أثرياء الحرب الليبية يعرقلون عودة الدولة.. بعد تحقيقهم ثروات من صراع الميليشيات

بينهم بائع شطائر وسائق شاحنة ومصلح أجهزة منزلية * مصادر رسمية وبرلمانية تتحدث عن اختفاء مليارات الدولارات وأطنان من الذهب

مقاتل ليبي تابع لقوات حفتر مع سلاحه في مدينة بنغازي (أ.ف.ب)
مقاتل ليبي تابع لقوات حفتر مع سلاحه في مدينة بنغازي (أ.ف.ب)
TT

أثرياء الحرب الليبية يعرقلون عودة الدولة.. بعد تحقيقهم ثروات من صراع الميليشيات

مقاتل ليبي تابع لقوات حفتر مع سلاحه في مدينة بنغازي (أ.ف.ب)
مقاتل ليبي تابع لقوات حفتر مع سلاحه في مدينة بنغازي (أ.ف.ب)

تعيش ليبيا في فوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي في خريف عام 2011. وبدلا من تحقيق الاستقرار وجمع شتات الدولة والالتفاف حول الجيش، صعد إلى السطح بارونات الحرب من قادة الميليشيات ممن أثروا على حساب الشعب، ووقفوا ضد محاولات تشكيل حكومة الوفاق الوطني، سواء كانوا في غرب البلاد أو شرقها.
ويأتي هذا بينما تعاني الدولة التي تعد من أغني الدول الأفريقية، أزمة مالية طاحنة، لدرجة أن رغيف الخبز زاد ثمنه 10 أضعاف، كأقرب مثال على تدهور المعيشة. وتقدر لجان التحقيق التي بدأت تتشكل من خلال سلطة البرلمان الشرعي في الشرق، أو البرلمان المنتهية ولايته في الغرب، بضياع مليارات الدولارات، حيث يفسر كل طرف مصير هذه الأموال بطريقته.
لكن مصادر التحقيق في المنطقة الشرقية تقول إن هناك نحو 37 مليار دولار ونحو ثمانية أطنان من الذهب اختفت بعد دخول «الثوار» إلى طرابلس، بالإضافة إلى أعمال سطو ونهب قامت بها الميليشيات المتطرفة للمصارف العامة وسيارات نقل الأموال والمؤسسات المالية، طوال السنوات الأربع الأخيرة. بينما تتهم مصادر التحقيق في المنطقة الغربية أنصار النظام السابق وبعض الخصوم من «الثوار» بالاستيلاء على مليارات الدولارات.
مع تأخر الرواتب لأكثر من خمسة أشهر، وارتفاع أسعار السلع الغذائية، وشح الطعام والوقود وغاز الطهي، بدأ الليبيون يفتشون عن مصير أموالهم وهم يتدفأون على الحطب، ويتناولون قصصا أغرب من الخيال عمن حققوا ثروات من حروب الميليشيات منذ سقوط النظام السابق حتى اليوم. ومن بين هذه القصص تلك التي تتعلق برجل يبلغ من العمر 43 عاما كان يصلح الأجهزة المنزلية، خاصة التلفزيونات والمبردات، في دكانه في طرابلس، وأثناء الانتفاضة المسلحة على نظام القذافي أغلق دكانه الذي كان يجني منه في اليوم ما قيمته بين 30 و40 دولارا، فقام وارتدى ملابس عسكرية وأصبح يقف في مقدمة «الثوار» على رأس مدرعة مسروقة من الجيش. اليوم، وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على سقوط النظام، أصبح الرجل نفسه يمتلك فيلا في ضاحية التجمع الخامس في العاصمة المصرية، وشققا وأراضي في بلدان أخرى.
رغم كل هذا الثراء، ما زال الليبيون يعرفونه باسم «مصلح التلفزيون». ويوجد مئات آخرون من هذا النوع من المهمشين الذين صعدوا إلى السطح بعد «الثورة» وأصبح بعضهم من كبار الأثرياء، ومن بينهم بائع شطائر تونة، كان لديه محل صغير في العاصمة الليبية أيضا، وسائق شاحنة «بيك آب» كان يبيع عليها مياه الشرب في ضواحي طرابلس، وغيرهم.
وتحاول السلطات الليبية الجديدة جرد أموال الدولة ومعرفة مصير كل سنت، وتسعى لهذا الغرض لتشكيل لجنة مختصة بمكافحة الفساد، رغم أن عدة لجان ومحققين بدأوا العمل بالفعل. بينما قرر البرلمان السابق الذي تهيمن عليه جماعة الإخوان، وما زال يعمل انطلاقا من طرابلس، وضع عدد من خصوم الجماعة، في جدول «الحراسة وإدارة أموال وممتلكات بعض الأشخاص»، لمساءلتهم، وكان من بين هذه الأسماء «مصلح التلفزيون».
لكن يبدو أنه لن يكون في مقدور أي لجان استعادة مليارات الدولارات من أموال الليبيين إلا بعد أن يتحقق الاستقرار لهذا البلد المنقسم على نفسه. يقول الدكتور محمد الورفلي، الرئيس السابق للجنة القانونية في مؤتمر القبائل الليبية، إن ملف من أثروا من الحرب كبير جدا، ولا يقتصر على من صعدوا من أزقة المدن إلى الواجهة، ولكنه يشمل أيضا رجال أعمال كانوا يرون في رحيل القذافي مكسبا لهم. و«هذا النوع من اللصوص والتجار يقفون ضد عودة الدولة الليبية».
ويؤكد الدكتور محمد القشاط، رئيس جبهة النضال الوطني، التي تعضد من عمل البرلمان الجديد والجيش، مثل هذا الكلام أيضا، لكنه يزيد موضحا أنه توجد جهود تبذل من أجل تشكيل لجنة لحصر الأموال المنهوبة، إلا أنه يضيف أن «المشكلة تكمن في أننا نفتقر إلى الوثائق، لأن هناك الكثير من الشائعات، وهناك كلام صحيح أيضا. مثلا يقال إن فلان أخذ مائة مليون دولار أو مليار دولار، أو كذا، لكن أحيانا لا يكون قد أخذ كل هذا المبلغ، ولكن من الممكن أن يكون المبلغ أقل. أو لم يأخذ أي أموال من الأساس، وبالتالي لا يجب أن نضع اعتبارا للشائعات وكلام الشارع».
على الجانب الآخر، فإن من خافوا على ما جمعوه من أموال وابتعدوا بها إلى خارج البلاد، معروفون جيدا في الأوساط الليبية، خصوصا أولئك الذين ما زالوا يعانون في سبيل إقامة دولة ديمقراطية خالية من الفساد، منذ انضمامهم لـ«ثورة» 2011. «ليبيا صغيرة، والليبيون يعرفون بعضهم بعضا بشكل جيد، ويعرفون من أثروا بلا سبب، ويعرفون بارونات الحروب وبارونات السلاح، وليس الأمر بخاف، خصوصا بعد أن ظهرت معالم الثراء ومعالم الاغتناء غير المشروع، سواء كان هؤلاء من مناطق الغرب أو الشرق أو الجنوب»، كما يقول الورفلي.
يمثل البرلمان الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق، أعلى سلطة في البلاد. ومن خلال اللجان المختصة يحاول المحققون جمع معلومات عمن أثروا من الحرب ومن الفوضى ومن يستثمرون ما غنموه من أموال في تغذية الميليشيات وتجارة السلاح وتهريب البشر إلى أوروبا. ومن بين هؤلاء من فر إلى الخارج بأموال الدولة، ومن غادر ثم عاد ليتحالف مع أصدقاء جدد في المنطقة الشرقية، معلنا رفضه لحكومة الوفاق الوطني المقترحة من الأمم المتحدة.
كثير من قادة الميليشيات في المنطقة الغربية أيضا يرفضون حكومة الوفاق. كان أحد هؤلاء يقدم لحكومة الإخوان كشوفا تضم أكثر من 30 ألف اسم، ويصرف من خزينة الدولة ألف دولار في المتوسط لكل اسم، أي أنه يحصل على نحو 30 مليون دولار كل شهر كرواتب لعناصر ميليشياته، بينما العدد الحقيقي لم يكن يزيد على 500 أو 600 عنصر. ويقول أحد المسؤولين العسكريين: «عليك أن تحسب الفرق لتعرف كمية الأموال التي حصل عليها».
الدكتور القشاط، يضيف قائلا: «هناك فرق بين شخص يحرق نفسه من أجل وطن، وآخر يحرق الوطن من أجل نفسه.. مثل هذه المجموعات التي تحرق الوطن ليس لديها برنامج وليس لديها هدف إلا الاستفادة الشخصية، وبالتالي الميزانية والأموال التي في البلد، وبدل أن تصرف على الشعب وعلى خطة العمل وإعادة بناء الوطن، يقوم كل واحد من مثل هؤلاء بالنهب لنفسه فقط، ويعد أن هذا إنجاز لأنه بعد أن يحقق ما يريد من أموال يرحل عن ليبيا».
ويزيد موضحا: «أنت ترى كثيرين اليوم سافروا للإقامة في الخارج.. في تركيا وبريطانيا وأميركا. هذا يعني أنه لم يكن لديهم برنامج لإنقاذ الوطن، لأنه لم يكن لديهم خطة من الأساس للبناء. مثل هؤلاء حريصون على أن تبقى ليبيا بهذا الشكل، لأنه إذا وجدت دولة متماسكة وقانون ومحاكم سيُسأل هؤلاء وستُجمع منهم هذه الأموال. هذه أموال مسروقة يجب أن تعود إلى الشعب».
ويلفت الدكتور القشاط الانتباه إلى أن البعض ممن استولوا على أموال الليبيين بعد «ثورة 17 فبراير (شباط)»، أصبحوا يتحججون ويتهمون مسؤولي النظام السابق (جماعة نظام القذافي) بأنهم سرقوا هم أيضا أموالا وهربوا للخارج، ويصفونهم بأنهم «قطط سمان». ويضيف أن «مثل هذا الكلام موجود في داخل ليبيا، مع أن أكثرهم، ومن بينهم من كانوا وزراء ومسؤولين في عهد القذافي، غير قادرين اليوم على توفير الطعام لأنفسهم أو أن يدخلوا أولادهم المدارس».
ويقول مستشار قانوني ليبي على علاقة بالتحقيقات الحالية بشأن اختفاء مليارات الدولارات من أموال الدولة الليبية، فضل عدم ذكر اسمه، إن أحد المهمشين ممن أثروا بعد الحرب يملك في الوقت الحالي، وفقا للتحقيقات المبدئية، أسطولا من السفن، وشركة ملاحة، وله في جنوب شرقي القاهرة قصر في منطقة التجمع الخامس، وعدد من الفيلات في منطقة الرحاب، بالإضافة إلى عدد من مزارع البرتقال قرب العاصمة اللبنانية بيروت. ويقول مصدر في الجيش الليبي على علاقة بلجنة تجري تحقيقات في الموضوع، إن من بين الأسماء المطلوب مساءلتها بشأن ما لديها من أموال ضخمة غير معروف لها مورد، قائد عسكري آخر يعيش حاليا في جناح فخم في أكبر فنادق طرابلس المطلة على البحر المتوسط، ويطلق عليه البعض اسم «رئيس المخابرات الخفي لجماعة الإخوان في ليبيا»، ويتردد في كثير من الأحيان على تركيا وإسبانيا، وأسس في طرابلس شركات متنوعة من بينها شركة طيران مدني لنقل الركاب وقناة تلفزيونية، واشترى أملاكا في الخارج ويدير ثروة تقدر بعدة مليارات من الدولارات.
كان هذا الرجل البالغ من العمر 49 عاما، مطاردا من نظام القذافي، ومن مخابرات دول غربية. ويضيف المصدر أن المحققين لم يتمكنوا من الوصول لأي ثروة أو مدخرات له ذات قيمة، قبل ركوبه موجة «الثورة» في 2011، حيث كان في السابق هاربا في أفغانستان وبلدان أخرى، إلى أن جرى احتجازه في سجون القذافي. وفي أعقاب سقوط النظام السابق ظهر على السطح كقائد عسكري لمجموعة من «الثوار».
وكان الرجل من بين قادة ميليشيات أعلنوا رفضهم لتشكيل حكومة الوفاق الوطني، رغم مشاركة عدد منهم في مفاوضات الأمم المتحدة للمصالحة في ليبيا. ويصر هؤلاء، وأغلبهم يتمركز في طرابلس، على عدم الاعتراف بالبرلمان أو الجيش الوطني الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر. وحين لاحت في الأفق فرص لحكومة وحدة تعمل من العاصمة، بادروا بنشر قناصة على الأسطح في وسط طرابلس للحيلولة دون عودة الدولة من جديد، وفقا لمسؤول عسكري.
ويقول الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، مستشار الجيش الوطني الليبي: «الذين نهبوا أموال الدولة بعد 2011 يقفون ضد عودة القانون والمحاسبة. هؤلاء ليس من مصلحتهم وجود حكومة قوية، لأنه سيترتب عليه مساءلتهم عن الأموال التي تحت أيديهم وما هو مصدرها وكيف حصلوا عليها.
وبعد ما يزيد على أربع سنوات من الفوضى، يعتقد المحققون اليوم، (بعضهم يتبع حكومة طرابلس والبعض الآخر حكومة طبرق)، أن المصارف الليبية اختفت منها ليلة سقوط طرابلس في 20 أغسطس (آب) 2011 أكثر من 37 مليار دولار. ويقول المستشار القانوني الليبي المشار إليه إن «هذه الأموال نهبت بالكامل.. مسحوها في تلك الليلة، واختفت معها نحو ثمانية أو تسعة أطنان من الذهب. جرى تخزين جانب من المسروقات أولا في مطار معيتيقة، ثم تم توزيع الغنائم، وكأن الدولة لن تعود لتبحث عن أموالها».
المشكلة أن التحقيقات التي تجري في غرب البلاد تتهم الموالين للمنطقة الشرقية، والعكس، حيث يبدو أن تحقيقات المنطقة الشرقية تركز اهتمامها حتى الآن على الموالين للميليشيات في المنطقة الغربية. تشير تحقيقات مبدئية في الشرق إلى أن عددا من قادة الميليشيات والمجالس العسكرية استخدم الأوراق التي حصل عليها من كتائب القذافي العسكرية التي كان لها حسابات في المصارف الليبية، وقام عن طريقها بالتحايل على البنوك لسحب أموال تلك الكتائب لحساب القادة الجدد.
وتبحث واحدة من لجان الشرق حيث مقر البرلمان والجيش، التحقيق في مصير نحو 50 مليون دولار كانت في حساب كتيبة خميس نجل القذافي المعروفة باسم «اللواء 32 المعزز» وتبين أنه جرى سحب رصيدها من الأموال من جهات غير معروفة بعد أشهر من هزيمة كتيبة خميس ومقتله.
رجل آخر كان قبل ثورة 2011 يدير مطعما صغيرا لصناعة الشطائر (السندوتشات) في طرابلس.. يبيع نصف السندوتش بربع دينار ونصف دينار، واليوم أصبح من كبار رجال الأعمال، ولديه شركة استثمارات وهو يتردد على عدة بلدان في المنطقة، لكنه يفضل الإقامة في الأردن. ووفقا للجان التحقيق المبدئية، فقد جاء النصيب الأكبر من ثروة هذا الرجل الملقب في ضواحي طرابلس باسم «صانع سندوتشات التونة»، من رواتب عناصر الميليشيات الوهمية التي كان يرأسها.
تقول المعلومات إنه ترك دكان الشطائر قبيل «ثورة 17 فبراير» وعمل مع المطاعم الخاصة بمنطقة باب العزيزية التي كانت بمثابة حصن لحكم القذافي، وكان يقوم بتوريد بعض أنواع الأطعمة المطلوبة. وتواصل خلال تلك الفترة مع قيادات من «الثورة»، وقدم معلومات تفصيلية عن باب العزيزية من الداخل، وصلت إلى حلف الناتو وساعدت في تضييق الخناق على القذافي الذي فر وقتها من العاصمة إلى سرت.
وبعد ذلك أسس كتيبة في غرب العاصمة وقدم أوراقا للحكومة في عهد الإخوان بمساعدة أحد أقاربه ممن كان مسؤولا في السلطة. تقول الأوراق، وفقا للتحقيقات، إن عدد عناصر كتيبته يبلغ 14 ألف عنصر يقومون بحماية الحدود والمنشآت النفطية، بينما لم يكن العدد يزيد على بضعة مئات. ومع هذا استمر في صرف رواتب شهرية لهذه العناصر التي لا وجود لها، بما قيمته نحو 11 مليون دولار شهريا.
وتشير التحقيقات أيضا إلى أن صاحب دكان الشطائر، وبمساعدة قريبه، كان أيضا يحصل على أسلحة متطورة لكتيبته المزعومة من عدة دول صديقة لليبيا كمساعدات منها لتمكين السلطات الوليدة التي كانت تعتمد على الميليشيات في ضبط الحدود، لكنه كان يقوم بتخزين هذه الأسلحة في مخازن تقع في منطقة الهضبة في طرابلس ويقوم ببيعها لمن يطلبها من بقية الميليشيات والكتائب بغض النظر عن توجهاتها. وتقول التحقيقات إن ذلك استمر حتى أواخر عام 2014. ويقف هذا الرجل مع الحلف الذي يرفض تشكيل حكومة وحدة وطنية أو عودة الدولة أو تقوية الجيش.
أما الملف الخاص بسائق شاحنة المياه، الذي يدير في الوقت الحالي واحدة من أكبر كتائب المتطرفين في طرابلس، ويسيطر على مطار معيتيقة، فتفيد المعلومات المبدئية التي جرى جمعها عن طريق المحققين أنه «كان لديه سيارة بيك آب يضع عليها برميلين من مياه الشرب ويقوم ببيع حصص المياه في شوارع العاصمة خاصة منطقة سوق الجمعة، ولم تكن له مهنة أخرى، خصوصا أنه لم يكمل تعليمه.. واستمر على هذا الوضع حتى مطلع عام 2011، واليوم أصبح لديه أموال ضخمة غير معروف مصدرها، ويتحدث مع الناس باعتباره رجل دين وداعية».
لكن التحقيقات تشير إلى أن معظم ما جمعه من أموال يعود بالأساس إلى عمليات السحب من المصارف الليبية بأسماء كتائب القذافي رغم أنها كانت قد انتهت. وحول موضوع الصرف من حسابات كتائب النظام السابق والتلاعب فيها، التي تكررت في التحقيقات بشأن أكثر من قائد تدور حوله الشبهات، رد مسؤول مصرفي على المحققين في المنطقة الشرقية، بقوله إن المصرف المركزي أوقف منذ سبتمبر (أيلول) 2011، التعامل مع الحسابات الخاصة بكتائب القذافي التي كانت مودعة باسم اللجنة العامة للدفاع (وزارة الدفاع). وإذا ثبت للجنة التحقيق صرف أموال بعد التاريخ المشار إليه فسيتطلب الأمر التحقيق مع موظفي المصارف التي خرجت منها تلك الأموال.
ليست المناطق الغربية فقط التي ينتمي إليها معظم من صعدوا من الفقر إلى عالم القصور بعد «ثورة فبراير» هناك أيضا شخصيات أخرى من المنطقة الشرقية والجنوبية، ومن أبرزهم شاب كان معروفا بالتجارة في كل شيء، من الحمير إلى قطع السيارات المسروقة، والمخدرات. وتمكن من خلال عدة مئات من المسلحين من التحكم في جانب من مرافئ تصدير النفط، بعد أن دخل «مجال الثورة» من خلال العمل كقائد ميداني مكلف من قبل الحكومة التي كان يهيمن عليها الإخوان بحراسة عدة منشآت نفطية.
وفي الوقت الحالي، يتحرك هذا الشاب برتل من سيارات الحراسة برفقة 30 مسلحا يتقاضى كل حارس منهم نحو 500 دولار في الشهر. وتتضمن التحقيقات مزاعم عن حصوله على ملايين الدولارات، بعد انقلابه على الحكومة، من أجل أن يسمح لها بتصدير النفط، إلا أنه لم يفعل.
وتشير لجنة التحقيق الخاصة بهذا الموضوع (تابعة للسلطات في غرب البلاد) إلى أنه «لم يفتح الحقول، وأخذ يبيع النفط في السر لصالحه حتى الآن، ولديه شقيق أصغر منه يدين له بالولاء رغم أنه من قيادات تنظيم داعش في المناطق الممتدة بين سرت وإجدابيا». ويقول أحد القادة العسكريين من المنطقة الشرقية إنه «صحيح.. جرى رصد تعاون بين الشقيقين من أجل استمرار الفوضى في البلاد رغم أن فريق الشقيق الأكبر لا يوالي (داعش) لا فكريا ولا تنظيميا».
ويقول الدكتور الورفلي، الذي يعمل أيضا كمستشار قانوني في بعض القضايا المالية الخاصة بليبيا: نعم.. من أثروا في أحداث 2011 وما بعدها وأصبحوا يشغلون أماكن ويديرون شركات، يعرقلون عودة الدولة في أي صورة كانت. ويشير إلى أن الأمر لا يقتصر على من صعدوا من القاع إلى القمة، ولكن، من بين من نهبوا المال العام أيضا، أصحاب شركات وأصحاب أعمال كانوا قد أثروا في عهد القذافي من خلال التسهيلات والقروض البنكية، بحجة إقامة مشاريع ومصانع واستثمارات بمليارات الدولارات، ثم ساهموا في إسقاط العهد السابق «من أجل أن يتم حرق المستندات والأوراق المتعلقة بالقروض والأموال التي تحصلون عليها أيام القذافي».
«الهامشيون» الذين أثروا بعد رحيل القذافي، كما يسميهم الورفلي، «كانوا يعيشون على هامش المجتمع، أو كانوا يقومون بأعمال ومهن بسيطة، وحين جاءت أحداث فبراير وما فيها من فوضى عمت البلاد، منهم من سطا على البنوك بما فيها بنك ليبيا المركزي، والبنوك المحلية، وسيارات نقل الأموال والشركات العامة، وهناك من باع وثائق الدولة للخارج أيضا، بالإضافة إلى تجارة السلاح».
ويقول إن «هؤلاء لا يريدون عودة الأجهزة الأمنية، لأنه ستتم ملاحقتهم، ولا يريدون عودة الأمن والأمان، ولا الاستقرار، لأن ثراءهم مرتبط بحالة انعدام الوزن الذي تعيشه ليبيا الآن».



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».