يواصل الدكتور خالد خيرت، نجل بطل قضية عملية «الكربون الأسود» سرد ذكرياته حيث يعد أصغر شاهد في وسط عملية معقدة جرت وقائعها في ثمانينات القرن الماضي. وكان والده العميد حسام خيرت، يدير شبكة انطلاقا من أوروبا لجمع المعلومات والمعدات التي تخص التصنيع العسكري قبل شحنها إلى مصر لكي تستفيد منها بالتعاون مع العراق.
ويقول لـ«الشرق الأوسط» في هذه الحلقة، إن صداقة والده للدكتور عبد القادر حلمي، الأميركي من أصل مصري، سبقت تعاونهما في نقل المعدات والمعلومات من الولايات المتحدة. ويروي البدايات التي شعر فيها أن والده أصبح تحت المراقبة من جانب رجال غرباء.. ويضيف: «كان هناك شخص غامض، أشاهده من الشرفة، يوقف سيارته بعيدا ويتريض جوار نهر سالزبورغ ويراقب الفيلا التي نقيم فيها أعلى الجبل».
منذ البداية لم يكن الدكتور خالد، وهو صبي، يريد ترك فرنسا والسفر إلى سالزبورغ. كان في تلك الأيام من عام 1986 يقيم في القاهرة مع والدته، وحين أخطره الوالد أن الإجازة الصيفية المقبلة سيقضيها في البيت الجديد في سالزبورغ شعر بالانقباض. لكن قيل له إن منزل سالزبورغ عبارة عن فيلا، وأنه أكبر من شقة مونت كارلو بكثير. وبعث الوالد صورا للفيلا الجديدة إلى الأسرة. ويقول خالد: صورها لنا وأرسل الصور. ورأيت أنها أفضل بالفعل. تتكون من أربع غرف على طابق واحد وحولها أشجار.
ما هي إلا أسابيع حتى بدأت رحلته الصيفية مع شقيقته إلى هناك. يقول: حين زرت المنزل في سالزبورغ كان فيلا على جبل بديع، والمكان لا يبعد سوى خمس دقائق فقط من وسط المدينة. كانت الفيلا تقع على نهر وكان مبنى جميلا. وباعتبار أن والدي كان مدير المشروع فكان يجب أن يكون له وضع معين. كان معه سيارة ماركتها أودي.
أما مقر الشركة في سالزبورغ فكان في مكان آخر بعيد عن البيت.. «كان معنا الطاقم المصري نفسه بالإضافة إلى السكرتارية مع بعض التغييرات.. ففي فرنسا كان طاقم السكرتارية من الفرنسيين والإيطاليين. أما في سالزبورغ فكان الطاقم من النمسا. وكانت حفلات الأعياد والعزومات واللقاءات مستمرة. الفارق الوحيد هو أنها أصبحت تعقد في بيوت أصدقاء وزملاء أبي، من المصريين، لأن والدتي كانت قد انفصلت عن والدي كما قلت. رغم كل شيء استمر العمل على تنفيذ المشروع وتحقيق أهدافه.
«المشروع كله كان يعتمد منذ البداية على نقل التكنولوجيا ونقل المصانع أو أجزاء منها من أوروبا ومن دول مختلفة، وإرسالها إلى مصر وإلى العراق. باختصار فإن الفكرة تتلخص في أن الوالد حين كان مسؤولا عن البحوث والتطوير، خلال عمله في الجيش، وتمكن من تطوير الكثير من الأشياء، وبعضها مسجل باسمه حتى اليوم. كان دائما يفكر في التطوير داخل الجيش بشكل عام، وليس على تطوير جزء بعينه. هذا استمر كما كان يحكي لي، وكما عرفت فيما بعد، بمساعدة كثير من الأبطال المجهولين. وقتها كان العراق يطلب المساعدة من مصر في حربه ضد إيران.
ويضيف الدكتور خالد: مصر في تلك الفترة كانت تقوم بمحاولات لتطوير الصواريخ. وعرض فكرة تقول إن مصر يمكن أن تستخدم أموال العراق مع التكنولوجيا الأرجنتينية، مع علاقاته بالألمان وغيرهم، مع الخبرة في مصر، ويتم نقل تكنولوجيا تطوير الصواريخ بعيدة المدى. وتكون هذه العملية تحت ستار نقل مصانع للمحركات والمعدات والمواتير وصناعة المعادن. كان يستورد هذه الأجزاء من بلاد مختلفة.
ويتابع قائلا: إنه علم من والده أنه لم يكن في الإمكان استيراد صواريخ بعينها، كما هي من الخارج إلى مصر.. «إذا استوردت صاروخا من بلد معينة فسيظهر أنك استوردت هذا الصاروخ، لكن إذا جمعت أجزاء الصاروخ من أماكن مختلفة وقمت بتركيبه داخل البلاد.. أي الهيكل من مكان والإلكترونيات من مكان آخر والموجّه من مكان ثالث، فأنت هنا تقوم بتشتيت من يتابعك وتصنع الصاروخ الذي تريده بمواصفاتك التي تراها».
وعليه بدأ عمل الشركة أو الشبكة لتحضير «نظام للتحكم» في أول الأمر، ثم تتابعت الأحداث. كانت هناك أشياء تتطلب سفره بنفسه لكي يجلبها وينقلها إلى مصر، وهناك أشياء أخرى عادية كانت تنقل عن طريق الشحن. «بدأ العمل على مراحل.. سواء في تطوير الصواريخ أو غيرها. في البداية كانت مرحلة الموتور (المحرك) ثم المرحلة التي تليه. هو وصل لمستوى كان يريد فيه لهيكل الصاروخ أن يتحمل درجة حرارة معينة، بالاستعانة بمادة اسمها «كاربون - كاربون» توضع على رأس الصاروخ من الأمام، وهذه المادة لم تكن موجودة إلا في أميركا.
ويقول الدكتور خالد: «وقتها وصلنا لمرحلة أننا في حاجة ماسة لهذه المادة، وأنه لا بد من جلبها إلى مصر. هنا استعان والدي بالدكتور عبد القادر حلمي الذي كان في ذلك الوقت موجودا في أميركا. كان يجري تصدير هذه المادة على أساس أنها تستخدم في أشياء أخرى مختلفة غير الاستخدام في الصواريخ. كانت وقتها قادمة على طائرة عسكرية، وقبل انكشاف العملية كان الموساد قد بدأ في مراقبة المجموعة وعرفوا تحركاتها. كان هذا عام 1988».
وعما إذا كان قد علم من والده أن شعوره بالقلق والخوف من المراقبة لم يكن في أواخر أيام العملية فقط، ولكن منذ قرار الانتقال من مونت كارلو إلى سالزبورغ عام 1986. يقول الدكتور خالد: «لا.. لم يكن هناك خوف، ولكن مقتضيات التمويه. كان يفترض في حال عدم انكشاف العملية أن ينتقل من سالزبورغ إلى مكان ثالث. أي إلى مدينة أخرى سواء في أوروبا أو غيرها».
وكان الدكتور حلمي الذي التقى به الدكتور خالد أكثر من مرة بعد خروجه من السجن الأميركي وزياراته لمصر، يعيش في الولايات المتحدة التي يحمل جنسيتها منذ سبعينات القرن الماضي. وكان زميلا لوالده في الكلية أثناء الدراسة بالقاهرة. وكانت بينهما ثقة وصداقة استمرت حتى وفاة العميد حسام خيرت. وأثمرت هذه المعرفة القديمة في تقديم حلمي لمساعدات كبيرة للشبكة من خلال عمله في مواقع أميركية حساسة.
ومن أسباب الطمأنينة في هذا النوع الخطر من العمل، أن شبكة خيرت كانت قد انتشرت سريعا في جميع أنحاء أوروبا، وأصبح لها علاقات متشابكة داخل إدارات مصانع وشركات أجنبية. أضف إلى هذا أن الشركة (الشبكة) كان يبدو من أوراقها أنها لا تمت بصلة لأي جهة مصرية لا من قريب ولا من بعيد. تضع الشبكة يدها على المعدات المطلوبة ثم تشرع في نقلها إلى القاهرة أو إلى بغداد، تحت أسماء جهات مدنية تعمل في مجال البناء أو في تصنيع مواتير رفع المياه أو غيرها. تدخل الشحنة الطائرة وتمضي في سلام، دون أن يدرك أي أحد أن هناك عشرات العيون المصرية التي تعمل على تأمين عملية النقل من البداية حتى النهاية.
أحيانا كان الشحن يجري من خلال طرود دبلوماسية وأحيانا أخرى من خلال أسماء شركات مدنية ورجال أعمال. كان العميد خيرت يتحرك مثل الشبح من مطار إلى ميناء ومن مكتب إلى مقهى، ومن شارع إلى شارع، دون أن تكون لديك القدرة على تتبع خطواته، لكن وكما يقال، لكل شيء نهاية. عملية مراقبته يبدو أنها جرت بداية من عام 1986، لكن لم يكن أحد يعرف ما هو الشيء الذي يقوم به بالتحديد وما هي درجة خطورته. ولهذا كان يوجد حرص على القبض عليه حيا.
ووفقا لمصادر أمنية فإنه يعتقد أن الموساد (جهاز الاستخبارات الإسرائيلي) هو أول من التقط الخيط، وهو أول من بدأ في اقتفاء خطوات العميد خيرت ومجموعته، ربما منذ وجوده في مونت كارلو أولا، ثم النمسا بعد ذلك. لكن الجانب الأميركي هو الذي حصل على تأكيدات، في صيف عام 1988، بطبيعة العمل وخطورته، خاصة بعد رصد نقل المصريين لصناديق تحتوي على الكربون الأسود الخام في طائرات من بينها طائرات عسكرية كانت في طريقها من ولاية مريلاند إلى مصر.
والتقطت المخابرات الأميركية اتصالات هاتفية جرت بين الدكتور حلمي والعميد خيرت. كما رصدت اتصالا آخر بين العميد خيرت والمشير أبو غزالة، تدور كلها عن حاجة مصر إلى نقل مزيد من الشحنات التي كان يصعب الخروج بها من الولايات المتحدة. كانت تريدها على وجه السرعة، وبأي ثمن. في تلك الأيام، أمام فيلا العميد خيرت في سالزبورغ، لاحظ الدكتور خالد، وهو صبي يلهو في الشرفة وفي الحديقة، أن السيارة التي كانت تأتي وتقف على الجانب المقابل، بدأت تزيد من فترات وجودها، كما أن الشخص الذي فيها كان لا يكتفي بالبقاء فيها، ولكنه كان ينزل منها ويتمشى على ضفة النهر المقابل. ويقف بين حين وآخر وينظر مليا في اتجاه المنزل.
شعر الدكتور خالد أن هناك أمرا مريبا وراء هذه السيارة، فأخبر والده. وظل كلما رآها سارع بإخطار أبيه. يقول: لم يشأ والدي أن يبين لي أي خوف أو ارتباك. قال لي إنه يعلم بأمرها وبأمر الرجل الغامض الذي يراقب بيتنا.
بعض الأوراق والشهادات الخاصة بالعميد خيرت، التي تركها قبل وفاته، وحصلت «الشرق الأوسط» على نسخ منها، تقول إنه رجل رصين ورابط الجأش. حاز على أول دكتوراه في الهندسة الميكانيكية من الكلية الفنية وجامعة القاهرة في تطوير المشروعات الاستراتيجية، وأنه كان الأول على البحوث العلمية بالقوات المسلحة.
يتطرق جانب من أوراقه أيضا إلى فترة عمله التي سبقت تأسيس الشركة المزيفة في أوروبا، وتقول إنه كان يعمل «منسق اللجان المصرية الأوروبية والأميركية والآسيوية في المشروعات الاستراتيجية في الفترة من 1981 إلى 1984»، لكنها تشير كذلك إلى أنه كان يشغل موقع «مدير المشروعات الاستراتيجية المصرية في فرنسا والنمسا ومع البلاد الأوروبية والأميركية من عام 1984 إلى 1988»، وهذه الفترة الأخيرة هي التي كان يدير فيها الشبكة المشار إليها.
لكن هناك ملاحظة مهمة يشير إليها أحد المصادر الأمنية.. فعلى غير المعتاد بالنسبة لرجال الجيش، في ذلك الوقت، أن يكشفوا عما يقومون به على الملأ، أو أن تحتفي بهم المؤسسات والصحف المحلية. هذا حدث مع العميد خيرت حين كان ضابطا صغيرا، أي قبل تأسيس شبكته في أوروبا، حيث كان سبب الحفاوة، كما ورد في صحيفة الأهرام يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) عام 1982 «قيامه وزملائه بتقديم ابتكارات عالمية تطور من المعدات والأسلحة وتوفر على الدولة مئات الملايين من الجنيهات». وجرى نشر صور له في ذلك الوقت في الصحف، وهو أمر يعتقد، وفقا للمصدر الأمني نفسه، أنه تسبب بعد ذلك، ودون قصد، في تسهيل مراقبته من جانب أجهزة استخبارات أجنبية، حين انتقل إلى أوروبا، وقيامها بتتبع تنقلاته ما ساهم في انكشاف أمر الشركة.
وكما يقول المصدر: النشر في الصحف بتلك الطريقة، في ذلك الوقت، كان يهدف لرفع معنويات الأجيال الجديدة في الجيش بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) وأثناء سباق التسلح بين الشرق والغرب. لكن بكل بساطة، وحيث إنه انتقل لتنفيذ مهمة بمثل هذه الحساسية في الخارج، فقد كان يمكن لأي جهاز مخابرات صغير أن يسأل نفسه ماذا يفعل رجل بمثل هذه القدرات التقنية في صناعة الأسلحة داخل أوروبا.
في سالزبورغ، كما يتذكر الدكتور خالد، بدأ الشعور يتزايد بوجود من يتتبع الشبكة.. «أحيانا حين أقف في شرفة الفيلا أرى شخصا يقف في الشارع المقابل قرب النهر الموجود أمام الفيلا.. نفس الشخص». ويضيف: «كان مقررا أن نذهب كلنا كأسرة إلى فيينا لقضاء الإجازة الصيفية هناك. لكن قبل السفر رأيت مجددا ذلك الشخص الغريب يقف عند النهر حينا ويتمشى في مواجهة الفيلا حينا آخر. الرجل من بعيد لم يكن يظهر واضحا ولم أكن أتبين ملامحه، لأنه كان يحرص على أن يكون عند النهر دون أن يقترب، خاصة أن الفيلا كانت وحدها على الجبل، ولم يكن حولها جيران.. أخبرت والدي بالأمر مرة أخرى. فقال لي لا تشغل بالك وفهمت أنه كان يطمئنني. ثم سافرنا إلى فيينا».
ما حدث بعد ذلك سار كالتالي. أولا سافر العميد خيرت وابنه خالد وابنته داليا إلى فندق «هيلتون فيينا»، وكان معهم أيضا المصريون الذين يعملون في فرع الشبكة في النمسا. لكن كان على خالد أن يعود إلى سالزبورغ من أجل استكمال متابعة علاج أسنانه عند الطبيب. وتقرر أن يسافر معه أحد زملاء والده، واسمه الدكتور رمزي (توفي في وقت لاحق).
وبعد أن وصلا إلى الفيلا، اتصل به والده فأخبره خالد بأن الرجل الغريب الذي يراقب المنزل ما زال موجودا في مكانه، فطلب من ابنه ومن الدكتور رمزي الذي كانت معه المفاتيح، الدخول إلى مكتبه.. «قال ستجدون أوراقا وأخذ يتابع معنا، عبر الهاتف، ما هي الأوراق التي يجب أن نفرمها في مفرمة الورق الموجودة في المكتب وما هي الأوراق التي نحتفظ بها ونأتي بها له في فيينا». و«قال لي اتركوا سيارتي (ماركة أودي) واقفة أمام الفيلا في الخارج ولا تدخلوها للجراج، واتركوا أنوار البيت مضاءة، حتى يبدو كأن أهل البيت موجودون، وأنهم في مشوار قصير وسيعودون».
«الدكتور رمزي فتح الأبواب ودخلنا وأضأنا الأنوار. كان والدي يتابع معنا على الهاتف الأرضي الموجود في المكتب. كان الاتصال من مكان إقامته في فندق هيلتون فيينا. يقول لنا هذا الورق افرموه وهذا الورق هاتوه معكم. الورق كان في أكثر من مكان. كان هناك ورق على المكتب وورق في الأدراج. ولا أذكر أنواع هذه الأوراق التي تخص عمله. عددها لم يكن كبيرا جدا. كانت عدة مئات من الصفحات. كان التعامل وقتها بالفاكسات.. وكان بعض الورق رسائل بالفاكس».
مكتب والدي المنزلي في فيلا سالزبورغ كان واسعا. نحو 8 أمتار في 5 أمتار. كان لونه بنيا وفيه أرائك من الجلد، وهناك مكتبة صغيرة فيها ملفات. وإضاءة المكتب كانت معتدلة وهي الإضاءة التي يحب أن يعمل فيها. فهو شغوف بالقراءة والاطلاع أيضا. وفي الأوقات التي يحب فيها أن يروح عن نفسه لتخفيف وطأة العمل، كان يستمع إلى عبد الحليم حافظ. وفي أوروبا كان يشاهد ما يصلنا من شرائط فيديو عليها برامج وأفلام نجيب الريحاني التي يفضلها.
كان من الطبيعي دخول مكتب والدي خلال سفري له من مصر في الإجازات الصيفية. أعلم أنه يتعامل مع الأسلحة لأنه في الجيش. أنا أرى الورق أمامه وأدرك أنه ورق مهم، لكن لا يعنيني أن أعرف ماذا فيه. أحيانا يرسلني مع السائق لآتي ببعض الأوراق من المكتب أو من البيت. ويعطيني المفتاح وأنا أعرف أن هذا الورق ممنوع أن يطلع عليه أحد. كما آخذها أعيدها. سالزبورغ كانت بلدة صغيرة والمسافة بين المكتب والفيلا لا تستغرق إلا نحو عشر دقائق بالسيارة.
وعن الطريقة التي تلقى بها والده خبر القبض على الدكتور حلمي في أميركا، يقول الدكتور خالد: كان ذلك بعد أن رجعت من مهمة فرم الأوراق في سالزبورغ إلى فيينا بيوم أو يومين.. أتذكر كنا وقتها ليلا في الفندق نفسه، وحدث اضطراب مفاجئ لكن أبي كان متماسكا. قال بهدوء: «هيا لا بد أن نعود للقاهرة».. كنت أنا وأختي في غرفتنا، وقال: أحضرا حقائبكما سريعا لأننا سنعود إلى مصر الآن. كنا في الغرفة بينما كان باقي طاقم العاملين الذين مع أبي يتجولون في فيينا. كانوا في إجازة مثلنا.. يتسوقون ويتمشون. ولم يكونوا في الفندق. ولذلك لا أعتقد أنه كان لديهم الخبر نفسه الخاص بانكشاف الشبكة في ذات التوقيت.
المهم قال أبي سنسافر في طائرة الليل التي تنطلق من فيينا إلى القاهرة. لا أذكر بالضبط إن كانت الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلا. لم نسأل عن السبب، لكن ونحن في الطائرة في طريقنا إلى مصر عرفنا أن هناك أمرا ما. كل أصحابه الذين كانوا يتجولون في فيينا عادوا معنا على نفس الطائرة بأسرهم وجمعوا معهم سريعا كل ما هو ضروري. ولا أتذكر بالتفصيل كيف جرى تدبير تذاكر السفر أو الصعود إلى الطائرة. لم يكن هناك حجز مسبق بل جرى الحجز من المطار نفسه. الأوامر كانت أن يعود الجميع في أسرع وقت. وأعتقد أن المعلومات عن القبض على عبد القادر حلمي في تلك اللحظة لم يكن يعلم بها إلا عدد محدود إلا أن التداعيات كشفت بعد ذلك الكثير من التفاصيل المثيرة.
* بداية ونهاية عملية «الكربون الأسود»
* العملية المصرية المعروفة باسم «الكربون الأسود» هي شبكة معقدة كانت تسعى للاستفادة من تقنيات الصناعات العسكرية في الغرب وفي كثير من دول العالم الأخرى، بشكل سري. صاحب الفكرة هو الضابط في الجيش المصري حسام خيرت، المتخصص في عمليات البحوث وتطوير الأسلحة. في عام 1984 وافق المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، وزير الدفاع المصري في ذلك الوقت، على تنفيذ الفكرة.
كان المشروع يفتقر إلى التمويل، ولهذا سافر خيرت إلى بغداد لإقناع العراقيين بتخصيص أموال لهذا الغرض في مقابل الاستفادة منه، خصوصا أن العراق كان في حاجة إلى تطوير الأسلحة وزيادة مدى الصواريخ وقدرتها على التخفي من أجهزة الرادار بواسطة مادة «كاربون - كاربون».
بدأ العمل على هذا المشروع بقيادة الضابط خيرت، الذي كان وقتها يحمل رتبة عقيد. وسافر مع أربعة ضباط مصريين آخرين إلى أوروبا لتأسيس مكتب خلف ستار مكتب لشركة مدنية مختصة باستيراد المحركات التي تدخل في عمل مصانع البناء والأجهزة المنزلية. وزادت فروع الشركة في عدة دول، وزاد عدد العاملين المصريين على المشروع إلى نحو 20. وجرى تجنيد عملاء أجانب ونقل معدات وتقنيات إلى مصر والعراق.
وكان من بين المنخرطين في عمليات المشروع الدكتور المصري الذي يحمل الجنسية الأميركية، عبد القادر حلمي، الصديق القديم للعميد خيرت. وظل اسم حلمي مرتبطا بالقضية التي عرفت باسم «الكربون الأسود» عند انكشاف أمرها عام 1988، وذلك أثناء شحن صناديق غير مصرح بها، من أميركا لمصر.
وكان حلمي الوحيد من أصل مصري الذي جرى القبض عليه بالفعل في الولايات المتحدة، والحكم عليه بالسجن خمس سنوات، بينما تمكنت المخابرات المصرية من نقل باقي عناصر الشبكة من الأماكن التي كانوا فيها في أوروبا وأميركا وغيرها، وإعادتهم إلى البلاد سالمين.
وأصدرت المحاكم الأميركية أحكاما غيابية على خيرت ومجموعته بلغ مجموعها 101 سنة، لكن القاهرة تمكنت بعد ذلك بنحو عام من إسقاط هذه التهم عن المجموعة، مقابل تسليمها عناصر من المخابرات الأميركية كان قد جرى القبض عليهم في قضية تجسس داخل مصر. ولم تشمل الصفقة الدكتور حلمي لأنه يحمل الجنسية الأميركية.
وتسببت القضية في أزمة دبلوماسية وقتها بين القاهرة وواشنطن. وجرى بعد ذلك إغلاق الشركة. وتوقف المشروع برمته عن العمل. وأقيل أبو غزالة من منصبه الوزاري، وأحيلت غالبية أسماء المصريين التي تم الكشف عنها في القضية إلى التقاعد.