نهوض العرب يتوقف على تطوير الصناعات الثقافية

حمد الكواري لا يرى خلاصًا إلا بالثقافة في كتابه «على قدر أهل العزم»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

نهوض العرب يتوقف على تطوير الصناعات الثقافية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

في جميع المعارك التي يخوضها البشر اليوم، ومن ضمنهم العرب، لا يرى المثقف القطري الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري من خلاص إلا بالثقافة. منها يبدأ كتابه الجديد «على قدر أهل العزم» (دار بلومزبري، لندن).
في هذا الكتاب، يروي الكواري مسيرته مع الفكر والدبلوماسية والإعلام، وإليها يؤوب في الفصول الأخيرة مُستعرضا محرقة الآثار في تدمر والموصل وحلب، وخصوصا جامع خالد بن الوليد وكنيسة أم الزنار في حمص. وكانت للمؤلف علاقة مباشرة، بل وجدانية، مع الشام، ليس فقط لأنه عمل سفيرا في دمشق، وإنما أيضًا لإشرافه على مشروع ترميم المواقع الأثرية بحمص، بعدما تسلم وزارة الثقافة والفنون والتراث في 2008، غير أن المشروع تعطل في أعقاب اندلاع الثورة السورية، لتنقلب أعمال الترميم إلى أعمال تدمير.
يتساءل الكواري في ظل الحروب المجنونة التي تعصف بالعالم: «إلى أين تسير البشرية؟»، مُجيبا: «إلى حتفها وهلاكها بأسلحة الدمار الشامل». وهو يعتقد أن الرهان لتخطي هذا كله ثقافي بالأساس. لكنه لا يتغاضى عن طبيعة الحرائق القومية والمذهبية والدينية المُتأججة اليوم في أصقاع العالم، فهو يعزوها من ضمن عوامل أخرى إلى التوتر بين المحلي والكوني الذي أخرج مخاوف كثيرة من قمقمها، فبات الناس يتساءلون عن مستقبل ثقافاتهم المحلية. وأدى هذا التوتر أحيانا إلى مواقف متطرفة نشرت عدم التسامح، وهي مواقف يربطها الكاتب بنزوع العولمة إلى إخضاع جميع الثقافات إلى معايير وقيم موحدة ترمي إلى صبغ نمط حياة الناس بألوان تقضي على الخصوصيات الثقافية. ولم يقتصر التأذي من هذا «الغزو الثقافي» على المجتمعات النامية ونُخبها، بل نلحظ أن بعض ثقافات البلدان المتقدمة تخشى مما يُسمى «الأمركة» وما تحملُ من تنميط يُرد عليه بـ«الاستثناء الثقافي» أو ما بات يُدعى «التنوع الثقافي». وهو يُشدد هُنا على محورية دور الترجمة في التثاقف والحوار بين الحضارات، مُستدلا بالتجربة اليابانية حيث شكلت الترجمة بين 1750 و1860 الحجم الأكبر من العمل العلمي، مع تأكيده على أن «الأصالة لا ينبغي أن تكون عائقا أمام التحديث ولا الحداثة مُدمرة للأصيل». وبمفهوم أوسع أفقا يُقرر أن معيار التنمية الشاملة يظل مرتبطا بإضفاء البعد الإنساني على مُجمل مُخرجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا تُعبر عن هذا البعد إلا الثقافة بوصفها مجموع السمات المُميزة ماديا وروحيا لمجموعة بشرية ما. من هذه الزاوية التقط الكواري مفارقة كبيرة تتمثل بأن تيار العولمة الزاحف على الثقافات المخصوصة رافقه صعود للمطالب المتصلة بالهويات الثقافية، «فكأن عالمنا يسير على نحو مُتعاكس، إذ كلما تقارب البشر واتجهوا نحو سُلم من القيم والتصورات المشتركة، كان الانكفاء على النفس والنزوع إلى الانطواء على التقاليد الراسخة أقوى»، فالشعوب إذا ما شعرت بالخطر تعض بالنواجذ على مُكونات هويتها، وقد تغدو شرسة في الدفاع عن رموزها لتُضحي تلك الهويات، مثلما وصفها أمين معلوف «هويات قاتلة»، وكأنها تُخاطب العولمة بمنطق رد الفعل.
مع ذلك يعتقد الكاتب أن هذا الواقع الأليم لن يوقف تيار الربط بين الثقافات ومد الجسور بينها، فأبواب الحرية حين تُفتح تُحدث ارتجاجات وهزات، ما يستدعي تتبُع الرؤى الجديدة التي يبتكرها الناس ويُنتجُها الذكاء الإنساني، وما تحمله من توسيع لأفق الحرية وتقريب الشعوب بعضها من بعض، فالحرية على ما يرى الكواري بمخاطرها المُمكنة أفضل من الاستبداد الذي يقضي على إنسانية الإنسان وشروط وجوده الدنيا في التفكير والتعبير والتواصل.
من هذا المنظور يستكشف وزير الثقافة القطري الكوامن التي تزخر بها الثقافة بما هي عنصر تقارب وإدماج للمجتمعات الخليجية، مُعتبرا أن المُراهنة عليها «مصدر قوة للكيان السياسي المنشود وصيغة مُثلى للاستثمار في الإنسان الخليجي على نحو يُخرجه من صورة الإنسان النفطي». وتتبوأ المدرسة موقعا مركزيا في هذا المسار التوحيدي، إذ إن نشر التعليم والتربية في شتى أنحاء العالم ساهم في التوجه نحو المواطنة العالمية». واستطرادا يرى الكواري أن العلاقة بين الاقتصاد والمعرفة والإبداع الثقافي باتت أشد تعقيدا من ذي قبل، فالصناعات الثقافية التي هي مفهوم مُستحدث غدت جزءا أساسيا من إنتاج الثروة وتنمية رأس المال وتثمين الإبداع الفني وإيجاد مهن جديدة. بالمقابل نراهُ لا يتغاضى عن مظاهر عودة «الهمجية البدائية» هذه الأيام، رغم التوجهات العالمية الدالة على ترقي الإنسانية ونمو منسوب الذكاء لديها. والهمجية التي يعنيها الكواري هي تلك التي تجلت في تدمير بعض حملة «الجهل المقدس» آثارا تُمثل متاحف مفتوحة وكنوزا نفيسة، ما يُؤكد أن طريق الإنسانية لحماية نفسها من التخريب والدمار ما زال طويلا.
على الرغم من ضخامة حجم الموت والحقد والجنون الذي تزرعه جماعات الإرهاب في عالمنا العربي، يستكشف المؤلف دوائر الضوء التي تفتحها الثقافة في جدار يبدو مُحبطا لشدة عتمته، إلا أنه لا يستمد ثقته بالتنوير من إحياء الأمجاد (التي لها مكانها في الكتاب) وإنما من قراءة التحولات العميقة التي أبصرها المشهد الثقافي العالمي على نحو جعل من هذا القطاع جزءا لا يتجزأ من عالم الصناعة، إن كانت صناعة إعلام أم صناعات ثقافية. وفي سياق هذا الحفر في دروب المستقبل يتوقف الكواري عند مفهوم حديث هو الصناعات الإبداعية التي اعتبرها فرصة للعرب لتنمية الصادرات وإيجاد فرص عمل جديدة وتحقيق تنمية مُستدامة.
ويذكر لمؤلف بأن التجارة العالمية للسلع والخدمات الإبداعية حققت رقما قياسيا بلغ 624 بليون دولار في 2011 وزادت بأكثر من الضعف بين 2002 و2011، مُقدما تعريفا للاقتصاد الإبداعي بوصفه يشمل المنتجات السمعية البصرية والتصميم ووسائل الإعلام الحديثة والفنون التعبيرية والنشر والفنون البصرية. وهو يشكل إلى ذلك أحد القطاعات الأكثر سرعة في النمو، إذ بلغ المتوسط السنوي لنمو الصادرات الإبداعية في البلدان النامية بين 2002 و2011 أكثر من 12 في المائة. وفي الأرجنتين على سبيل المثال تُشغل الصناعات الثقافية الإبداعية نحو 300 ألف شخص وتُؤمن 3.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أما في المغرب فيُشغل قطاعا النشر والطباعة 1.8 في المائة من القوة العاملة، مع حجم معاملات يفوق 370 مليون دولار. وينتقل الكواري إلى مصطلح مُجاور هو الصناعات الثقافية الذي ظهر في البدء كتعبير ساخر يتهكمُ من الجانب الشعبوي للحياة الثقافية الحديثة، أما اليوم فتُعرفها اليونيسكو بأنها «تلك الصناعات التي تجمع الإبداع والإنتاج والتسويق للمحتويات المادية وغير المادية في طبيعتها، وهي تتخذ شكل السلع أو الخدمات». أما الخاصية المُميزة لها فهي محوريتُها في ترويج التنوع الثقافي والمحافظة عليه وضمان الوصول الديمقراطي (أي المُشاع) إلى الثقافة. مع ذلك هناك تباين بين التصنيف الأوروبي والأميركي للإبداع، فالأول ينتمي أكثر إلى عالم الخيال والابتكار الشخصي والإلهام بمفاهيمه المختلفة، أما في الثاني فيبدو كما لو أنه آلية من ضمن آليات الإنتاج والكسب، وهو بالأحرى «آلية اجتماعية يمكن قياسها لا سيما من زاوية إسهامها في النمو الاقتصادي» مثلما يُلاحظ الكواري.
وبالنظر إلى حداثة المفهوم فإنه ما زال مجالا لعصف ذهني وتنظير يرميان لضبط عناصره وتخومه، وقد اعتبرهُ تقرير الأمم المتحدة الخاص بالإبداع الثقافي، الذي اشتركت في إصداره اليونيسكو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إسهاما ضخما في وضع خطة جديدة للتنمية المستدامة لما بعد 2015، وهي خطة تُنزل الثقافة منزلة القوة المحركة للاقتصاد والتنمية. بهذا المعنى هناك فرصة أمام العرب للاستثمار في الإبداع على رغم الخراب الذي يحل بأجمل الحواضر العربية اليوم، فانتقال جيل من الكتابة بالريشة المصنوعة من القصب إلى اللوحة الرقمية في حيز زمني لا يتجاوز النصف الثاني من القرن الماضي، يُعطي فكرة عن القفزات المعرفية التي يمكن اجتراحُها... متى صح منا العزمُ.

* كاتب وإعلامي تونسي
مقيم في قطر



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.