تأتي أفلام الخيال العلمي الفضائية على نوعين أساسيين: الأول هو ذلك النوع الذي تدور أحداثه حول بشر من الأرض يقصدون الفضاء البعيد ويحطّون، كما في الفيلم الحالي «المريخي»، على سطح أحد الكواكب لتقع معظم الأحداث فوقه أو حوله.
الثاني هو النوع الذي تستضيف فيه الأرض زوارًا من الفضاء. هؤلاء كانوا، فيما مضى، من سكان المريخ إلى أن أكدت تقارير ناسا وأخواتها أن لا حياة على سطح المريخ (بل أسباب حياة) فأصبح الزوّار يقطعون مسافات أطول هابطين من كواكب أبعد وفي أحيان غير معروفة.
في الحالتين، هناك مغامرات مختلفة: البشر في الفضاء عادة ما يواجهون بقوى معادية، وإذا ما حطّوا فوق إحدى الكواكب، كما في أول أفلام الفضاء، «رحلة إلى القمر» لجورج ميليس (1902) اكتشفوا أن أهل الفضاء يتميّزون بعاملين: الأول أنهم أشرار قد يأسرون الفريق العلمي الذي حط على سطح كوكبهم. والثاني أنهم يجيدون الإنجليزية. وفي أكثر من فيلم يقول أحد أعضاء الفريق الأرضي متعجبًا: «تتحدثون الإنجليزية بطلاقة..» ويأتي الرد بتهذيب واضح: «لقد استمعنا إليكم عبر الأثير طويلاً»!
مع ارتفاع أسعار المواصلات الفضائية، ازداد الطلب على الأفلام التي تصوّر هبوط أهل الفضاء على الأرض. وفي حين أن ضرر أهل الأرض على الكواكب البعيدة محدود جدًا، ولا يتضمن، إلى الآن، تفجير كوكب بمن فيه أو إبادة سكانه ومنشآته، فإن زيارة مخلوقات الكواكب الأخرى للأرض غالبًا ما تثير الدمار والكوارث والخسائر الكبيرة في الأرواح والمنشآت.
ولا عجب في ذلك، فإن هوليوود وأصحاب الخيال من صانعي أفلامها هذه لديهم قناعة بأن أهل الكواكب الأخرى ليسوا معادين فقط لأهل الأرض بل يفوقونهم تسليحًا وعلمًا، بحيث يستطيعون تدمير كثير من حياتها قبل أن يدرك أحد المقاومين الطريقة المثلى لدرء الهجوم الفضائي. ربما لا يستطيع الغزاة تحمّل الحرارة أو قد يمكن التغلّب عليهم بالعبادة كما في «حرب العالمين» نسخة 1953 لبايرون هاسكين، أو باستخدام طاقة إشعاعية (الفيلم نفسه نسخة سبيلبرغ سنة 2005) أو بصوت الموسيقى كما في فيلم تيم بيرتون «المريخ يهاجم» (1996).
* مواضيع وجودية
لكن بصرف النظر عمن يغزو من، وكيف أن الأرض قاومت رغم تكبدها خسائر جمّة، فإن جل أفلام الفضاء تحتوي على طروحات ضمنية، بعضها ظاهر وبعضها الآخر شبه خفي، تتناول، فيما تتناول، مسائل شائكة في علاقة الإنسان بالمحيط على أكثر من صعيد. فنجد أفلاما بسيطة النيات ولو أنها مصنوعة لمضامين مختلفة بمنطق الجمهور السائد عادة، وأخرى ترتقي بمضامينها إلى مستوى طرح إشكاليات الوجود ذاته ومفردات الحياة على الأرض أو في الفضاء، وكيف نُعامل الأغراب؟ أو كيف يتم لهم معاملتنا؟ لماذا نختلف عن أهل الفضاء في بعض الأفلام؟ ولماذا نلتقي في أفلام أخرى؟ لكن مع تمادي الأفلام التي تصوّر أهل الفضاء مجرد كائنات وحشية وروبوتس وآندرويدز، تختفي احتمالات التلاقي أكثر بكثير من الأفلام التي صوّرت أهل الفضاء كآدميين ولو ببعض الملامح المتغيّرة (رؤوس هرمية أو آذان كبيرة إلخ..).
في السنوات الثلاث الأخيرة طالعتنا ثلاثة أفلام تحمل سينما الفضاء إلى ذلك المنوال الباحث في الكون والحياة واحتمالاته. والثلاثة تصوّر الفضاء على نحو قاتم في مواجهة أفلام سابقة كان الفضاء يبدو ملهمًا يتوجب فتح آفاقه للعلم، كما الحال في «أوائل الرجال على القمر» إخراج ناتان جوران (1964)، أو «طيران إلى المريخ» لسلي سيلاندر (1951)، أو «الكوكب المحرّم» لفرد ماكلاود ويلكوكس (1959). هذا بالطبع قبل أن يصبح الخطر جاثمًا إنما من دون أن يحمل كثيرا من الإنذار لما يمكن أن يحصده الإنسان من متاعب أول ما يحتك بالمخلوقات الخارجية.
لكن ألفونسو كوارون في «جاذبية» (2013) وكريستوفر نولان في «بين النجوم» (2014) ثم ريدلي سكوت في الفيلم الحالي «المريخي» (2015) يفتحون المجال لمزيد من البحث في مسألة غزو الفضاء برمّتها. طبعًا ليس للمرّة الأولى، بل عمد إلى ذلك النوع من البحث المعمّق الأميركي ستانلي كوبريك في «2001: أوديسا الفضاء» (1968) والروسي أندريه تاركوفسكي في «سولاريس» (1972). ما يميّز الأفلام الثلاثة الأخيرة هو تداول مواضيع وجودية على مدار ثلاث سنوات متتابعة من الإنتاجات، كما لو أن صانعي الأفلام باتوا أكثر قدرة على التحرر من تبعية المواضيع السابقة على اختلافاتها، بحيث لم يعد مهمّا إذا ما كان الغزاة القادمون إلى الأرض مسالمين كما في «اليوم الذي توقفت فيه الأرض» لروبرت وايز (1951)، أو «لقاءات قريبة من النوع الثالث» لستيفن سبيلبرغ (1977)، أو معادين كما في «حرب العالمين» بنسختيه و«يوم الاستقلال» لرونالد إيميريش وعشرات سواهما، بل إذا ما كان ضروريًا أساسًا البحث عن ملجأ آخر غير الأرض يكون بمثابة بداية جديدة لحياة الإنسان في المستقبل البعيد.
* شركاء السوق
مقاصد فيلم ريدلي سكوت الجديد «المريخي» مغلّفة بالرغبة في الإثارة: ملاح في مركبة تحط على الأرض (يقوم به مات دامون)، يجد نفسه وقد بات وحيدًا فوق سطح المريخ، بعدما اعتقد باقي أفراد المركبة أنه مات في عاصفة عاتية، فتركوه ومضوا عائدين إلى الكوكب الأم.
في صلبه، وبصرف النظر عن الاستخدامات المجانية الموزعّة في أرجائه، هو فيلم وجود: آدم جديد يولد في بيئة مختلفة وغير مواتية للحياة، لكن إرادته ستمكنه من انتزاع الحياة لعدة أشهر وحيدًا على سطح ذلك الكوكب البعيد. سيصنع الماء (وهو إنجاز وجودي)، وسيزرع به الطعام، وسيكون الكوكب باسمه كونه أول الذين عاشوا فوقه بصفة مستوطن.
لكن ريدلي سكوت ليس في وارد استنزاف هذا المعين من الأفكار. بطله مارك (دامون) يبقى في خطر دائم ويزداد في نصف الساعة الأخيرة، بحيث يقضي على كل ما سبق من ذلك السعي للحياة بشروط الإنسان. صار لزامًا عليه الآن أن يسعى للتواصل مع المركبة التي عادت لالتقاطه وهو يبدو، في ربع الساعة الأخيرة من الفيلم، نموذجًا لعالق في الفخ ينتظر من ينقذه. في وحدته، هو أشبه بوضع توم هانكس في فيلم روبرت زميكيس «Cast Away 2000» مع اختلاف المضامين فوضع هانكس في ذلك الفيلم لا يتضمن البحث في أمور الفضاء وفلسفة البقاء حيًا على كوكب بعيد، بل يكتفي بطرح ضروريات الحياة على الأرض ذاتها.
مع إدخال المخرج سكوت الصينيين شركاء في عملية الإنقاذ ينسف الفيلم معظم القليل الذي اكتسبه من وضع صاحبه. يتوجه العمل إلى تسييس الوضع تلبية لرغبة التسويق. في الواقع ناسا لن تطلب من الصين أو من روسيا أو حتى من الصديق البريطاني أو الفرنسي ما لا تستطيع القيام به منفردة، وليس في اللحظات الأخيرة الحاسمة على أي حال.
على ذلك، يتعامل النصف الأول من الفيلم مع تلك الأفكار حول الحياة في الفضاء، ويخلص منذ ذلك الحين لا إلى تشييد بطولة الفرد أو إنجازات وكالة الفضاء الأميركية، إلى أن المهمّة العلمية شيء والخطر البشري شيء آخر.
* الخديعة
غير بعيد عن هذا المنوال فيلم منسي حققه الراحل بيتر هايامس (1977) بعنوان «كابريكون وان» يقف نقيضًا لهذا الفيلم ومفاده أن «ناسا» (مذكورة بالاسم) إنما لفقت مسألة الهبوط على سطح المريخ. أبطال الفيلم ثلاثة ملاحين (جيمس برولين، وسام ووترستون وأو جي سيمسون) الذين صعدوا المركبة التي ستنطلق بهم إلى المريخ، كما في البرنامج الذي يتابعه ملايين الأميركيين. لكن فجأة ما يتم إخراجهم من المركبة ووضعهم في طائرة تحط بهم في قلب صحراء نيفادا، حيث تم صنع بيئة طبيعية في استديو مفتوح، وسوف يتم بث صورهم كما لو أنهم حطّوا على سطح المريخ.
بذلك تعامل الفيلم، كما كتبه المخرج نفسه، مع ما شكك فيه ملايين الناس حول الأرض، موحيًا بأن الهبوط على سطح المريخ الذي كانت «ناسا» أعلنته قبل سنوات قليلة لم يكن سوى تمثيلية. ثم جاءت حكاية ستانلي كوبريك عندما تم توظيفه لخلق جو مريخي بكل ما فيه من بيئة وديكورات وطبيعة، ليكتشف أنه يعمل تحت إدارة «ناسا» لغرض لا يختلف كثيرًا عن ذلك الذي ورد في «كابريكون وان». فيلمان تسجيليان على الأقل يعرضان هذه الحكاية وأحدهما «الغرفة 237» لرودني آشر يحلل فيلم كوبريك «اللمعان» (The Shining) (1980) على أساس رمزياته التي من بينها كشفه للخديعة التي تعرّض لها.
ورطة الفضاء المثلى هي في «جاذبية» لألفونسو كوارون قبل عامين اثنين: ملاحا فضاء (ساندرا بولوك وجورج كلوني) تائهان في الفضاء. المركبة لا تعمل، وتتطلب تصليحًا من خارجها. فرد ثالث كان معهما مات وهو يحاول، بعد قليل يتعرضان لنيازك قاتلة تطير كما لو كانت قذائف صاروخية، ولن يمر وقت طويل من قبل أن يتأكد للملاح كلوني أن عليه أن يسبح في الفضاء مضحيًا بنفسه لتبقى شريكته على قيد الحياة. هذا البقاء لن يكون سهلاً عليها. وبصرف النظر عن الدوافع التي حدت به إلى ذلك، وهي دوافع تقنية وليست رغبة بالانتحار مثلاً، فإن الناتج طوال ساعة ونصف من الفيلم هو خطورة المهام الفضائية على الإنسان إلى درجة أنها تبدو كما لو أن منجزات الفضاء ليست ذات قيمة حين مقايضتها بتضحيات البشر أو لما يتعرضون إليه من مخاطر.
المشهد الذي يبتعد فيها كلوني في قلب الظلام بعيدًا عن المركبة لكي يبقى طائرًا بلا هدى إلى الأبد، يشبه المشهد الذي أورده كوبريك في «2001: أوديسا الفضاء» وفيه أيضًا تتسلل الحياة من بين قبضة الملاح على الحياة ويمضي بعيدًا من دون قرار منه أو إرادة. لقد قام الكومبيوتر بارتكاب جريمة متخلّصًا من أحد الملاحين البشريين في المركبة ضمن غاية ذلك الجزء من الفيلم، وهو تصوير الصراع بين الإنسان والآلة ضمن تلك البيئة المعادية.
«بين النجوم» لكريستوفر نولان هو أيضًا بلا أمل ما يجعل «المريخي» الفيلم المتفائل الوحيد. المشكلة تبدأ على الأرض: لم تعد صالحة للحياة. الدمار البيئي والكوارث الناتجة عن الحروب والتقدم الصناعي جعلها غير ممكنة ودفع ببعض العلماء (متمثلين هنا بمايكل كاين) إلى محاولة البحث عن حياة أخرى في الفضاء. إذ إن نهاية الأرض باتت متوقعة، وإذ إن العالم كاين يريد النجاة لابنته، يوهم الملاح السابق كوبر (ماثيو ماكونوفي) بأن هناك كوكبا يمكن أن يحيا الإنسان فوقه، كوكبا لا يمكن الوصول إليه إلا عبر «الثقب الأسود». لا يكتشف كوبر ومن معه من الملاحين (هناك أيضًا حادث مقتل أحدهم في الفضاء الخارجي) الحقيقة إلا بعد سنوات ضوئية.
مرّة أخرى هنا، العلم يخفق في الإتيان بحلول. الإنسان ما زال أضعف من أن ينتصر في أي مواجهة جدية مع الفضاء ومع الأرض ومع نفسه. فوق ذلك، هناك قدر من الإلحاد وارد في تفسير الفيلم للوجود. إذا ما تغاضينا عنه، كونه لا يترك أساسًا أي أثر لا على الدراما ولا على الفيلم كسياق سينمائي، فإن عنصر الفيلم الرئيس هو ذلك الإنسان الذي لن ينجو من تبعات ما فعله بنفسه. بطل الفيلم لم يفعل شيئًا على الإطلاق، لذلك يتماثل ومئات ملايين البشر الذين يتلقون نتائج ما يفعله القلة. إنهم ضحايا الدمار الذي وقع على الأرض وعليهم وكونهم ضحايا ليس كافيًا لانتصارهم في النهاية.
على صعيد فردي، فإن بطل «المريخي» يبدو الأكثر نجاحًا في التأقلم وبطلة «جاذبية» الأكثر خوفًا من احتمال الموت، أما بطل «بين النجوم» فهو الذي يخسر الحياة على الأرض من دون أن ينال تلك التي في السماء.
سينما الفضاء تخسر الأرض ولا تفوز بالسماء
أفلام الخيال العلمي الفضائية.. من يغزو من؟
سينما الفضاء تخسر الأرض ولا تفوز بالسماء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة