلافات جزء ضروري من العملية التشريعية، داعيا إلى «قدر أكبر من الاحترام والعمل لجعل الشعب الأميركي أكثر وحدة وأكثر حرية».
وحقا، فإن فكرة توحيد الحزب والاتفاق على أرضية مشتركة هي القضية الأساسية التي تشغل بول رايان اليوم بعدما كادت تمزق الحزب الجمهوري خلافات طاحنة بين تياري المعتدلين والمتشددين، بلغت حد دفع رئيس مجلس النواب السابق جون بوينر إلى تقديمه استقالته في أعقاب الهجوم الضاري الذي شنه أعضاء متشددون في الحزب عليه، واتهامهم إياه بالتراخي والتخاذل والتلكؤ في الوقوف بحزم في وجه سياسات إدارة الرئيس أوباما وحزبه الديمقراطي.
جدير بالذكر أن الحزب الجمهوري عانى طويلا من صراع داخلي في ظل تنامي أصوات الجناح المتشدد من الجمهوريين لا سيما التجمع المحافظ الذي يطلق عليه اسم «حفلة الشاي». ولقد تسبب هذا الصراع الداخلي بكثير من الأزمات داخل الكونغرس، كان أبرزها إغلاق الحكومة الفيدرالية في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 بعد فشل تيارات الحزب في الاتفاق على استراتيجية تجنب الإغلاق الحكومي.
ولذا دعا رايان إلى طي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة. وخلال الأيام القليلة الماضية خرج رايان في أربعة حوارات تلفزيونية يطالب الحزب بتوحيد الصفوف وتبنّي سياسات جيدة والالتفاف حول أفكار كبيرة. وقال رايان في برنامج «واجه الصحافة» على شبكة «إن بي سي» الأحد الماضي: «كان الحزب قويا في التكتيكات، لكنه خجول في الخروج بأفكار وسياسات، وهذا هو ما علينا القيام به». كذلك قال الرئيس الجديد لمجلس النواب: «ما علينا فعله هو الالتفاف حول مجموعة مشتركة من المبادئ وتطبيقها على المشاكل وإعطاء البلاد خيارا جريئا».
في المقابل، يرى محللون أن هدف رايان في توحيد الحزب الجمهوري وتحقيق التوافق في الآراء بين أعضائه سيكون تحديا كبيرا بالنسبة له. وهذا أمر يدركه الرئيس الجديد الذي قال في حواراته التلفزيونية بصراحة: «ليس لديّ سبب للاعتقاد أن الحزب الجمهوري سيظهر فجأة في حالة وحدة وطنية بين عشية وضحاها». بل ذهب بعض المحللين لأبعد من ذلك، قائلين إن رايان دخل بقدميه إلى «عش دبابير»، حيث سيواجه سلسلة من القضايا الخلافية التي يمكن أن تقوّض قبضته على مجلس النواب، وهذا في إشارة إلى أن الحزب الجمهوري يواجه أزمة وجودية مع المشاحنات والخلافات بين فصائله وطبقاته الآيديولوجية. وسيضطر رايان إلى خوض معارك مالية طاحنة داخل الحزب وخارجه، وهي المعركة التي قسمت الجمهوريين منذ حقق الحزب السيطرة على مجلس النواب في انتخابات عام 2010.
بالتحديد، أبرز تحدٍ يواجهه رايان هو تحفيز الحزب الجمهوري للخروج ببرنامج جيد للسياسة الضريبية، وتقديم بديل جيد لبرنامج الرعاية الصحية الذي طرحه الرئيس أوباما، المعروف باسم «أوباما كير». وهو التحدي الذي واجهه سلفه جون بوينر الذي حاول عبثا توحيد الحزب خلف مقترحات بديلة لبرنامج «أوباما كير»، وخرجت عدة مشاريع قوانين لكن الجمهوريين لم يتمكنوا من التوافق حول فكرة أو مقترح أو مشروع قانون.
رغم هذا، نجح بوينر قبل أن يترك منصبه في تمرير موافقة على ميزانية لمدة سنتين، وتمديد سقف الدين حتى عام 2017، مما مهد لرايان القدرة على بدء التفاوض بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ حول سياسات التمويل للميزانية. وسيكون الآن أمام رئيس النواب الجديد العمل للتوصل إلى اتفاق بشأن مشروع قانون الاتفاق الشامل كي يصبح قانونا قبل انتهاء التمويل الحالي بحلول 11 ديسمبر (كانون الأول) والتصدي للقضايا الشائكة مثل قانون الرعاية الصحية بأسعار مناسبة، وتنظيم الأسرة، وإعادة العلاقات مع كوبا، وغيرها. وهنا لا بد من القول بأن رايان نفسه كان قد حاول توحيد الحزب للحصول على موافقته لاستخدام عوائد الضرائب على الشركات لتمويل قانون للطرق السريعة، لكنه لم يستطع تحقيق ذلك.
رايان وأوباما وماكونيل
من جهة أخرى، يترقب المحللون كيف ستكون العلاقة بين رئيس مجلس النواب الجديد، والرئيس أوباما، وشكل الديناميكية التي ستكون بينهما، ومساحات التعاون والاختلاف، ومدى التعاون بين موظفي الرئيس في البيت الأبيض وموظفي رئيس المجلس.
وفي هذا المجال، استبق رايان أي لقاءات مرتقبة مع أوباما معلنا في حواره مع شبكة «سي إن إن» أنه يرفض التعاون مع أوباما في ملف الهجرة، رافضا أي تعديل محتمل قبل عام 2017، وأردف: «لماذا نقر قانونا حول موضوع يثير انقساما مع رئيس لا يمكن الوثوق به؟».
لكن هناك ثنائيا آخر ستكشف الأيام مدى التقارب والتباعد بينهما، هما رايان وزعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل (73 سنة). والسؤال المطروح هو ما إذا كان بمقدور الرجلين دفع جدول أعمال الحزب والمضي قدما في قضايا السياسة مع اقتراب انتخابات الرئاسة العام المقبل، بحيث يتجنب الحزب حالة الفوضى قبل التوجه للانتخابات. وفي هذا الصدد يقول روجر ويليامز، النائب عن ولاية تكساس: «أعتقد أنه ستكون هناك خطوط اتصال بين رايان وماكونيل خاصة أنهما يرتبطان بعلاقة مهنية ودية بكل المقاييس». مع هذا، يقول المقربون من رايان إنه يريد مواصلة الدفع بمبادراته، مثل إعادة هيكلة قانون الضرائب لتمويل مشاريع الطرق السريعة، في حين يعارض ماكونيل سرا وعلانية مناقشة تعديل قانون الضرائب لتمويل مشاريع الطرق، وهو يريد ضمه إلى مشروع قانون إصلاح ضرائب موسع، معتبرا أنه ليس هناك الوقت الكافي للتوصل إلى اتفاق على هذا التشريع الضريبي المعقد خلال الشهور المتبقية من حكم أوباما. لكن، إذا تمكن مجلسا الشيوخ والنواب من التوافق حول مشروع موحّد فإن هذا سيكون بمثابة فوز كبير لكل من رايان وماكونيل.
وحول التحديات الأخرى التي يواجهها رئيس مجلس النواب الجديد يقول البروفسور ماثيو غرين، أستاذ الدراسات البرلمانية بالجامعة الكاثوليكية في واشنطن: «أمام رئيس مجلس النواب بول رايان مهمتان رئيستان: فهو يحتاج إلى تهدئة الخلافات داخل حزبه وتهدئة مخاوف وقلق الناخبين حول الحزب، حتى يغدو بإمكان الحزب الجمهوري مساعدة مرشحه في السباق الرئاسي إلى البيت الأبيض».
ومن جانبه، يرى آرثر بروكس، رئيس معهد «أميركان إنتربرايز»، أنه «لا يوجد داخل الحزب الجمهوري من هو أفضل من رايان للقيام بمهمة توحيد الحزب، وهو الذي قدم خلال السنوات الماضية مقترحات حول تعديل الميزانية والضرائب، ومقترحات لعلاج مشاكل الفقر، وتقليص البرامج الحكومية، وتوسيع فرص الأفراد، وتحويل الرعاية الصحية إلى نظام القسائم. لذا فهو الشخص المثالي لقيادة مجلس النواب». ويضيف: «إن أفضل طريقة للنجاح هي توسيع القيادة، أي إعطاء المزيد من الفرص لوجهات النظر المعارضة، وعرض المزيد من الأفكار والرؤى. وهذا ما يحاول رايان القيام به، وأحد الأسباب التي دفعت أعضاء مجلس النواب للتصويت لصالحه. لقد وعد رايان بإدارة مجلس النواب من أسفل إلى أعلى، وليس من أعلى إلى أسفل (أي من قاعدة النواب إلى رئيس المجلس وليس العكس)». ويشير إلى أن رايان - الذي يتمتع بملامح رياضية تضيف مظهرا شبابيا للحزب الذي يعجّ بكبار السن كما يتمتع بقدرات بلاغية ومهارة في التعبير عن أفكاره وقناعات الفكرية بسهولة - يحظى بقبول المحافظين المتشددين، وفي الوقت نفسه يشيد الجمهوريون المعتدلون بطموحه وقدراته السياسية وأفكاره الاقتصادية.
سيرة شخصية
ولد بول ديفيز رايان في 29 يناير (كانون الثاني) 1970 في مدينة جاينزفيل بولاية ويسكونسن، بشمال الولايات المتحدة، لأب من أصول آيرلندية اسمه بول موراي رايان كان يعمل محاميا، وأم من أصل ألماني إنجليزي. وهو الولد الأصغر بين إخوته الأربعة. تربى رايان في بيئة منزلية ومدرسية كاثوليكية، إذ درس في مدرسة كاثوليكية في جاينزفيل، وكان نشطا في رياضات التزلج وكرة السلة وكرة القدم. غير أنه صدم في سن السادسة عشرة بمأساة وفاة والده إثر نوبة قلبية، وهو ما دفعه لممارسة الرياضة بكثافة.
حصل رايان على درجة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة ميامي بمدينة أكسفورد في ولاية أوهايو، وعلى شهادة البكالوريوس في الآداب عام 1992. وخلال سنوات الدراسة عمل نادلا ومدربا للياقة البدنية، وانخرط في وظائف أخرى لتغطية مصاريفه الجامعية. وبعد التخرج شق رايان طريقه السياسي موظفا متدربا في الكونغرس بمكتب السيناتور بوب كاستن، العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ عن ولاية ويسكونسن، ثم أصبح مساعدا له. وفي عام 1997 عاد رايان إلى ويسكونسن حيث عمل لمدة سنة مستشار تسويق لشركة البناء رايان إنكوربوريتد التي يمتلكها أقاربه.
انتخب رايان لأول مرة عضوا في مجلس النواب عام 1998، وأعيد انتخابه ثماني مرات ملحقا هزائم مريرة بمنافسيه من الديمقراطيين. وفي عام 2007 أصبح رايان عضوا بارزا في لجنة الميزانية بمجلس النواب، ثم انتخب رئيسا لها في عام 2011 بعد سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب. وخلال عمله في مجلس النواب رعى أكثر من 70 مشروع قانون وتعديلا، وكان من المؤيدين لتخفيضات الرئيس جورج بوش «الابن» الضريبية وخطط إنقاذ صناعة السيارات. وفي عام 2008 قدّم رايان «خريطة طريق» لمستقبل أميركا عرفت باسم «ميزانية رايان»، واقترح تخفيضات للضرائب عن طريق خفض معدلات ضريبة الدخل والقضاء على ضرائب الدخل على الأرباح الرأسمالية وأرباح الأسهم والفائدة وإلغاء الضريبة العقارية.
وأثناء عمله التشريعي صوت رايان ضد قانون الرعاية الصحية الذي طرحه الرئيس أوباما «أوباما كير» عام 2010، وشارك مع غيره من الجمهوريين اليمينيين المحافظين في وضع تدابير لتقييد الإجهاض وفرض عقوبات على الأطباء الذين يجرون عمليات الإجهاض، كما عارض كغيره من اليمينيين المحافظين زواج المثليين. ومنذ 2013 قاد جهودا لتعديل برامج لمكافحة الفقر داخل الولايات الأميركية. أما على صعيد السياسة الخارجية فكان رايان من الجمهوريين الذين صوتوا لصالح استخدام القوة العسكرية في العراق، كما أيد زيادة الإنفاق على الحرب في أفغانستان وفي الإنفاق على منظومات الأسلحة المختلفة.
رايان متزوج من المحامية جانا ليتل، ولديهما ثلاثة أطفال هم ليزا وتشارلز وسام. وهو يعد من الأتباع النشطين في كنيسة القديس جون (مار يوحنا) الكاثوليكية. كما يعرف عنه شغفه بموسيقى الهارد روك.
رئيس مجلس النواب الأميركي الجديد يصفه محبوه بأنه رجل الأفكار الجديدة، ويشيدون بمهارته في اختيار التوقيت المناسب لعرض أفكاره، ولقد وصفه الرئيس السابق جورج بوش بأنه «رجل الرؤى والأفكار».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».