ما زلت أتذكر اللحظات التي قضيتها متأملا مزرعة مهيبة في بلدة مونت فيرنون، بولاية فيرجينيا، خلال إحدى السفريات للعاصمة الأميركية واشنطن. تلك ليست كأي مزرعة أميركية، فهي مقر القائد الأميركي العظيم جورج واشنطن الذي قاد جيش الولايات الأميركية الثلاث عشرة في عام 1775 لينال الاستقلال عن الدولة البريطانية في وقت كانت فيه كل التقديرات السياسية والعسكرية تشير إلى أن هذا الجيش لن ينجح في مهمته الانتحارية أمام أقوى جيش عرفته البشرية حتى ذلك التاريخ. كذلك ثارت الشكوك حول قدرة هذا الرجل على تحمل هذه المسؤولية خاصة مع ضعف قدراته العسكرية وحالة الفوضى المرتبطة ببناء وتسليح هذا الجيش الوليد، لكن الرجل استطاع أن يتحدى كل التوقعات ويصنع المعجزة العسكرية، ثم السياسية من بعدها، من خلال دوره كقائد للجيوش، ثم رئيس لجنة الدستور، ثم كأول رئيس للولايات المتحدة.
واشنطن بحق شخصية تحتاج لدراسة، لا سيما أن هناك من كان متشككًا في نوايا هذا الرجل، فكثيرًا ما اتهموه بأنه شخصية وصولية ومتسلقة، بينما نعته البعض على اعتباره رجلا ماسوني العقيدة، واستقر رأي الأغلبية على أنه تميز بتركيبة شخصية وسياسية تختلف عن كثيرين من معاصريه، لكن المؤكد أن القدر لعب دوره الإيجابي والحاسم حول مستقبل ذلك الرجل.
ولد جورج واشنطن من زيجة ثانية لوالده عام 1732، وعلى الرغم من أن أسرته كانت تنتمي نظريًا للطبقة الأرستقراطية فإنها كانت في واقع الأمر أسرة بلا أراضي. وحتى بعد وفاة والده فإن التركة المتبقية آلت لأخيه الأكبر لورانس. ومن ثم بقيت الأسرة بلا مورد يُذكر، مما جعلها دائمًا في مؤخرة الطبقات الغنية المسيطرة على ولاية فيرجينيا آنذاك. ودفع هذا الحال الشاب جورج واشنطن إلى السعي لتطوير نفسه ذاتيًا على الرغم من افتقاره للتعليم أو الثقافة، ولعل هذا ما يبرر أنه كان في كثير من الأحوال يتفادى الحديث وسط هذه الأسر الغنية، وهو ما دعا بعض مؤرخيه لوصفه بأنه كان قليل التفاعل على المستوى الاجتماعي سعيًا منه لإخفاء شعوره الممتد بالنقص الاجتماعي والثقافي - بل والطبقي أيضًا - ومع ذلك ظل الرجل يسعى لتثقيف نفسه والدخول داخل هذه الدوائر السياسية المؤثرة من خلال أخيه وأصدقائه.
استقرت أغلبية آراء المؤرخين على أن واشنطن بدأ حياته العملية في سن مبكرة مسّاحًا هندسيًا لأراضي أسرة فيرفاكس المرموقة التي كان أخوه لورانس متزوجًا منها. وفي كل الأحوال فإن هذه العلاقة فتحت له بعض الأروقة المغلقة لأمثاله بسبب السلم الاجتماعي المتشدد في ذلك الوقت، إذ عيّن برتبة نقيب في جيش ولاية فيرجينيا على الرغم من افتقاره الكامل لكل أدوات العسكرية أو علومها أو حتى التعليم المناسب، لكن مثل هذا الجيش كان أقرب إلى الميليشيات منه إلى الجيش النظامي البريطاني، ومع ذلك سعى لاكتساب هذه المهارات تدريجيًا قدر المستطاع، كما قرر أن يستغل هذه الفرصة لتصعيد نفسه اجتماعيًا وسياسيًا على حد سواء.
بدأ واشنطن نشاطه العسكري ببعثة إلى نهر الأوهايو على رأس قوة صغيرة كان الهدف منها تأمين المنطقة الغربية لفيرجينيا خاصة أمام غارات الفرنسيين الذين بدأوا يتوسعون شرقًا على حساب أراضي الولاية ومعهم السكان الأصليون الأميركيون (الهنود الحمر)، وذلك بينما كانت أوروبا تشهد احتدام الحرب بين فرنسا وبريطانيا. وأدى اندفاع واشنطن في مواجهة الفرنسيين إلى ما يمكن وصفه بأنه بداية «الحرب الفرنسية والهندية» بين الطرفين، إذ هاجم حصن لوبوف. لكن النصر لم يكن حليفًا له، إذ سرعان ما استجمع الفرنسيون وحلفاؤهم من الهنود قواهم وهاجموا حصن دوكين الذي بناه واشنطن، وانتهت الاشتباكات بهزيمة القائد الأميركي واستسلامه عام 1754. ومع ذلك استوعبت القيادة البريطانية الهزيمة لمنع تثبيط الهمم. غير أن تلك الهزيمة لم تفارق مشاعر القائد واشنطن، إذ سرعان ما التحق ومعه قواته بجيش الجنرال برادوك في العام التالي، وبدأت الحملة من أجل إخلاء وادي نهر الأوهايو من الفرنسيين وحلفائهم. والواقع أن كل الفرص كانت متاحة لانتصار بريطاني ساحق، لكن قلة خبرة القيادة البريطانية في حروب الغابات ودخولها بجيش نظامي في مسرح عمليات غير مناسب سمحا للفرنسيين وحلفائهم بنصب كمين لهم يسّر مهاجمة خطوط الجيش البريطاني من كل الاتجاهات، فمني الأخير بهزيمة ساحقة. وهنا برزت مرة أخرى قلة خبرة واشنطن، غير أن المصادر التاريخية تشير إلى أنه استطاع أن يسيطر على عملية الانسحاب المنظم بعد مقتل الجنرال برادوك، ويقال إنه استطاع أن يدفنه بعيدًا عن أعين الهنود الحمر كي لا ينبشوا قبره بعد ذلك، وأعاد واشنطن ما استطاع من الجيش إلى بر الأمان، لكنه تعلم دروسًا مهمة للغاية من هذه الحملة المحتومة ساعدته كثيرًا في ما بعد.
كذلك تشير المصادر التاريخية إلى أن واشنطن دخل في حملة أخرى تالية عام 1758 لاستعادة حصن دوكين من الفرنسيين وحلفائهم، ولقد حالفه النجاح هذه المرة بعد تجهيز جيشه بشكل مناسب، وعاد منتصرًا إلى فيرجينيا حيث جرى منحه رتبة «كولونيل»، لكنه كان قد اتخذ القرار بترك الخدمة العسكرية لعدد من الأسباب، أولها رغبته في العودة لحياة الزراعة وقراره الزواج من أرملة أميركية ثرية وبدء حياة سياسية كنائب في برلمان الولاية. وتذكر بعض المصادر أنه اتخذ هذا القرار على خلفية التعنت البريطاني معه، إذ كان الضباط البريطانيون يعتبرون دائمًا أن جيوش الولايات إنما هي جيوش من الدرجة الثانية ولا ترقى أبدًا للتعامل معها على أنها مثل الجيش النظامي البريطاني، أقوى الجيوش في العالم، وهو ما جعله يشعر بأن فرص الترقي العسكري صارت محدودة للغاية، ولذا آثر ترك هذا المجال الذي لم يكن يتماشى مع شخصيته الطموحة التي لم تكن لتقبل التهميش.
وبالفعل بدأ واشنطن حياته السياسية بنجاح كبير، وساعدته بطبيعة الحال وضعيته الاجتماعية الجديدة كصاحب أكبر الأملاك في الولاية بعد زواجه. بيد أن الظروف السياسية بدأت تتغير، وأخذت الولايات الأميركية الثلاث عشرة ترفض تسلط لندن عليها وتسعى للاستقلال، مما أدخلها في صدام مباشر مع الجيوش البريطانية. وهو ما دفع المؤتمر (الكونغرس) الثاني لهذه الولايات في 15 يونيو (حزيران) 1775 لتشكيل «الجيش الأميركي» بهدف نيل الاستقلال بقوة السلاح، وجرى تعيين جورج واشنطن قائدًا عامًا للجيش مع منحه رتبة لواء.
تعددت التحليلات حول أسباب منح واشنطن هذا المنصب وأسباب قبوله له، لكن واقع الأمر أنه كان الاختيار المنطقي لأنه كان أكثر الأميركيين خبرة كضابط على الرغم من كون سجله العسكري غير حافل. ثم إن ولايته فيرجينيا كانت من أكبر الولايات الأميركية، وكان لا بد من منحها بعدًا سياسيًا من خلال تعيين أحد أبنائها قائدًا لهذا الجيش. أما عن أسباب قبول واشنطن هذه المهمة التي أقل ما توصف به أنها كانت مهمة شبه مستحيلة، فإن على رأسها شخصية الرجل الذي كان مؤمنًا بقضية الاستقلال، إضافة إلى طموحه الشخصي وشعوره بأن السياسة لم تعد كافية. أضف إلى ذلك، بالطبع، شخصيته المغامرة التي كان لها دورها في قبول هذا المنصب، مع أنه لم يكن يدري أن القدَر حمّله أمانة كادت تهلكه وتفتك بطموحات الشعب الأميركي في مواجهة أقوى الجيوش على وجه الأرض. لكن القدَر كان له قراره المختلف ضد كل التوقعات والظروف، وهي لعبة القدَر والسياسة.. كما سنرى.
من التاريخ: جورج واشنطن والحلم الأميركي
من التاريخ: جورج واشنطن والحلم الأميركي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة