تبدأ مسرحية «اسمي داخل فرج» بأغنية الجندي الأميركي: «دع الجثث تسقط إلى الأرض»، وتنتهي بأغنية عراقية رقيقة تقول: «ازرع جميلاً ولو في غير موضعه / ما خاب قط جميل أينما زرعا»، وتضعنا منذ البداية أمام ثقافة الحرب في مواجهة السلام.
اقتبست الكاتبة والمخرجة السورية الأصل ندى حمصي نص أغنية الجندي الأميركي المفترضة من أغنية «الأجساد» للفرقة الأميركية الشهيرة «درواننغ بوول» الصاخبة (هارد روك) التي كانت تعزف بصوت عالٍ بلا انقطاع أثناء استجواب المعتقلين في سجن غوانتانامو. وهو تلميح ذكي من المخرجة للعلاقة بسجن أبو غريب الذي استخدمت فيه طرق غير إنسانية في استجواب المعتقلين.
استخدمت المخرجة ثلاثة ممثلين في الحوار، يمثلون شخصية الفنان المسرحي العراقي داخل فرج البحراني، في محاولتها للتغلب على مشكلة اللغة في مسرح متعدد الثقافات. وكانت تجربة ناجحة شارك فيها الممثل عادل عباس باللهجة العراقية، والممثل الكندي فاريك غرايمز باللغة الإنجليزية، والكندية موديلا كيركهام، التي تولت الحوار بلغة الإشارات التي تتقنها تمامًا. وتعلو ضربات الإيقاع العربية، والأغاني العراقية الحزينة، على يد وبصوت الفنان محمد محمد فخري، كلما خفتت أصوات الممثلين، فكانت تكسر حدة الدراما بشيء من البستات العراقية ومقاطع من «الريل وحمد» وقصائد محمد مهدي الجواهري مرة، كما كانت استرسالاً للفعل الجاري على المسرح على طول الخط.
وبينما يتولى أحد الممثلين سرد الوقائع والأفعال باللغة التي يتقنها، كان الممثلان المتبقيان يحولان السرد إلى فعل، ويتبادلان الأدوار كي يوصلا رسالتهما الأخلاقية إلى الجمهور. ولم يقع الممثلون في تقاطع أو تعارض وهم يتنقلون بين أدوارهم، إلا أن النص الإنجليزي كان أقصر من النص العربي في بعض المشاهد، وربما لم يوصل القصة كاملة إلى المشاهدين الكنديين الذين ملأوا القاعة.
اعتمدت المخرجة أحاديث ومقابلات داخل البحراني كي تنسج منها حبكة المسرحية، التي تتخطى حياة داخل البحراني، لتصبح أغنية مأساوية لكل عراقي عاش الحروب والاضطهاد والتشرد داخل وخارج قطعة الأرض الممتدة بين دجلة والفرات. وقالت في كلمتها أمام المتفرجين، قبل ارتفاع الستار، إنها حاكت أحداث وحوارات العمل كي تحاكي فعلاً لا شخصية، ومنحت المسرحية بالتالي شموليتها التي تتعدى فردًا واحدًا اسمه داخل فرج البحراني. وهكذا هو العمل الذي صاغته بأسلوب المسرح الأرسطوي الذي يثير الخوف والشفقة حد الانفعال (لدي المشاهد) وبما يؤدي إلى تطهير النفس. وتبقى التراجيديا الأرسطوية محاكاة لفعل جليل كامل يدعو إلى الأخلاق والتطهير، وهو ما ينسجم مع التراجيديا التي شاهدناها.
تعرض البحراني، قبل وصوله إلى كندا، لأنواع من الاضطهاد في فترة حكم الطاغية الراحل صدام حسين بسبب ميوله اليسارية، وتمرده على الحكم الشمولي، كما عانى من الحروب والجوع والفصل من العمل قبل أن تكتمل مأساته بمقتل والده وابنيه على أيدي جنود المارينز الأميركان في الحرب الأخيرة على العراق.
أراد البحراني وعائلته مغادرة بغداد بسيارة كبيرة خلاصًا من جحيم الصواريخ الباليستية وقذائف اليورانيوم، لكن دورية للجنود الأميركان لم تستمع إلى توسلاته بأنهم مدنيون وأطفال ونساء، وفتحوا نيران رشاشاتهم على السيارة لينهوا حياة الأب والولدين. أصابت الرصاصات قدميه، ويقول إنه استعادهما بمعجزة بعد ذلك.
ولذلك فقد ظهر الممثل فاريك غرايمز في المشهد الأول وهو يسير على قدمين خشبيتين كي يتقدم بطلب اللجوء إلى الموظف الكندي. وقد أجاد الممثل ذلك، كما أجاد لاحقًا التمثيل والرقص الشرقي «ع الوحدة ونص» على إيقاعات محمد محمد فخري. بدورها، لم تتخلف موديلا كريكهام، التي تشير سيرة حياتها إلى أنها ولدت خرساء طرشاء، عن زملائها في الأداء، فكانت حركات يديها (لغة الإشارات) تتحول أحيانا إلى بانتوميم. ولا بد من الإشادة بأداء الفنان عادل عباس، الذي استخدم صوته ومطواعية جسده كي ينتقل من دور إلى آخر مجسدًا رحلة العراقي بين غربته الداخلية وغربته الخارجية.
كان الممثل الكندي غاري كيركهام يجلس أمام منضدة في أقصى يمين مقدمة المسرح لينهض بدور الموظف الكندي، وبدور عارض السلايدات والصور التي فضلت المخرجة حمصي عرضها على المسرح. وهكذا أضافت المخرجة أسلوب التوثيق أيضًا كي تدعم مأساتها بالصور، فكنا نشاهد صور أفراد عائلة البحراني وهو يتحدث عنهم، ونشاهد صورة السيارة التي هربوا فيها من بغداد حينما يتحدث عن كيفية فقدانه ولديه، كما نشاهد عرضًا للصور الفوتوغرافية من العراق كلما عاد الممثل إلى ذكرياته البغدادية. ويبدو أن عرض الصور، والإيقاعات الموسيقية، والموسيقى التصويرية، قد فرض نفسه على العرض الذي قدمته ندى حمصي على مسرح مجرد تقريبًا من الديكورات والإكسسوار.
ومع هذا المسرح الأجرد، لجأت جينيفر خمينيز، مصممة الإضاءة على المسرح، إلى كثير من البقع الضوئية التي كانت تلاحق ثلاثة أصوات تتحدث عن حكاية واحدة، هذا إذا جاز لنا اعتبار لغة الإشارات صوتًا. واستخدمت الإضاءة كثيرًا، بالترافق مع عروض الصور، في تصوير مختلف الحالات التي تمثل البحراني يصطاد السمك مع والده، أو عند تأديته لمختلف الأدوار الشكسبيرية وهو يدرس في معهد الفنون الجميلة ببغداد.
لم يخلُ العرض المسرحي، الذي قدم للمرة الثانية يوم 22 سبتمبر (أيلول) الماضي، من شيء من الكوميديا، لكنها لمحات ضاعت معالمها في حدة المأساة التي تترك غصة في البلعوم، وحولت صور الجثث والقتلى والحرائق، التي كانت تعرض على الشاشة الكبيرة، كل نفس كوميدي إلى نقطة عرق تسقط على صفيح ساخن. وخصوصًا اللمحات الضاحكة أثناء تأدية بعض مشاهد هاملت بلغة إنجليزية ركيكة في معهد الفنون الجميلة، أو أثناء صيد السمك.
تنتهي المسرحية بوصول العراقي المنكوب إلى كندا وتقديمه طلب اللجوء، ولتوثق أيضًا بُعد الشُّقة بين المطالبة بالحق وإحقاق الحق في عالم ينتصر للحق بحدود مرسومة سلفًا. يطالب الدولة الكندية بإقامة دعوى ضد الجيش الأميركي بسبب قتل الجنود الأميركان لوالده وولديه (إيهاب 16 سنة، وكرم 8 سنوات)، ويصدم باعتذار الكنديين عن دعم مطلبه هذا.
جُوبِهَ داخل فرج البحراني من قبل المتفرجين العرب، والعراقيين على وجه الخصوص، بسؤال يستغرب تسمية المسرحية باسمه. ويقول البحراني إن قصته قصة كل العراقيين، وليس اسمه إلا مجرد رمز، وهي حالة قد تكون خاصة، ولكنها حالة تتعلق بالحياة ككل.
«ثلاثة أصوات» تسرد حكاية المسرحي العراقي داخل البحراني
كاتبة ومخرجة سورية على المسرح الكندي ـ العربي
«ثلاثة أصوات» تسرد حكاية المسرحي العراقي داخل البحراني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة