الانتخابات التركية: حكومة معارضة أو انتخابات ثالثة

المعارضة تتوقع إقدام إردوغان على حل البرلمان الجديد إذا تكررت نتائج الربيع الفائت

الانتخابات التركية: حكومة معارضة أو انتخابات ثالثة
TT

الانتخابات التركية: حكومة معارضة أو انتخابات ثالثة

الانتخابات التركية: حكومة معارضة أو انتخابات ثالثة

تشهد تركيا الأحد المقبل جولة ثانية من الانتخابات البرلمانية خلال 5 أشهر في محاولة جديدة من الحزب الحاكم للعودة إلى السلطة منفردا، بعدما أفقدته انتخابات السابع من يونيو (حزيران) الماضي أغلبيته البرلمانية، لكن هذه الانتخابات قد لا تكون الأخيرة، إذ يتوقع معارضون أتراك أن يعمد الرئيس رجب طيب إردوغان إلى تكرار «السيناريو» نفسه ما بعد الانتخابات إذا ما أتت النتائج مشابهة لنتائج انتخابات يونيو، كما ينبئ كثير من استطلاعات الرأي، ما سيعني انتخابات مبكرة جديدة ستكون الثالثة في أقل من سنة.
وكان فشل أحزاب المعارضة التركية في تشكيل ائتلاف قوي في ما بينها، نتيجة التباينات التاريخية بين أطرافها، وتحديدا الأكراد والقوميين، قد دفع البلاد إلى هذا السيناريو، لكن يبدو أن سيناريو جديدا قد بدأ بالظهور مؤخرا، وهو نشوء حزب خامس داخل البرلمان يتكون من المنشقين عن حزب العدالة والتنمية – إذا ما فشل الأخير في إحراز الأكثرية اللازمة لتشكيل الحكومة – بحيث ينضم هؤلاء إلى حزبي المعارضة الرئيسيين، الشعب الجمهوري والحركة القومية لتشكيل حكومة ائتلافية.
تدل نتائج الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة، وما قبلها من تجارب انتخابية كالانتخابات الرئاسية والبلدية والاستفتاءات، على أن الشارع التركي رسم حدوده الداخلية، إذ إن تبادل الأصوات بين الأحزاب السياسية بات في حدوده الدنيا، في دلالة على مدى قوة الاستقطاب القائم في البلاد، منذ صعود نجم حزب العدالة والتنمية ووصوله إلى السلطة في عام 2002، وحتى اليوم. فالناخبون الأتراك حسموا خياراتهم الانتخابية، وهم يمارسونها بقواعد مختلفة عن تلك المعتمدة في الدول الديمقراطية، حيث يؤثر أداء هذه الأحزاب على نتائجها الانتخابية. فالناخب المحافظ المؤيد لحزب العدالة والتنمية، مثلا لم يتأثر بكل الضجة التي أثيرت حول «فساد» الطبقة الحاكمة، ولم يعر أي اهتمام لتسجيلات مسربة، قيل إنها تعود إلى إردوغان ونجله بلال يتحادثان في أحدها عن ضرورة التخلص من أموال موجودة لدى صاحب الصوت الذي يفترض أن يكون بلال، بل على العكس، فقد ارتفعت أصوات إردوغان ليحصل على 50 في المائة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية، حتى إن سقوط الحزب الحاكم في الانتخابات الأخيرة لم يكن ناجما عن تراجع دراماتيكي في أصواته، فهو نال نحو 41 في المائة من الأصوات، وهو كان قد حكم البلاد في عام 2002 بـ34 في المائة فقط، بل نجم عن قانون الانتخابات التركي الذي يوزّع الأصوات بطريقة سمحت للأكراد الذين اجتازوا عتبة الـ10 في المائة بالحصول على 80 نائبا، بعدما كانوا لسنوات طويلة يفضلون الترشح منفردين وتشكيل كتلة برلمانية في وقت لاحق، وكانوا بذلك يخسرون مقاعد كثيرة لعدم تجرُّئِهم على الترشح كحزب خوفا من حاجز الـ10 في المائة الذي يفرضه القانون التركي لدخول البرلمان.
وبات واضحا أن الشارع التركي ينقسم بين الأحزاب المتمثلة في البرلمان، حيث يحظى حزب العدالة والتنمية الحاكم بتأييد مطلق من الشارع المحافظ المتدين في البلاد، في حين يصوت اليساريون بشكل أساسي لحزب الشعب الجمهوري، الذي يحمل شعار العلمانية الأتاتوركية ومعظم مؤيديه هم من «العلويين» (أي من الجماعات الإسلامية من غير أهل السنة)، بينما يصوت القوميّون المتشددون لحزب الحركة القومية، ويختصر حزب «ديمقراطية الشعوب» تمثيل الشارع الكردي.
البروفسور مظهر باغللي، عضو البرلمان عن حزب العدالة والتنمية، رأى أن النتائج في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) «لن تختلف كثيرا عن نتائج السابع من يونيو بالنسبة للأحزاب الكبيرة كالعدالة والتنمية والشعب الجمهوري، فقط ستنخفض أصوات حزب ديمقراطية الشعوب لأنهم حازوا على تأييد اليساريين والاشتراكين وبعض الديمقراطيين الذين أردوا أن يدخلوا الأكراد في عراك السياسة التركية لحل المعضلة الكردية بالطرق السلمية والعادلة. ولكن، مع الأسف، بعد أن حصل (ديمقراطية الشعوب) على 13 في المائة ودخل البرلمان، فإنه بدلا من أن يسيّس الأكراد تحول إلى حزب لتعنيف الأكراد. ولهذا حسب استطلاعات الرأي سيعزف كثير من الأكراد الذين منحوا صوتهم لديمقراطية الشعوب وسيصوتون للأحزاب الأخرى».
واستغرب باغللي الشائعات عن أن العدالة تستفيد من نشر الذعر والإرهاب في البلاد، إذ قال لـ«الشرق الأوسط» إن حزب «العدالة والتنمية تضرر وسيتضرر كثيرا من تفجيرات أنقرة التي حصلت قبل أسبوعين، لأن المعارضة تحمّل الحكومة والعدالة والتنمية مسؤولية التفجيرات بحجة أنها لم تأخذ الاحتياطات اللازمة، وهي المسؤولة عن أمن وسلامة المواطن أينما وجد، ولهذا فالتفجيرات ستؤثر سلبيا على نتائج الانتخابات ولن تكون لصالح العدالة والتنمية».
كذلك توقع النائب التركي أن يقف «العدالة والتنمية» في هذه الانتخابات على الصراط المستقيم، فإما أن يتعدى الـ276 عضوا أو يبقى أقل منها بـ3 أو 4 نواب، معتبرا أن الحزب سيحصل على 41 في المائة من الأصوات، إلا أنه أشار إلى أنه في حالة عجز الحزب عن تخطي حاجز الـ276 نائبًا أو الحصول على 276 نائبا فإنه سيشكل حكومة مع الشعب الجمهوري مباشرة ومن دون أي تردد، بل هو مجبر على هذا من أجل مصلحة البلاد. وحسب ما يجول داخل الحزب فإنه من المستحيل أن يشكل العدالة ائتلافا مع حزب الحركة القومية لأنه لا توجد أي أرضية مشتركة بين الحزبين الآن في برامجهم السياسية». وأضاف باغللي: «في حالة إخفاق إدارة الحزب في تحقيق أي نجاح في رفع نسبة الأصوات والعجز عن تشكيل حكومة ائتلاف فإن التذمر سيبدأ داخل الحزب، لكنني لست مع الفكرة القائلة بأنه سيخرج حزب آخر من داخل العدالة، لأن الحزب سيقوم بإعادة تشكيل نفسه من جديد، أي بتغيير الإدارة والقائمين على الحزب».
من جهة أخرى، يقول الدكتور مراد يانيك، الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة إسطنبول، إنه «في كل انتخابات تجري في تركيا يوجد عدة مؤثرات في نتائجها»، مشيرا لـ«الشرق الأوسط» إلى أن من أكثر ما أثر في نتائج الانتخابات الماضية في يونيو الماضي كان الجو السياسي في البلاد، في إشارة إلى المعركة مع جماعة الداعية فتح الله غولن «التي أسفرت عن اعتقال وتسريح المئات من القضاة ومدعي النيابة ورجال الشرطة». وأردف أن ذلك ما عرف بـ«فضيحة الفساد والرشوة التي تسبب في استقالة 4 وزراء عام 2013 وردت أسماء أبنائهم في هذه الفضيحة، والحديث عن تورط رجال أعمال مقربين من إردوغان وإدراج اسم ابنه بلال في الشائعات أيضا، وهو ما كان له تأثير كبير في انخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية».
أما أونال طانق، رئيس تحرير موقع «روتا خبر» الإلكتروني، فقد رأى أن «المؤثر الفعال والوحيد في نتائج الانتخابات القادمة هو الإرهاب ثم الإرهاب ثم الإرهاب». وتابع في حديث لـ«الشرق الأوسط» موضحًا: «بدأ هذا بتفجيرات بلدة سروج بين الشباب الذي ذهب ضحيتها 35 شابًا». وأشار إلى مقالة نشرها في شهر أبريل (نيسان) الماضي وركز فيها على أن العدالة والتنمية «يفقد تأييد الشارع، ولهذا فإنهم في حالة فقدهم للسلطة سيلجأون إلى معاقبة وتأديب الشارع بطريقتين، الأولى الإرهاب. وإذا لم تجدِ نفعا فإنهم سيستخدمون مطرقة الاقتصاد، أي افتعال أزمة اقتصادية، لكنهم اليوم فقط يستخدمون ورقة الإرهاب ولم يحتاجوا إلى ورقة الاقتصاد. والسبب أنه يمكن أن تبدأ أزمة اقتصادية في البلاد ولكن لا يمكن أن تتحكم في نتائجها أو متى يمكن ان توقفها».
ورأى طانق - المناوئ للعدالة والتنمية - أن مسؤولي الحزب «استطاعوا أن ينجحوا في توصيل الرسالة للناخب بأنه إذا لم أستطع أن أحكم البلاد وحدي فإن الإرهاب سيعم جميع أنحاء البلاد، ولهذا سيشهد الأول من نوفمبر عودة العدالة والتنمية إلى السلطة من جديد، ومن الممكن أن يستطيع إدخال ما يقارب 300 عضو إلى البرلمان، وهو عدد كاف جدا لتشكيل حكومة وحده».
أما رئيس جمعية الصحافيين الحضارية أحمد اباكاي فقد توقع حدوث انشقاق في الحزب الحاكم إذا لم يحصل على الأكثرية. وقال لـ«الشرق الأوسط» شارحًا: «يوجد توجهات يتزعمها بولاند أرينج وبعض المتمثلين في العدالة بتعليمات من (الرئيس السابق للجمهورية) عبد الله غُل بأن يحدث انشقاق في الحزب إذا لم يستطع الحصول على عدد نواب يخوّله تأليف الحكومة وحده، أو إذا لم يستطع تشكيل حكومة ائتلاف مع الأحزاب الأخرى. وهكذا سيعلن ما يقارب الـ30 عضو انشقاقهم عن الحكومة والاشتراك مع حزب الشعب الجمهوري وديمقراطية الشعوب لتشكيل حكومة ائتلاف قوية»، معتبرا أن هذا سيعني نشؤ حزب خامس داخل البرلمان بعد الانتخابات.
ومن جانبه، يرى مفيد يوكسال الكاتب في جريدة «يني شفق» أن «العامل المؤثر والفعال في انتخابات الأول من نوفمبر سيكون المعضلة الكردية والوضع في سوريا.. إنهما مرتبطان ارتباطا وثيقا بعضهما ببعض ويجمعهما شيء واحد هو الإرهاب». وخلال حديث مع «الشرق الأوسط» قال يوكسال إن «الأكراد هم الآن الذين يمتلكوا زمام الأمور في تقرير من سيترأس الحكومة المقبلة أو من سيتصدر الانتخابات. فقبل شهر انخفضت أصوات حزب ديمقراطية الشعوب بدرجتين مئويتين، ولكن بعد أن قامت قوات الأمن بعمليات عسكرية في جنوب وجنوب شرقي البلاد كانت هناك عمليات ردود فعل واستياء كبير جدا من قبل الأهالي على هذه التصرفات، ما حدا بالشارع الكردي سواء في الشرق أو الغرب بالعودة للتصويت لصالح حزب ديمقراطية الشعوب، والاستطلاعات تشير إلى أنه استعاد، بل تعدى النسبة التي حصل عليها في يونيو».
أما بالنسبة إلى الوضع السوري وكيف سيؤثر على نتائج الانتخابات فحسب، فرأى يوكسال أنه «إذا قبلت حكومة العدالة والتنمية بالمرحلة الانتقالية في سوريا ووقف إطلاق النار وبدء عودة المهجرين في تركيا إلى أراضيهم في سوريا، فإن هذه الخطوة ستنعكس إيجابيا على الأصوات التي سيحصل عليها العدالة والتنمية، وسيغلق الباب أمام المعارضة التي تتهمه بأنه عمل على استمرار الحرب في سوريا ما سيترتب علية موجات من الهجرة الجديدة».
وتوقع يوكسال أنه في حالة عجز العدالة والتنمية عن تعدي حاجز الـ276 عضوا فإن الحزب سيكون مضطرًا لتشكيل حكومة ائتلاف، وسيقوم بتغيير جميع كوادره الريادية بما فيها زعيم الحزب»، لكنه رأى أن هذا لا يعني وجود انقسامات في الحزب الذي سيعيد بناء نفسه من جديد».



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.